يتميز الانسان عن سائر المخلوقات الأخرى بما وهبه الله من العقل والادراك والفهم، اضافة الى ما يوجد في بدنه من تراكيب مختلفة لا نظير لها في المخلوقات الأخرى، وخصوصاً جهازه العصبي، الذي يتكون من المخ والبل العصبي (الشوكي، الظهري) والأعصاب المتصلة به.
والعقل هو الذي يميز الانسان عن غيره من سائر الحيوان، فما العقل يا ترى؟.
ان قضية معرفة وتحديد عقل الانسان قضية أزلية، فمنذ خلق الله البشر جلت قدرته على ارضه وقضية العقل وماهيته لا تزال غير محددة او معروفة حتى يومنا هذا، ومع هذا فقد ظهرت عدة آراء ونظريات واقوال عن ماهية العقل.
ورد في لسان العرب لابن منظور (1418ه - 1997م) عن العقل ما يلي:
العقل: الحِجر والنهى، والنهى ضد الحمق، والجمع عقول, قال ابن الانباري: رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير، اذا جمعت قوائمه، وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم اعتقل لسانه اذا حبس ومنع الكلام,, وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، اي يحبسه، وقيل: العقل هو التميز الذي يميز الانسان من سائر المخلوقات.
ويقول ابن الجوزي في كتابه الأذكياء: أما بعد: فإن أجل الأشياء موهبة العقل فإنه آلة في تحصيل معرفة الإله، وبه تضبط المصالح وتلحظ العواقب وتدرك الغوامض وتجمع الفضائل,, والعقلاء يتفاوتون في موهبة العقل ويتباينون في تحصل ما يثقفه من التجارب والعلم.
ويقول الأبشيهي (1411ه - 1991م): قال أهل المعرفة والعلم: العقل جوهر مضيء خلقه الله عز وجل في الدماغ وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.
وينقسم العقل الى قسمين: الأول: هو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء، وهو لا يقبل الزيادة والنقصان، والآخر: هو العقل التجريبي، وهو مكتسب، وتحصل زيادة بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذا يقال: إن الشيخ اكمل عقلاً وأتم دراية، وأن صاحب التجارب أكثر فهماً وأرجح معرفة، ولهذا قيل: من بيضت الحوادث لمته، وأخلقت التجارب لباس حدته وأراه الله تعالى لكثرة ممارسته تصاريف أقداره وأقضيته كان جديراً برزانة العقل ورحابة الدراية.
وورد في كتاب ]سرح العيون[ لابن نباتة المصري (1406ه - 1986م):
أن العقل هو المعرفة المستعملة في تحري النفع، وتجنب الضرر, ولأهل اللغة والمتكلمين في اشتقاقه ومعناه أقوال كثيرة، قيل: اشتق من عقل الناقة اذا شد وظيفيها مع ذراعيها بحبل يمنعها من الشرود فكأنه يمنع الانسان مما يميل اليه من الهوى، ومن عقل الناقة سميت الدية عقلاً لأنها تعقل بفناء المقتول، أو لأنها تحبس الدم, وقيل اشتق من المعقل، وهو الملجأ، يقال: عقل الوعل، اذا التجأ الى الجبل الذي يمنعه (يحميه) فكأن الانسان يلتجىء اليه في احواله.
وقال الجاحظ: العقل اسم يقع على المعرفة بالصواب والخطأ، وإيثاره اذا اقترنا في زمان، وكان العلم علة للعمل وقيداً له، فإذا دعا الرجل علمه بالمحاسن الى العمل بها، ونهاه علمه بالمساوىء عن العمل صار قيداً لعلمه، وكان كالعقال لما استحسنه، فاذا عقله عليه وحبسه كما يحبس الجمل قالوا: هذا عاقل, وقال الراغب: العقل يقال للقوى المهيئة للعلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الانسان بتلك القوى عقل، ولهذا قال امير المؤمنين علي كرم الله وجهه:
رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مطبوع اذا لم يكن مسموع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع |
والى الأول اشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما خلق الله خلقاً اكرم عليه من العقل).
والى الآخر اشار بقوله: (ما كسب احد شيئاً أفضل من عقل يهديه الى هدى او يرده عن ردي).
ويقول ابن نباتة ايضاً: وقال بعض الحكماء: العقل: هو جوهر بسيط, وقال آخرون: هو جسم شفاف ومحله الدماغ, وقال الجاحظ (أيضاً): هو مادة تتولد من الأغذية المقوية للعصب, أما ابن الجوزي فيقول (أيضاً) في كتابه للأذكياء: أختلف في تعريف العقل على أقوال عدة أهمها: انه جوهر مجرد من المادة في ذاته مقارب لها في فعله, وقيل جوهر روحاني خلقه الله سبحانه وتعالى متعلقاً ببدن الانسان، وقيل: هو نور في القلب يعرف الحق والباطل، وقيل: جوهر مجرد من المادة متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف, وقيل: هو قوة للنفس الناطقة، وهو صريح بأن القوة العاقلة أمر مغاير للنفس الناطقة، وان الفاعل في الحقيق هو النفس والعقل آلة لها بمنزلة السكين الى القاطع, وقيل: العقل والنفس والذهن واحد الا انها سميت عقلاً لكونها مدركة، وسميت نفساً لكونها منصرفة، وسميت ذهناً لكونها مستعدة للادراك، وقيل: العقل جوهر مجرد يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة، وهو مأخوذ من عقال البعير لأنه يمنع ذوي العقول من العدول عن سوء السبيل، وذكر ابن الجوزي (ايضاً): أنه روي عن الحارث المحاسبي انه قال: ان العقل نور, وقال آخرون: هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات, وقال قوم: هو نوع من العلوم الضرورية، وهو العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات, وقال احمد بن حنبل: العقل غريزة، ومثله عن الحارث المحاسبي وسأل أعرابي عن العقل فقال: لب اغتنمته بتجريب.
وورد في كتاب الجسم والعقل (1403ه - 1983م) ما يلي:
اعتقد الهندوس والصينيون القدماء ان الصفات البشرية المتصلة بالمسائل الروحية والمتعلقة بالشخصية والشعور والحس والعقل بأنها امور توجد بالدرجة الاولى في الصدر والبطن للانسان، وانها تستأثر بجانب من الجسد دون الجانب الآخر.
ولما كانت مثل هذه الصفات طيارة في نظرهم كالبخار، فقد اعتقدوا انها تدخل الجسم عن طريق الفم والفتحات الهوائية على اغلب الظن، وانها عند الموت تترك الجسم من قمة الرأس، وكانت هذه المفاهيم سائدة عند الاغريق والمسيحية في اوائل ايامها, اما جالينوس (130 - 201م) فقد اشار الى ان العقل هو موطن الحس والفكر، وان الهواء النفسي او المادة الروحية موجودة في شبكة من الأوعية الدموية في قاعدة الدماغ, كما افترض ان السائل المائي الذي تحتوي عليه الحجر الكبيرة الحجم التي تتخلل اجزاء الدماغ هو الذي ينقل المادة الروحية الى الحبل الشوكي، ومنه عن طريق الاعصاب الى الجسم عامة.
ويقول أبو غوش (1963م): ان مشكلة العقل والبدن، او الروح والمادة مشكلة قديمة قدم الفلسفة، طرقها فلاسفة عرب وفلاسفة غربيون, وقد وضع الفيلسوف الغربي ديكارت مثلاً حداً فاصلاً بين العقل والبدن، فكل جهاز مستقل بعملياته، الا انهما متقاربان، فما يحدث في احد الجهازين يحدث في الجهاز الآخر.
ويأتينا الفيلسوف الهولندي سبينوزا بنظرية المظهرين تلك التي تبناها كثير من علماء النفس، فلحل مشكلة العقل والبدن، أو الروح والمادة كان سبينوزا ينادي بوجود حقيقة واحدة ذات مظهرين، مظهر روحي، ومظهر مادي، اي انهما شيء واحد له مظهران، ويقول راسل الفيلسوف الانجليزي بما يشبه ذلك في كتابه تحليل العقل : بأن العنصر الأساسي للمادة والعقل هو ما يسميه بالوحدة المحايدة تتشكل بشكل ما فنسميها مادة وتتشكل بشكل آخر فنسميها عقلاً.
ويقول أبو غوش أيضاً: إن علماء النفس يتجنبون الى حد كبير الخوض في بحوث فلسفة العقل ويهتمون بما يسمونه علم العقل ويقصرون بحوثهم على الظواهر العقلية ليستنتجوا منها قوانين علمية للسلوك العقلي, ومما لا شك فيه ان هناك صلة ما، بين ما يحدث لبدن الانسان وبين ما يحدث لعقله، ولا يوجد مرض عقلي دون خلل في الاعصاب, وهناك مناشط عقلية تصاحب دوماً المناشط البدنية، فالنشاط العقلي حقيقة، كما ان النشاط البدني حقيقة.
وورد في الموسوعة الأمريكية (1985م): انه يوجد عند علماء النفس وجهات نظر عديدة عن طبيعة العقل، وهذه الوجهات مختلفة عن بعضها البعض, وتقول النظريات القديمة: ان الانسان مكون من مادتين مختلفتين هما العقل والمادة، فالمادة هي الشيء الذي يمكن رؤيته والشعور بها فهي تحتل مكانة ولها وزن اما العقل فهو المادة الموجودة في الانسان، ولكنها لا تحتل حيزاً ولا يمكن وزنها او رؤيتها او لمسها، وقد قسم العقل الى عدة قدرات مختلفة مثل الرغبة والسبب والذاكرة, ويعتقد بعض علماء النفس وبعض الفلاسفة ان العقل يشبه العضلات بحيث انه ينمو عبر التمرين، ولهذا يعتقدون ان الوسيلة لتقوية العقل هي اتاحة الفرصة للقدرات بأن تعمل, ويعتقد بعض علماء النفس وبعض الفلاسفة ان العقل هو عبارة عن مجموعات من حالات الفرد الشعورية، وهذا الاعتقاد يعني بأن العقل وببساطة هو كتلة الاعتقادات والذاكرة والشعور والعواطف.
واعتبر بعض الفلاسفة أن كلاً من الروح والنفس والعقل جوهر مستقل عن الآخر، بينما اعتبر بعضهم ان جميعها جوهر واحد، كما يرى آخرون ان النفس والروح كلمتان مترادفتان لكائن واحد، ويستدلون على ذلك بالآية الكريمة (الله يتوفى الأنفس حين موتها)، والأنفس هنا جمع نفس ويفسرونها بالروح, ويقولون ايضاً: بأن تكوين الكلمتين دال بذاته على ألا فرق بينهما، فالنفس من النفس والروح من الريح، والنفس من الريح كلاهما يشيران الى الهواء الذي يأخذه الكائن شهيقاً ويخرجه زفيرا.
وقد قال افلاطون: ان النفس جوهر محرك للبدن.
أما بعض علماء المسلمين المعاصرين الذين ألفوا في علم النفس الحديث فانهم لا يفرقون بين النفس والروح أيضاً, ويضيف جادو قائلاً ايضاً: وينتهي بعض المفكرين بتعريف الروح بثلاثة تعريفات، حسب ما تؤديه من الوظائف في هذا الوجود، فبحسب كونها اصل الحياة والحركة والنطق ومصدر الشعور لجميع الحواس فهي الروح وبحسب كونها مصدر الارادة في الانسان ومحل اكتساب الأخلاق والأفعال واصدارها فهي النفس وبحسب كونها مصدر التعقل والتفكير والتدبير واكتساب العلوم والتجارب وغير ذلك فهي العقل .
وقد بدأ علماء النفس منذ عام 1800م محاولة تجربة بعض الأفكار السابقة عن طبيعة العقل وضربوا مثلاً بشخص وضع لنفسه هدفاً لتذكر اجزاء دقيقة من حادثة مزعجة مرت عليه ولفترة معينة، وبحساب كم من الزمن اخذه هذا الشخص بالتفكير في كل مرة يحاول بها ذلك؟ وعلى ضوء هذه التجربة وصلوا الى نتيجة هي ان مثل هذا الشخص يمكن ان يتذكر ويتذكر بدون ان يحدث تطوراً على ذاكرته بأية طريقة كانت.
وبدأ علماء نفس آخرون يتساءلون كيف حدث ذلك؟ اذا كان العقل والمادة مادتين منفصلتين عن بعضهما البعض، حيث لوحظ أن استخدام المخدرات او المرض او انتفاخ الرأس لأي سبب من الأسباب يمكنها ان تسبب خللاً كبيراً في عقل الانسان, اضافة لذلك فقد تساءل وتعجب بعض علماء النفس لماذا يظهر فشل العقل عندما يتقدم الانسان في العمر؟ وذهب علماء نفس آخرون بعيداً ليقترحوا بأنه من الممكن تفسير كل شيء يقوم به الانسان على اساس المادة (الجسم) بدون استخدام الافكار كالعقل والادراك، ويعتقد هؤلاء العلماء ان الحركات الحقيقية الطبيعية للمخ والجهاز العصبي يمكن الاعتماد عليها في حدوث جميع الحوادث, وتقول وجهة نظر اخرى، وهي حديثة: ان العقل ربما يكون مشابهاً للمادة في انه ذلك الشيء الذي حدث فقط ولكنه لا يعرف بشيء منفصل، فمثلاً كل انسان يعرف ان الماء رطب ولكن ذرات الهيدروجين والاكسجين التي تشكل الماء )H2O( ليست رطبة ولا حتى الطاقة التي تربطها مع بعضها البعض ليتكون الماء، واضافوا بانه يمكن القول: ان الرطوبة هي نوعية جاءت الى الوجود عندما نظمت شحنات الطاقة في شكل ذرات هيدروجين واكسجين وجمعت مع بعضها لتعطينا الماء, فاذا ما تكسر الماء الى اجزائه فان الرطوبة تذهب (تنعدم) وكذلك الماء نفسه.
وعلى هذا الأساس اعتبر العقل بأنه النوعية التي تأتي الى الوجود (كينونة شخصية) عندما يتفاعل الانسان مع العالم المحيط به، وعلى هذا فإن العقل يشبه الرطوبة فهو شيء يأتي الى الوجود عندما تصل الكائنات الحية الى مستوى معين من التعقيد في نموها.
وتقول نظرية نفسية اخرى ان العقل هو الأساس ومصدر الاحساس والتفكير والرغبات، وهذا الاساس يختلف عن الأعمال التي تنتج عنه، فالعقل هو المصدر الجوهري (الأساسي) للاحساسات والتخيلات والاعتقادات وغيرها, وما الأفكار الا النشاطات العقلية، اما الروح فلها مفهوم أوسع عند اصحاب هذه النظرية، فهي المصدر لكل من النشاطات العقلية والحياتية مثل المشي والتنفس,, الخ.
ويعتقد العلماء ان الفصل الفعلي او العملي بين العقل والجسم مستحيل، فالعقل يستطيع تحريك الجسم مثلاً عندما يريد الانسان ثني عضلاته، ومن هنا فإن اي تفاعل انساني غالباً ما يحتاج الى كل من الجانب العقلي والجسدي, فالانسان يبتسم بسرور ويقطب عند الغضب او يرتجف عند الخوف, ويقول الأطباء:
ان حالات العقل (الحالات العقلية) يمكن ان ينتج عنها امراض مثل مرض القلب وقرحة المعدة ومشاكل الكلى وامراض اخرى.
ويؤثر الجسم ايضا على العقل، فالانسان يستطيع ان يلاحظ بنفسه الفرق بين حالته الذهنية (العقلية) او عندما يكون جائعاً او شبعان حتى التخمة أو في حالة البرودة او الحرارة او عندما يكون بصحة جيدة او مريضاً.
يقول هوايت (1979م) (طبيب ودكتور فلسفة جراحة الأعصاب): هناك عدد من العلماء والباحثين يبدو انهم يفقدون ايمانهم بالله مع زيادة معارفهم.
اما انا فقد كان وضعي على نقيض ذلك في تجاربي وخبراتي مع مرضاي، وفي بحوث الأعصاب التي اجريها لاكتشاف اسرار الدماغ, وكانت ان ازدادت الرهبة التي تتملكني ازاء هذا العضو الخطير, ولم يبق لي سوى الاقرار بوجود عقل اعلى بالغ السمو هو المسؤول عن تصميم تلك العلاقة الخارقة بين الدماغ (المخ) والعقل وانمائها التي لا يحدها ادراك الانسان.
ويضيف هوايت قائلاً: لنفكر قليلاً في هذا العضو العجيب الذي هو دماغ الانسان, إن اي دماغ الكتروني يصممه الانسان مهما بلغ من الدقة والحنكة لن يضاهي في دقته وفعاليته وادائه هذه الكتلة الهلامية النسيجية التي لا يتجاوز وزنها 1400 غرام, ولئن بدا أن اي دماغ لا يختلف عن اي دماغ آخر لتشابهها جميعاً في تلك التضاريس الحافلة بالتلال الصغيرة والأودية الضيقة التي تتشابك فوقها المجاري الحمراء والزرقاء (الشرايين والأوردة)، غير ان هناك مكاناً غير محدد في كل دماغ بعينه تكمن فيه الصفات والمزايا التي تجعل كل شخص منا فريداً متفرداً، فالدماغ مركز العقل الذي هو جوهرنا ومع ذلك فما زال العلم لا يعرف الا اقل القليل عن تلك الرابطة بين الدماغ والعقل - تلك العلاقة بين الوعاء وما يحويه.
ويقول مرحبا (1982م): اما من حيث الدماغ فان جميع الأجناس البشرية تستوي في ان لها دماغاً مكيفاً تكيفاً جيداً للعمل فجميعها قد نضجت نضوجاً تاماً لدى جميع الأجناس البشرية بلا استثناء، فنمت نمواً كبيراً وتنوعت فيها المراكز التي تسيطرعلى كل اصبع على حدة، فالأجناس انما هي في حقيقة أمرها نتيجة افاعيل وعوامل وظروف جغرافية ومناخية طرأت على التركيب الفيزيائي للانسان وظلت تتفاعل طوال عصر ما قبل التاريخ وعن هذا التفاعل نشأت الأجناس الثلاثة الكبرى، الجنس المغولي (الأصفر) والجنس الأوروبي (الأبيض) والجنس الزنجي (الأسود) فلا صحة اذن للقول بأن الوضع العقلي تابع للجنس الذي ينتمي اليه.
ويضيف مرحبا قائلاً: ليس التكوين الجسمي هو المسؤول عن الترقي الفكري انما المسؤول عن ذلك ما يرافق هذا التكوين من اعداد وتربية، وما يتجمع له من تجارب وخبرات، وما يشغله من مبادىء ومثل وغايات، وما يراوده من آمال واحلام وتطلعات وما يتخذه من مواقف، او يضطلع به من التزامات وتبعات وما ينشئه مع الأفراد والجماعات والأشياء في روابط وعلاقات وما يتحلى به من قدرات ومواهب تمكنه من فهم العالم والسيطرة عليه وقهره وتغيره, والأفكار لا تورث انما هي امور اكتسابية صرفة فلا ينتقل من الآباء الى الأبناء وذرياتهم الا ما حصلوه بانفسهم بالكسب والتربية والتعلم, وبمعنى ما يمكننا ان نقول: ان هناك نوعين من الوراثة: وراثة بيولوجية ووراثة اجتماعية, الأولى: تنتقل من الوالد الى ولده من بعده انتقالاً آلياً مباشراً لا يتطلب من الطرفين أي جهد واع، وأما الأخرى فلا بد فيها من الجهد العقلي المستمر وتركيز الوعي والانتباه ولا يكون ذلك الا بالتربية والتعليم والاقتباس والتحصيل,, وان اعتماد الانسان في سلوكه على الاكتساب والتعلم هو سر تفوقه على سائر المخلوقات، وتمكنه من السيطرة على هذا العالم وما فيه من قوى تؤثر فيه وتتأثر به.
ويقول مرحبا أيضاً: الفكر الانساني شديد التنوع كثير التشعب بالغ التعقيد متعدد الجهات والألوان، لكنه مهما تعددت شعابه، واختلفت اتجاهاته وتباينت طرقه ومسالكه، فانه في الجنس الابيض هو في الجنس الأصفر هو نفسه في الجنس الأسود, انه يصدر عن حوض واحد ويسقى بماء واحد, ان العقل الانساني واحد لدى جميع الأجناس والأقوام والشعوب فالكل يشتركون فيه على حد سواء, ان التفكير والذكاء هما عنوان تفوق الانسان على الطبيعة الجامدة، وهما مبرر وجوده, ان التفوق العقلي الذي يتمتع به بعض الافراد ثروة لا تقدر بثمن - الفرصة بيئة وحضارة، حتى ان الاخوة الأشقاء بل التوائم الذين هم نسخ متماثلة في الاستعدادات الوراثية الواحدة قد يختلفون اذا اختلفت البيئات التي يعيشون فيها, الأبدان هي الأبدان في كل زمان ومكان، ولكنها الأفكار تفرق بين الأبدان- الابدان مطايا الأفكار، وما قيمة الأبدان بلا افكار ولو اعجبك حسن الأبدان.
يقول الجوزي في كتابه الأذكياء: عرف الشريف الجرجاني الذهن بقوله الذهن قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة معدة لاكتساب العلوم, والفهم: هو تصور المعنى من لفظ المخاطب، وحد الذهن هو قوة النفس المهيأة المستعدة لاكتساب الآراء، وحد الفهم جودة تتهيأ لهذه القوة، وحد الذكاء جودة حدس من هذه القوة تقع في زمان قصير غير مهمل، فيعلم الذكي معنى القول عند سماعه, وبهذا حدوا الفهم فانهم قالوا: حد الفهم العلم بمعنى القول عند سماعه, وقال بعضهم: حد الذكاء سرعة الفهم وحدته, والبلاهة جمود الفهم وقال الزجاج: الذكاء في اللغة تمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم وهو ان يكون فهماً تاماً سريع القبول، وذكيت النار: اتممت اشعالها.
وورد في الموسوعة الأمريكية: يختلف الناس فيما بينهم في السرعة التي يتعلمون بها الأشياء، وكيف والى متى يتذكرونها؟ اضافة لذلك فهم يختلفون في قدراتهم على فهم الأفكار وكيفية استخدام معلوماتهم لحل مشكلة ما او تعلم شيء ما ولا يوجد تعريف عالمي لمصطلح الذكاء ولكن يعتبر الشخص ذكياً اذا كان يمتلك القدرات السابقة مع العلم ان مثل هذه القدرات هي نسبية نوعا ما، بحيث ان شخصاً ما يكون ذا قدرات عالية في بعض الجوانب، وقدرات اقل في جوانب اخرى.
