هناك مشاعر تصبح شديدة الاحباط عندما تمر بموقف سخيف او ترى شخصاً يقوم بفعل هو حر فيه لكنك تتخذ موقفاً صارماً منه بسبب هذه المشاعر التي تتشكل داخل آلاف المراكز بالدماغ.
أذكر مرة قبل سنوات عندما كنت اوسوس بالمرض بشكل كان الذين يعرفونني فيه يقولون لي بوضوح عندما افتح (حنفية) أعراض الأمراض التي تبدأ من رأسي حتى ابهام رجلي: (تراك اذا استمررت هكذا ستجن جنوناً لم يجنه احد من قبل!), اقول: تلك المرة كنت لم انم طول الليل بانتظار دوام المستوصفات لانني كنت أرتب طول الليل طريقة عرض الشكوى بحيث ابدأ بالأعراض المتعلقة بالبطن, ثم انتقل بشكل مدروس ولا يوحي للطبيب بأي خلل في عرضي الموضوعي الى آلام الرأس المبرحة، والقلق الليلي، ولا بأس ان اعرج على اوضاع الجانب الايسر من الصدر، والحرقة، ونغزات الكلى! ودونت في ذاكرتي عشرات العروض وفاضلت بينها، وحذفت بعضها، واضفت اخرى طرأت عليّ فيما بعد, وعندما صارت التاسعة صباحاً (أي بدأ دوام المستوصفات الأهلية) ركبت مركبتي التي تبدو وكأنما هي مستخرجة من باطن الأرض لآلاف الخدوش والضربات والمصابيح المندلقة على الرفرف واتجهت الى المستوصف المنشود مبكراً كما يليق بمنقطع في هذه الدنيا للعلاج! تاركاً ما غيره للناس (الأصحاء) الذين تستطيع اجسامهم (يا حظهم!) اداء كل المهمات بجدارة وليسوا مثلي لا يستطيعون تحريك كرسي من مكانه خشية ان يزيد النبض وينفجر.
كنت اول (زبون) يدخل المستوصف, استفتحوا بي, طلبت طبيب (الأمراض الباطنية) استرحت كما أمرت الممرضة قليلاً على كنب مستهلك أسود.
ثم سرعان ما نادتني وسارت امامي باتجاه غرفة الطبيب الذي سأثبت له معرفتي بالأمراض، والأدوية، والأعراض الجانبية للعقاقير, يعني مريض جدير بدور (طبيب), فتحت الباب, اول منظر التقطته عيناي كان منظر علبة (الميرندا) ذات اللون البرتقالي المنقر! على طاولة الدكتور - وكان الوقت شتاء - منذ تلك اللحظة احسست ان من امامي ليس ب(طبيب)! هكذا! طبيب يشرب الميرندا الباردة السخيقة في هذا الصباح الشتائي؟! هل يعقل انه لا يعرف ان هذه الميرندا ما هي الا (مياه غازية) مع سكر وملونات؟! جلست حيث اشار اليّ ان اجلس, طارت كل مسودات (العرض الموضوعي الجامع المانع) التي كنت اعدها طول الليل, صمت, لم أنبس حتى بالتحية! طال عليه صمتي.
فقال بصوت اجش من النوم:
- ايه خير؟.
- قلت أدرب نفسي على الكلام:
- أبد, اعراض مختلفة!.
فقال بكل استرخاء:
- فين في بطنك؟.
قلت لأريه انني لم اعد اعامله ك(طبيب):
- ليس ضرورياً,.
أكمل وكأنني لم اقل شيئاً:
- بتحس ف حرقان في المعدة, من امتى؟.
قلت بصوت مرتفع نوعا ما يشي بالضيق من اسئلته:
- انا لم اتكلم عن بطني.
فابتسم ببلاهة وضحك كطفل:
- أمال فين؟ في الصدر؟!.
قمت واقفاً, وضعت يدي اليمنى على طاولته:
- الحقيقة أشكو عسر الهضم!.
- بسيطة, سأعطيك علاجاً (يضيعه) خالص!.
مشيت باتجاه الخارج خطوات, ثم توقفت, وقلت له:
- لا, صراحة انا عندي ضيق تنفس.
ضحك كطفل مرة اخرى:
- ازاي؟ يا راجل منت زي الحصان أهه.
وخرجت بلا كلمة واحدة وسمعته ينادي: (يا مريض اسمعني)! قلت: كملت.
صار اسمي (يا مريض) يا للخيبة! ما اضيع ليلة البارحة, يا خسارة العروض المنمقة والمتعالمة والتي اريد ان يعاملني ازاءها كمريض غير عادي.
خرجت الى الشارع مكسوراً خائباً امتلىء بشعور انه ليس (طبيباً)! والا فهل يتصور احدكم ان يكون افطار الطبيب المحترم (علبة ميرندا)؟! على الصبح وفي الشتاء؟, ومن يومها لم اذهب اليه مع انني لم ادع (طبيباً) في البلد إلا وزرته, صار بالنسبة إليّ مجرد (رجل) يحمل معه علبة (الميرندا) اينما حل, مثله مثل الاطفال الذين لا يعرفون مصلحتهم وين؟.
ايقنت لوحدي انه ليس (طبيباً).
ويقيني لوحده انه لم يكن له معنى (ايامها): الا انه الحقيقة!.
ثمة مشاعر صغيرة وبريئة ومخلصة تقول لك: هذا صح, وهذا غلط.
|