Saturday 5th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 21 صفر


الثنائية بين نصوص الوعيد وأحكام التكفير الدنيوية:
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنما المقصود هنا أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع (من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة) إذا صدر عن شخص من الأشخاص: فقد يكون على وجه يعذر فيه: إما لاجتهاد، أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد؛ فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق، ونحو ذلك: لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع,, لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع,, هذا في عذاب الآخرة؛ فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار، أو غير خالد,, وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال (1) .
وقال: وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً؛ فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر,, لكن الشخص المعين الذي قاله لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) ]سورة النساء/10[؛ فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق؛ لكن الشخص المعين لا يُشهد عليه بالوعيد؛ فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع؛ فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها؛ فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية,, هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام (2) .
قال أبو عبدالرحمن: هذا تأصيل نفيس أود أن يرد إليه أي كلام في الرسائل والمسائل النجدية وفتاوى علماء نجد في أي نص يُوهم خلاف هذا التأصيل,.
وبجانب هذا أود أن يشفق المسلم من أمور حكم الله بكفر مرتكبها - مما سُمي كفرا عمليا - كترك الصلاة بلا عذر، أو تهدده له بمصير الكافر من الخلود في النار كقتل النفس المحرمة بغير حق؛ فإن مرتكب أحد ذينك قد يفتن آخر حياته أو عند مماته؛ فيموت على غير الإسلام؛ فينفذ فيه وعيد الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أقوال وأفعال كفرية: والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع,, لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التفكير وانتفاء موانعه؛ فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في قاعدة التكفير؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروني في اليم؛ فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين,, مع شكه في قدرة الله، وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك؛ فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره (3) .
قال أبو عبدالرحمن: ولهذا نكفر في اختلاف أهل القبلة نفي علم الله بالجزئيات؛ فنحكم بأنه كفر، ونجعل الكفر لازم هذا المذهب,, وقد يحكم قضاء بتكفير ما أقيمت عليه الحجة مرافعة، وزالت شبهه، وانقطعت حجته ولم يذعن,, بيد أن نصوص الوعيد تبقى على ما قرره شيخ الإسلام.
وقال رحمه الله تعالى: هذا مع أني دائماً (ومن جالسني يعلم ذلك مني) من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا اخرى,, وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية,, وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح قراءة من قرأ (بل عجبت ويسخرون) ]سورة الصافات/12[، وقال: إن الله لا يعجب,, فبلغ ذلك إبراهيم النخعي؛ فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه,, كان عبدالله أعلم منه وكان يقرأ: بل عجبت .
وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة ]رضي الله عنهم[ في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية,, ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله,, وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك.
وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق.
وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار (وهي مسألة الوعيد) فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ,, الآية، وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا,, فإن هذه مطلقة عامة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا,, ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة.
والتكفير من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة,, ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئا.
وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابا ما عذبه أحداً من العالمين,, ففعلوا به ذلك؛ فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟, قال خشيتك,, فغفر له,, فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري؛ بل اعتقد أنه لا يُعاد,, وهذا كفر باتفاق المسلمين؛ لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه؛ فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا (4) .
قال أبو عبدالرحمن: هو شاك وإن لم يعتقد أنه لا يُعاد بإطلاق؛ ذلك أن هروبه إلى ما اوصى به صادر عن إيمانه بالإعادة، وإنما اعتقد أن الله لا يعيده بعد الإحراق والذري.
وأما قراءة شريح فقد قال الحافظ أبو جعفر ابن جرير الطبري: اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة الكوفة: بل عجبتُ ويسخرون بضم التاء من عجبت، بمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكاً، وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون,, وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة.
وبعض قراء الكوفة بل عجبتَ بفتح التاء بمعنى: بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار؛ فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارىء بهما مع اختلاف معنييهما؟.
قيل: إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح: قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسخر المشركون بما قالوه.
فإن قال: أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟,.
قيل: التنزيل بكلتيهما.
فإن قال: وكيف يكون تنزيل حرف مرتين؟.
قيل: إنه لم ينزل مرتين، إنما أنزل مرة، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُقرأ بالقراءتين كلتيهما (5) .
وقال القرطبي: قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم: أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به,, وهي قراءة شريح، وأنكر قراءة الضم وقال: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم.
وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث.
وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء، واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود,, رواه شعبة: عن الأعمش: عن أبي وائل: عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ: بل عجبت بضم التاء، ويُروى عن ابن عباس.
قال الفراء في قوله تعالى: بل عجبت ويسخرون قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي؛ لأنها عن علي وعبدالله وابن عباس.
وقال أبو زكريا الفراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله: الله يستهزئ بهم ]سورة البقرة/15[ ليس ذلك من الله كمعناه من العباد,, وفي هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها,, روى جرير والأعمش: عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأها عبدالله - يعني ابن مسعود - بل عجبتُ ويسخرون ,, قال شريح: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم.
قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم؛ فقال: إن شريحا كان يعجبه رأيه، إن عبدالله كان أعلم من شريح، وكان يقرؤها عبدالله بل عجبتُ .
قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: بل عجبتُ بل جازيتهم على عجبهم؛ لأن الله تعلى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق، فقال: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ]سورة ص/4[، وقال: إن هذا لشيء عجاب ، أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم ]سورة يونس/2[، فقال تعالى: بل عجبتُ : بل جازيتهم على التعجب.
قلت: وهذا تمام معنى قول الفراء، واختاره البيهقي.
وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد,, التقدير: قل يا محمد: بل عجبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن.
النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير.
البيهقي: والأول أصح.
المهدوي: ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولاً على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، كما يُحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه - على ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوفين مجازاً واتساعاً.
قال الهروي: ويقال: معنى (عجب ربكم) أي رضي وأثاب؛ فسماه عجباً وليس بعجب في الحقيقة، كما قال تعالى: ويمكر الله ]سورة الأنفال:30[,, معناه ويجازيهم الله على مكرهم، ومثله في الحديث (عجب ربكم من إلَّكم وقنوطم).
وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيماً؛ فيكون معنى قوله: بل عجبت أي بل عظم فعلهم عندي.
قال البيهقي: ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر,, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عجب ربك من شاب ليست له صبوة، وكذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله لعيه وسلم قال: عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل.
قال البيهقي: وقد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل,, حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة.
وقيل: معنى بل عجبتُ بل أنكرت,, حكاه النقاش.
وقال الحسين بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقد جاء في الخبر: (عجب ربكم من إلَّكم وقنوطكم) (6) .
قال أبو عبدالرحمن: ولهذا الحديث بقية.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/371-372.
(2) مجموع الفتاوى 23/345 - 346.
(3) مجموع الفتاوى 28/500-501.
(4) مجموع الفتاوى 3/229-231.
(5) تفسير ابن جرير م 12 ج 23/43-44.
(6) تفسير القرطبي 15/47-48.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
ملحق الدعوة
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
ملحق المفروشات
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved