Friday 11th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 27 صفر


حديث الديار
مدينة بورمارينا الآرامية,, عروس فراتية تتحدّى الزمن

** اسفرت الأعمال التنقيبية التي جرت، ولازالت تجري، في الشمال السوري عن اكتشافات باهرة لرقم آرامية ونصوص محرّرة بالمقطعية المسمارية التي يعود تاريخها الى القرن السابع قبل الميلاد، الى الكشف عن موقع بورمارينا، وهي المدينة الآرامية الشهيرة الذي ظلّ ذكرها يتردد منذ القرن التاسع قبل الميلاد,, ولكن موقعها ظل مجهولا طيلة العقود السابقة حتى كانت حملات التنقيب المكثفة التي جرت في المنطقة الشمالية من سورية في مطلع التسعينيات، في نطاق برنامج دولي لانقاذ المواقع الأثرية التي يمكن ان تغيبها مياه السدود التي بدأت تشاد، خلال السنوات الأخيرة، في منطقة الفرات الأعلى، وبهذا الصدد فقد تم تشكيل مجموعة دولية للبحث الاثري (GIRA) ضمت آثاريين ومؤرخين واختصاصيين في البيئة من خبراء سوريين وفرنسيين وايطاليين، منهم عالم الآثار لوك باشلو (وهو باحث في مخبر تاريخ وآثار الشرق المسماري التابع للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والعالم ماريو فالس (استاذ علم الآثار في جامعة أودين الايطالية) ، وبالتعاون مع فريق آثاريين سوريين متخصصين، وقد باشرت هذه المجموعة التنقيب في تل الشيوخ الفوقاني في شهر تشرين الاول 1994م, وبعد عام من ذلك الجهد الجماعي أعلن عن الاكتشافات المذهلة الخارقة للعادة,, الأمر الذي حمل مجلة علمية فرنسية هي Nouvelles Scientifiques الى الاحتفاء بتلك الاكتشافات، وارسال مندوبها العلمي لاعداد تغطية ميدانية عن هذا الحدث الهام, وقد كتب مندوب المجلة تحقيقا خاصاً جاء فيه.
رغم الثراء الاثري للفرات الاعلى السوري الذي اتضح منذ مطلع هذا القرن باكتشاف مواقع كبيرة مثل كركميش أو تل احمر، احدى عواصم الدولة الآشورية الحديثة، فان استكشاف المنطقة عرف حتى وقت قريب توقفا طويلا, ان موقع تل الشيوخ الفوقاني القائم مباشرة على ضفة الفرات اليسرى يمتد على مساحة حوالي اربعة هكتارات, لقد ادى موسم تنقيبي اولى جرى فيه عام 1994م الى استشفاف غني الموقع منذ تنفيذ اول الاسبار، الأمر الذي اتضح تماما من عدد من المكتشفات البالغة الأهمية خلال الموسم الثاني في أيلول - تشرين الأول 1995م.
لقد سكن هذا الموقع منذ عصر أوروك آخر الألف الرابع قبل الميلاد حتى العصر البيزنطي.
وقد افتتحت عمليات التنقيب الثلاث في مختلف القطاعات، وجاءت جميعا بمكتشفات على جانب من الاهمية، ففي الاولى نذكر مجمعا معماريا من مطلع الألف الثالث، محفوظا حتى ارتفاع ثلاثة امتار تقريبا، وهو امر غير مالوف في معالم من ذلك العصر, وفضلا عن قيمة هذه العمارة التي يمكن ان تكون عمارة بناء ذي طبيعة عامة، فان هذه العملية قد اعطت معلومات عن الفترة الأساسية التي شهدت ظهور اولى المدائن الكبرى التي صحبها غالب قيام الدولة, ولعل مدينة أوروك الموقع الذائع الصيت في بلاد الرافدين الجنوبية، هي المكان الذي تمت فيه هذه القفزة النوعية الخارقة للعادة في اسلوب التنظيم وفي حياة المجتمعات الذي يعبر عنه باختراع الكتابة الكتابة المسمارية , وفي السبعينيات كشفت الاعمال الأثرية في سورية الشمالية وجود مدينة عمارة، أثاث، الخ مماثلة تماما لمدينة بلاد الرافدين الجنوبية التي تبعد عنها أكثر من الف كيومتر, كان المعتقد ان الامر ببساطة امر مجموعة من السكان الأوروكيين جاءت لتستقر في سورية الغربية على ضفاف الفرات, ان هذه الفرضية هي الآن موضع جدل شديد, ووجود الفخار المنسوب لأوروك في اعمال التنقيب التي اجراها الفريق الدولي (GIRA)سيمكن دون شك من اضافة عناصر تفسيرية هامة لملف هذا الموضوع الذي هو اساسي في مجال علم الآثار الشرقية.
ولقد كشف في القطاع الثاني مسكن من زمن البرونز الحديث 1500 - 1300 ق,م يبعث غناه باللقى الاثرية المدهشة, ولقد دمر هذا المسكن في حينه تماما في حريق شديد ووجدت كل محتوياته بوضعها الاصلي, ومن الممكن ان يكون هذا التدمير من آثار الاجتياح الحثي,واخيرا، فان العمل في القطاع الثالث أدى الى كشوفات اكثر إثارة، حيث ظهرت فيه مجوعة من الرقم بعضها محرر بالآرامي, وفضلا عن هذا النوع من الوثائق الذي يعتبر دوما كشفا فريدا، فان محتوى رقم تل الشيوخ له اهمية خاصة بالنسبة لتاريخ المنطقة القديم وبخاصة لايراده ذكر الموقع القديم بورمارينا,, ففي احد البيوت، وعلى ارضية احدى الغرف استخرجت مجموعة صغيرة من المخطوطات بينها رقيمان وعدة اجزاء رقم محررة بالكتابة الآرامية، وكذلك نصوص اخرى مجزأة محررة بالعلامات المسمارية الآشورية, لقد بينت الدراسة الباليوغرامية لمجموعة هذه الوثائق انها جميعها من القرن السابع ق,م ويتضمن اكبر الرقم الآرامية نمّا حقوقيا يبدو انه يتعلق بقرص من الفضة, ولقد وثق الشطر العلوى من الرقيم بثلاث طبعات ختام من النموذج الذي يوضع في الاصبع، منها اثنان فيهما علامات من الكتابة الهيروغليفية الحثية الجديدة, وفي مجموعة النصوص الآرامية القليلة المحررة على الطين من العصر الآشوري الحديث فان القيم الثاني يعتبر من الآن فما عدا أطول وثيقة معروفة, كما ان الأمر يتعلق بنص حقوقي، بين الاشخاص المذكورين فيه كثيرون يحملون اسماء آشورية، واربع من الكسر الست التي تم العثور عليها محررة بالعلامات المسمارية.
ان كل هذه النصوص كانت تعود على الراجح لمحفوظات احدى الأسر التي كانت تستخدم هاتين اللغتين والكتابتين في القرن السابع قبل الميلاد في الولايات الغربية من الامبراطورية الآشورية, فمن جهة هناك اللغة الآشورية، وهي اللسان الرسمي الذي تفرضه الادارة الامبراطورية في الصكوك الرسمية، وهو محرر بالعلامات المقطعية المسمارية، ويصعب فهمه واستعماله من قبل السكان المحليين, ومن ناحية ثانية هناك الآرامية,, وهي اللسان الدارج الذي يتكلمه الناس ويكتبونه بالحروف الابجدية الآرامية, ان استخدام لغتين لتزداد اهميته اذا عرفنا انه وارد في عدد محدود من مواقع الامبراطورية الآشورية,وفضلا عن الضوء الذي تلقيه هذه الوثائق على المثاقفة في غرب الامبراطورية الآشورية فان محتواها قد زودنا بمعلومات في الدرجة الأولى من الأهمية على الصعيد التاريخي, وبالفعل فان نص الرقمين قد وثق اسم المكان بزمن يبدو انه يقابل اسم بورمارينا المدينة الآرامية من مملكة بيت عديني التي ذكرت في كتابات الملك الآشوري شلمنصر الثالث (858 - 824 ق,م) فبعد ان شَنَّ هذا الملك معركة ضارية عند هذه المدينة ضد أمير محلي يدعي أخوني كان قد قاوم مشاريع الفتح التي قام بها الامبراطور الآشوري السابق أشور نامر بال، تابع طريقه نحو الشمال كما جاء في حولياته.
إن اسم بورمارينا كان ذكره مقتصرا على ذلك النص, لكن لم يكن بالامكان تحديد مكان هذه المدينة على الخارطة,, وبفضل مكتشفات تل الشيوخ تأكد الآن مكانها.
في وسط القرن التاسع ق,م كانت بورمارينا وكل ممتلكات الأمير اخوني قد احتلت وأصبحت جزءا من الامبراطورية الآشورية, لكن على الرغم من مضي قرابة قرنين من اخضاعها للادارة الامبراطورية كانت هذه المدينة ماتزال التقاليد اللغوية والثقافية الآرامية حية فيها.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved