لشد مالفت انتباهي أثناء السفر والتنقل من دولة إلى دولة، أو من قارة إلى اخرى تعدد اللغات واختلافها وما يعكس ذلك من خلفيات ثقافية للشعوب.
وما ينطوي عليه من أبعاد تاريخية ومعرفية تحدد مكانتها في مجال التطور والرقي الحضاري.
ولكم يثير هذا التعدد والاختلاف في أذهاننا أفكاراً وخواطر تتعدى لغة بعينها من حيث منبتها وتطورها إلى علاقتها باللغات الأخرى وتأثر بعضها ببعض.
يقود مثل هذه الأفكار إلى الترجمة ودورها في المفهوم الحضاري وتأثيرها في الثقافة عامة، ودورها الوسيط بين الحضارات والشعوب، ولا سيما في وقتنا الحالي، حيث أضحت المعلومة وإمكانية الوصول إليها بيسر وسرعة هي القوة بعينها، أو مصدر القوة كبديل استعاض بها الإنسان عن القوى التقليدية الأخرى كالعسكرية أو البشرية التي كانت سائدة حتى عهد قريب.
نحن نعيش على أعتاب قرن جديد، ولعل السباق المعلوماتي والانفتاح على الآخر حضارياً - ثقافياً وفكرياً وفلسفياً، هي من أهم سماته، مما يحتم على الشعوب الخروج من تقوقعها، وتبني النظرة الشمولية في إطار التبادل الحضاري.
لاجرم أن تاريخنا العربي والإسلامي، شهد على مر عصوره واختلافها كمّاً هائلاً من التبادل الحضاري.
ويمكن القول إن الأمة الإسلامية استوعبت حضارات مختلفة ولغات عدة لعبت الترجمة فيها دوراً هاماً، إذ كانت أداة الوصل الفاعلة فيها.
وادت في الماضي دوراً أساساً في الإسهام في نقل العلوم وتبادل المعلومات وتفاعل الحضارات.
في عصرنا الحالي، كما تشير الإحصاءات، تترجم الدول المتقدمة كالولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا مثلا أضعاف ما تنتج محليا.
هذا فضلا عن دور الترجمة الريادي الذي يتجلى في عشرات الدوريات والصحف والمجلات التي تصدر في تلك الدول.
السؤال الذي لامفر من إيجاد إجابة عنه هو: أين يقف العرب في عصر العولمة والنظام الجديد من الترجمة؟ وهل ثمة خطط منهجية لتمكين الترجمة من تلبية الاحتياجات الثقافية ومواكبة التطور العلمي المذهل في شتى الحقول! ومن ثم دعمها بالعناصر المؤهلة ومكافأة المبدعين فيها!
لقد آن الأوان لأن تتعدى الترجمة حيز المبادرات الفردية بنطاقها الضيق وإمكاناتها المحدودة عربياً.
فالأفراد المشتغلون بها لا يحظون من المؤسسات بالدعم الكافي الذي يؤمّن لهم الاحتراف، وبالتالي التفرغ التام وتمكينهم من البحث والمطالعة والمواكبة لتقديم الأفضل.
وفرص التدريب المهني والعملي في مجال الترجمة يكاد يكون شبه منعدم إما لافتقارنا إلى توفير المعاهد المختصة علمياً، أو لغياب الاهتمام الرسمي بالترجمة أصلا, إن الترجمة هي رديف المعرفة، مثلما اللغة وعاء الحضارة.
ومن نافلة القول أن اللغة هي المظهر الحضاري الذي ينعكس على الأمم إما قوة أو ضعفا.
والترجمة هي المقياس في المفهوم الحضاري متمثلا في شبكات الكمبيوتر العالمية ووسائط الإنترنت وتدفق الفضائيات كوسيلة إعلام تقحم نفسها في أدق خصوصيات حياتنا كأفراد وشعوب.
حريّ بنا وقد خصّنا الله بلغة القرآن لتبليغ الرسالة السماوية، ان نعي الدور الحضاري الذي يتحتم علينا الاضطلاع به للتأثير في الآخرين والتبادل المعلوماتي والثقافي أن نولي الترجمة أهمية قصوى وان نعطيها دورها الصحيح في إيصال التراث لغيرنا من الشعوب، ونأخذ منها ما يثري ويفيد مسيرة الإنسان الحضارية وأن نعيد النظر في برامج الترجمة لنتمكن من خلالها من استيعاب الناتج المعرفي والثقافي الذي تشهده الأمم، وبالتالي مد جسور التواصل فيما بيننا، ولا سيما في مجالات المعارف والعلوم والآداب والفنون.
بديعة داود كشغري