ويعتقد ان الذكاء يعتمد على عوامل وراثية اضافة الى العوامل المحيطة بالشخص، فكل انسان يولد لديه قدرات عقلية يؤدي دوراً في نصيبه من الذكاء مستقبلاً عندما يصل الى مرحلة البلوغ، وتطور هذه القدرات العقلية تتأثر بخلفيته فالحالة الاجتماعية والبيئية والتغذية وغيرها تؤدي دوراً ايضا في تنمية هذه القدرات.
اما التفكير وتكوين رأي معين فهي تشير كيف يقوم الشخص باستخدام تجاربه السابقة ليتعامل مع اوضاع آنية, ويتم التفكير بين ادراك المشكلة والاستجابة لها ولهذا عرفوا التفكير بأنه العملية الوسطية, ولا يمكن لعلماء النفس او غيرهم ملاحظة عملية التفكير هذه مباشرة، ولكن بعمل افتراضات بشأن هذه العملية وذلك بدراسة العلاقة بين المشكلة الحادثة والاستجابة لها, وقد قسم علماء النفس المؤثرات التي تؤثر على التفكير الى اربع مساحات واسعة هي: الذكاء والذاكرة والحالة المحيطة (الظروف المحيطة) والشخصية، فقدرات الشخص الذكائية هي التي تحدد مفهومه للمشكلة والطرق التي يستخدمها لحل هذه المشكلة، كما ان هذه القدرات تحدد ايضاً السرعة والدقة في حل المشكلة.
ويستخدم الانسان المعلومات المخزونة في ذاكرته من تجاربه السابقة للتعرف على المشكلة ليحصل على المعلومات المطلوبة لهذا الوضع, اضافة لذلك فتجارب الشخص السابقة تتحكم بفرز وتنظيم الاستجابة للمشكلة الجديدة, اما الظروف البيئية المحيطة فهي تحدد المهمة او الهدف والمتطلبات الأخرى التي يلزم على الشخص القيام بها كقوة كفاءته في التطبيق، فمثلاً حجم المشكلة من الصعوبة والتعقيد تحفز وتحرك الشخص وتدفعه للعمل وتضغط عليه لحل هذه المشكلة, اما دور الشخصية فهو ان العوامل الداخلية المعينة للشخص تؤثر على تفكيره، وهذه العوامل تتضمن حالته النفسية ودوافعه ومزاجه، وهذه تحدد كيفية قوة تأثره واثارته، بحيث يعمل بصورة جيدة وبدرجة من الحماس والخوف ليحل هذه المشكلة اضافة لما تقدم فقد يفكر الانسان تفكيراً واقعياً او تفكيراً خيالياً، فالتفكير الخيالي يتكون بصورة رئيسية بواسطة الشعور الداخلي والدوافع والمواقف، اما التفكير الواقعي فهو ان يوجه الشخص الى الأهداف الظاهرية في المحيط، بحيث يتعامل مع الوضع الحادث، ومن امثلة التفكير الواقعي التفكير المنطقي بالمشكلة وكيفية حلها واستخدام المفهوم لها.
المراجع
(1) الأبشيهي، الامام شهاب الدين بن محمد 1411ه - 1991م المستطرف في كل فن مستظرف مؤسسة عزيز الدين للطباعة والنشر.
(2) أبو غوش، سليمان 1963م.
ما هو العقل؟
مجلة العربي الكويتية العدد:57 - ص 49 - 51.
(3) مرحبا، عبد الرحمن 1982م.
أصالة الفكر العربي
منشورات عويدات.
(4) المصري، جمال الدين بن نباتة 1406ه - 1986م
سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون
تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم
منشورات المكتبة العصرية - بيروت - لبنان.
(5) سلسلة معارف الانسان 1403ه - 1983م
الجسم والعقل
اعداد المكتب العالمي للبحوث
منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
(6) The World Book eneyclopedia, 1985, world book lnc. A. Scott Fetzer Comp. Chicago, U.S.A.