Sunday 27th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 13 ربيع الاول


سيرة جديدة موجزة لحياة بروست
استعادة الزمن الضائع
رضا الظاهر

يقدم ادموند وايت، المؤلف الأمريكي لثلاثة عشر كتابا بينها سيرة حياة جان جينيه سلسلة جديدة من سير مواضيع كبيرة لكتاب كبار , وموضوع وايت هو الفرنسي مارسيل بروست الذي يتجدد الاهتمام بدراسة أعماله في الوقت الحالي, وتنضم الى وايت، في السنة الحالية الناقدة البريطانية المعروفة إدنا أوبريان لتكتب عن جيمس جويس، وبيتر غاي ليكتب عن موزارت، وجوناثان سبنس ليكتب عن ماوتسي تونغ، فضلا عن آخرين يتناولون سير حياة شخصيات مهمة بينها مارتن لوثر كينغ ومارلون براندو, ونشأت فكرة هذه السلسلة من سيرة الحياة لتكون بديلا عن تلك المجلدات الكبيرة التي تهيمن على الشكل الذي تتخذه السير, وهي موجهة الى القراء الذين لا وقت لديهم، لكنهم يريدون كتبا ابداعية لا تستغرق قراءتها أسابيع وربما شهورا.
إنه لخيار غريب ان تبدأ هذه السلسلة ببروست الذي تستغرق قراءة رواياته المرتبطة بالسيرة الذاتية أشهرا عدة, فبروست الذي يمكن تقييم تطوره عبر روايته الطويلة جدا البحث عن الزمن الضائع يبدو موضوعا غير ملائم لكتاب صغير، غير انه يبقى مهما دائما، لأولئك المدمنين على قراءة الرواية والمطلعين على شخصياتها, وسيبقى مهما على الدوام بالنسبة للكتاب والروائيين خصوصا، لأنه يقدم لهم موضوعات مهمة بشأن تطور الكاتب.
إن البحث عن الزمن الضائع بانوراما هائلة عن المجتمع وتحليل رائع لنفسية الفنان، مستمد من الذكريات غير الإرادية التي تظهر فيها الأحداث المليئة بالخبرة لحياة بروست القصيرة زمنيا، وهي الأحداث التي يجري تذكرها بصورة لا نهائية.
وكما قال والتر بنجامين في مقالته صورة بروست فإن الحدث الذي يجري تذكره هو مفتاح كل شيء حدث قبله وبعده , إن فعل التذكر هو موضوع أعمال بروست, وفي استحضار ذكريات ماضيه، وعزل نفسه في غرفته ذات الجدران الفلينية، كان بروست قادرا على العمل ضد ما سماه النقص العضال في جوهر اللحظة الحاضرة .
ومع ذلك فإن كتاب السيرة ركزوا على الطريقة التي جسد بها بروست حياته في فنه, وقد اشتهرت اعمال عديدة عن سيرة حياته، بينها كتاب جورج دي بينتر المنشور بجزءين، وكتاب اندريه موروا في النصف الأول من القرن العشرين، وهما يقدمان دراسة اجتماعية تاريخية جذابة لفرنسا في بداية هذا القرن، ومكتوبان بأسلوب أدبي جذاب، وتعاطف وفهم عميقين لإنجازات تلك الفترة.
وبما انه توفر لدى إدموند وايت الكثير من الكتابات عن بروست، فإنه يتمتع بالحرية في تمحيص وتدقيق الأحداث المهمة في حياة الروائي الفرنسي, ونجد موقف وايت واضحا بشأن الانقسامات التي أحدثتها قضية دريغوس، ورفض بروست الانتماء الى أي مجموعة سياسية, وفي موضع آخر يظهر تحليله لتأثير روسكين على مارسيل الشاب، وروايته عن المعارضات الأدبية لبروست، فهما عميقا لتطور اسلوب بروست وكيف أصبح أعظم روائي في القرن الجديد , وهو يقارن ايضا، بين طريقة بروست في خلق الشخصيات، وطريقة تشارلز ديكنز وهنري جيمس, فشخصيات جيمس تتميز بالظلال والعمق وهو ما يقدم توليفة تدريجية من الصور عبر الزمن ، أما صور ديكنز الجريئة فتقدم بورتريهات موجزة ملهمة.
وشأن الراوية في البحث عن الزمن الضائع كان بروست صبيا يتوق الى قبلة أمه عندما يتوجه الى النوم، وشخصا أنشأ وطور علاقات غنية مع المحيطين به، حتى اصبح قادرا على تحديد المسافة بينه وبين أصدقائه، وتصويرهم، بدون رقابة، بكل اندماجهم في تميزهم وابتذالهم، وخيرهم وشرهم.
ومع ذلك فإن خلفيته تجسد بساطة الريف، وحب الأم والجدة، والاكتفاء الذاتي العائلي, ويتحرك بروست، شأن راويته، بين هذه العوالم، واذ تتواصل حياته يشعر بالفقدان الذي يشمل المجتمع, وعند نهاية الرواية، حيث يومض الانهيار، بل الموقت نفسه، يمكن رؤية البانوراما بأسرها على ما هي عليه، أي الشرط الانساني المختبىء على نمو ساحر.
وكان هذا شيئا كرس بروست طاقته لفهمه على نحو صحيح، ونظرا الى هذا الفهم باعتباره مقدمة لتحقيق الذات.
إن العنصر الممتع والثمين في عالم بروست الروائي هو أنه ما من شخص يختفي، فالكل يومض عند مسافة معينة.
وحتى الموت في الرواية من الرعب بحيث لا يمكن نسيان هذا الحدث, وبتلك الطريقة يستمر ذلك العنصر على أن يكون جزءا من السرد، وعاملا آخر يسبق فيه البحث عن الزمن الضائع كل التعبيرات المحدودة، بحيث انه في نهاية الرواية عندما تجري استعادة الزمن يصبح الموت والحياة غير مميزين تقريبا, واذا كان المتطور ما يزال يبدو غير مميز، فإنه يفهم على أنه ساخر، وأولئك القراء الذين يعتبر هذا الأمر بالنسبة لهم محيرا أو غير مقنع يواجهون نصيحة النقاد بالعودة الى البداية وقراءة الرواية ثانية.
ويشير إدموند وايت في مقدمته القصيرة الجذابة لحياة بروست الى ان الروائي الفرنسي بعيد عن العالم الذي يأمل الدخول اليه بسبب حقائق حياته المعقدة، ولكن رغم أنه لا منتم، فإنه يتمتع بانتماء من نوع آخر، من خلال تقبله نزعة الخير العائلية، ورقته التي تجعل العالم الذي يعاق فيه توق المرء، غالبا، يبدو مكانا مهددا ومربكا.
إن ميزة بروست الأكثر جاذبية في هذا السياق هي تصويره للمحبة العائلية التي انطلق منها لمواجهة شخصيات أكثر تعقيدا من تلك التي عرفها في البيت, ومع ذلك فإن براعته سلمته بفهم عميق, واذ كان في الحياة مهووسا بالصداقات، فإنه كان قادرا على تقييم الصداقة في تحولاتها.
ان حكم هنري جيمس على الرواية بأنها ضجر لا يمكن تخيله مقترنا مع بهجة أكثر افراطا يمكن تخيلها ربما يكون حكما دقيقا في هذا الاطار, وقد نصح الناقد الحكيم روجر شاتوك بقراءة الرواية كسلسلة احداث مترابطة، في البداية على الأقل, ومع ذلك فان هناك المنتمين، وبينهم إدموند وايت، المطلعين جيدا على البحث عن الزمن الضائع ، التي جرى إنجازها عبر مغامرة شخصية هائلة، وفي اطار البهجة التي أدركها هنري جيمس، وكان ذلك شيئا مميزا.
لقد توفي بروست 1871- 1922 في عمر الحادية والخمسين، كما كان الحال مع بلزاك،وكلاهما خلق عالما عاش بعده، وذلك يؤسس، وربما يموه أحيانا، العلاقة بين أزمنتهم وأزمنتنا.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
تحقيق
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved