لماذا يتجاهل رافضو عملية الأطلنطي الخلاف الأمريكي عليها؟ د, وحيد عبدالمجيد |
لم يهتم من ادانوا عملية حلف الاطلنطي في يوغوسلافيا بالخلاف الذي حدث حولها في داخل الادارة الامريكية لانه لا ينسجم مع موقفهم ويضعفه الى حد كبير فيضع هذا الخلاف علامة استفهام كبيرة امام القول ان هذه العملية تعبر عن هيمنة امريكية مقيتة، وان هدفها الاول هو تأكيد سيطرة الولايات المتحدة على العالم، ولا علاقة لها بانقاذ بشر يتعرضون لحرب ابادة وحشية.
فهذا حكم يفترض ان تكون مؤسسات صنع القرار في الدولة العظمى الاولى موحدة في سعيها الى تأكيد الهيمنة على العالم في اطار استراتيجية متفق عليها لا تترك مجالا لخلاف على قرار فائق الاهمية من نوع استخدام القوة العسكرية.
ولكن من سارعوا من المثقفين العرب الى اصدار حكمهم بادانة التدخل العسكري ضد حكومة بلغراد لم يسألوا عن كيفية اتخاذ قرار هذا التدخل في واشنطن فهناك اعتقاد سائد موروث من مرحلة الراديكالية الثورية في العالم العربي بان صنع القرار في الولايات المتحدة لا صلة له بأي اعتبارات انسانية وجرت العادة على النظر الى قرارات السياسية الخارجية الامريكية باعتبارها من صنع قوي شريرة لا يعدو المسؤولون في واشنطن ان يكونوا ادوات لديها, وغالبا ما لا نعرف ما هية هذه القوى الشريرة التي لم يهتم الخطاب الثوري العربي غالبا بتحديدها اكتفاء بانها امبريالية عدوانية وعندما حاول بعض الماركسيين العرب ذات يوم اجلاء غموض هذه القوى الشيطانية التي تمارس الشر بالسليقة اطلقوا عليها (المركب العسكري - الصناعي) بغض النظر عن وجود اساس حقيقي له وحتى اذا كان وزن الصناعة العسكرية محدودا في اقتصاد هائل ضخم متنوع.
وايا كان الامر فالواضح ان احدى مشاكل نمط التفكير الموروث من عصر الراديكالية الثورية هي نزع انسانية السياسة كليا,, فهناك قوى غربية شريرة معادية لنا بالمطلق تتآمر علينا او تخطط لسحقنا عبر فرض هيمنتها علينا, وبعد ان كانت الهيمنة التي نخافها، وفقا لهذا النمط من التفكير اقتصادية بالاساس صارت ثقافية ايضا ثم شملت كل شيء ولم تترك شيئا.
هذا عن الاشرار الذين تدخلوا في البلقان اما عن عالمنا فنحن نمثل الخير المطلق دائما حتى اذا كان بيننا من يصلحون تجسيدا للشر مثل حاكم أرهب شعبه ثم غزا شعبا مجاورا وضم دولته واعتبرها محافظة تابعة له مما ادى الى تدخل اجنبي كان شرعيا وعادلا وضروريا لانقاذ بلد عربي من قبضة الطغيان.
ومع ذلك فطالما حضر الغرب وجاءت امريكا، لابد ان يستحضر بعضنا نمط التفكير الموروث من العصر الثوري ويشحذ كل ما يتضمنه من شعارات لا تعبر في التحليل النهائي الا عن خلل بنائي في العقل السياسي.
واذا كان هذا قد حدث عندما تدخلت امريكا ضمن تحالف دولي واسع شمل العالم كله تقريبا وبقرارات اجماعية من مجلس الامن فما بالنا اذا جاء التدخل غربيا فقط وعبر حلف عسكري مكروه بشدة في الخطاب الراديكالي العربي وبقيادة الولايات المتحدة التي ورث هذا الخطاب الوصف الايراني لها (الشيطان الاكبر).
وهكذا ارتفع هذا الخطاب رافضا ما يعتبره اعتداء على دولة ذات سيادة حتى اذا كانت هذه دولة اكثر وحشية من المانيا النازية وايطاليا الفاشية والعراق (الصدامية) وحتى اذا كانت قد رفضت اي حل سلمي وسعت الى اطالة المفاوضات الى ان تستكمل تهجير البان كوسوفا المسلمين تدريجيا عبر خطة بدأت في نهاية العام 1997.
غير ان كل هذا ليس مهما ولا هو جزء اساسي في الصورة التي يرسمها بعض المثقفين العرب لازمة كوسوفا فليس القتل والاغتصاب والتهجير الا رتوشا في صورة تركز على الهيمنة الامريكية لا يرى هؤلاء العربات المكتظة بلاجئين يملؤهم الرعب يبتهلون الى الله ان ينقذهم من متوحشي الصرب الذين يطاردونهم لا يرون شيوخا خائري القوى يتألمون واطفالا يبكون وبشرا يعانون هاربين من جحيم يحلو للبعض ان يحمل غارات حلف الاطلنطي المسئولية عنه في تزييف صريح لوقائع يعرفها العالم كله وليس لتاريخ مضي واعتاد بعضنا تزويره لا يرون صور الجثث التي اشعل المتوحشون النار فيها امعانا في الانتقام ووقفوا يرقصون الى جوارها.
واذا كان هذا كله ليس جزءا من الصورة فلا عجب اذا صارت كيفية اتخاذ قرار التدخل العسكري خارج الاهتمام فلا يهتم بمثل هذا الموضوع الا من كان مدركا او مستعدا للاقرار بان احدا لا يمتلك الحقيقة التي ينبغي البحث عنها بعقل مفتوح اما اذا كنت موقنا بأن الحقيقة مكتملة لديك وقد تجسدت في نظرة (مانوية) ثنائية لا ترى في الولايات المتحدة والغرب كله الا شرا مطلقا فلا يهم ان تعرف ما حدث وكيف صدر القرار بعد خلاف على التدخل العسكري استمر حتى اللحظة الاخيرة بين وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ومستشار الرئيس الامريكي للأمن القومي ساندي بيرجر ومعه معظم القادة العسكريين ولم يكن هذا الخلاف جديدا ولا طارئا لانه يعود الى منتصف العام الماضي.
وكان موقف اولبرايت التي طالبت منذ ذلك الوقت بالاعداد للتدخل هو الاضعف الى ان وقعت مذبحة قرية راشتا التي راح ضحيتها 45 من اهل كوسوفا في مطلع العام الحالي وعندئذ بدأ الرئيس كلينتون يغير تفكيره باتجاه عدم استبعاد الخيار العسكري رغم استمرار تحفظ كبار قادة الجيش الذين اكدوا ان القصف الجوي لن يحقق نتائج حاسمة.
كما ابدوا قلقا من افتقاد رؤية امريكية او دولية بعيدة المدى لمنطقة البلقان, بل وكان بعضهم متشككا في وجود مصالح قومية امريكية قوية في هذه المنطقة الى حد يفرض المخاطرة باطلاق مواجهة عسكرية وحذروا من ان عدم فاعلية القصف الجوي قد يفرض تورطا بريا غير معروفة عواقبه في منطقة شديدة الاضطراب وكان على رأس هؤلاء رئيس هيئة الاركان المشتركة للقوات الامريكية الجنرال هنري شيلتون.
وحدها تقريبا ومعها بعض اركان وزارة الخارجية كانت اولبرايت هي التي تدفع باتجاه الخيار العسكري مستندة على ان مصالح الولايات المتحدة في اوروبا هي الاهم بالنسبة لها في العالم الآن وان استمرار الاضطراب في منطقة البلقان سيقوض استقرار القارة برمتها ويعرض المصالح الامريكية للخطر.
وطرحت وزيرة خارجية الولايات المتحدة في هذا السياق رؤية قائمة على (نظرية الدومينو) مؤداها ان التساهل مع جرائم ميلوسيفيتش في كوسوفا سيشجعه على تهديد مناطق اخرى بدءا بجمهورية الجبل الاسود وعلى اعادة فتح ملفات امكن غلقها بصعوبة وبما فيها ملف البوسنة والهرسك.
ومع ذلك تعرضت اولبرايت الى نقد من بعض معارضي موقفها في الاعلام الامريكي فقيل انها ضعيفة القلب امام سياسات التهجير بسبب خبرة عائلتها السيئة في هذا المجال في شرق اوروبا خلال الحرب العالمية الثانية, وهذا نقد ينطلق من موقف لا انساني لا يحفل بعذابات البشر المقهورين ولكنه يماثل موقف الصرب الذين لم تحرك مأساة كوسوفا مشاعرهم بقدر ما استحضرت لديهم شعارات عصر ثوري مضى وكان اكثر انسانية من انصاره الآن في موقفهم تجاه ازمة البلقان.
ولم يقبل القادة العسكريون الامريكيون الخيار العسكري الا بعد ان انحاز كلينتون الى وزيرة خارجيته عقب سحب ميلوسيفيتش موافقته الاولية على اتفاق راميويين وثبت انه لا امل في حل سلمي بعد ان صعدت السلطات الصربية اعمال التهجير من كوسوفا خلال الاسبوع الثالث من شهر مارس الماضي فقد شهد ذلك الاسبوع طرد نحو اربعين الفا وكان هذا معدلا قياسيا لان مجموع المهجرين على مدى 15 شهرا سابقة كان قد تجاوز المائتي الف بقليل الامر الذي اعطى مؤشرا بالغ الخطورة دفع كلينتون الى اتخاذ قرار التدخل العسكري, ومغزى الخلاف داخل الادارة الامريكية على هذا النحو هو ان قرار التدخل لم يكن جاهزا ينتظر ذريعة عكس ما يؤكده رافضو عملية حلف الاطلنطي ويعني ذلك ان انقاذ البان كوسوفا المسلمين ليس مجرد ذريعة للتدخل الذي لا يجوز اعتباره - والحال هكذا - جزءا من خطة جهنمية تفرض الولايات المتحدة بمقتضاها هيمنة بغيضة على العالم, ومما تجدر ملاحظته ايضا ان الضغط من اجل التدخل جاء من وزارة الخارجية لا وزارة الدفاع ومن الدبلوماسيين وليس من العسكريين ولو كانت هناك خطة جهنمية حقا لما نشب ذلك الخلاف, كما ان هذا خلاف يتعارض مع اعتقاد بعض رافضي عملية الاطلنطي في ان العسكريين الامريكيين يبحثون عن اي عدو يحاربونه في اي مكان لقياس قدراتهم القتالية وتجربة اسلحتهم.
وهذا اعتقاد شاع حتى لدى بعض المحللين الاستراتيجيين على نحو يؤكد ان امريكا هي فعلا شيطان اكبر لا يمكن ان يأتي منه خير ولو لمرة وحيدة او على سبيل الاستثناء, واذا أمعنا النظر في مقولة التدخلات العسكرية لقياس القدرات القتالية لوجدنا خللا في جانبين على الاقل: اولهما ان ما يحدث في يوغوسلافيا والعراق ليس حربا تشتمل على مسرح عمليات حقيقي من النوع الذي يفيد في قياس القدرات القتالية بخلاف الوضع في حرب تحرير الكويت وثانيهما ان التكنولوجيا الاكثر حداثة قللت الحاجة الى تجربة الاسلحة والتي صارت ممكنة في معظم الاحوال عن طريق (السوبر كومبيوتر).
وفي الوقت الذي لا يكف بعض العرب عن حديث المؤامرة والهيمنة في تحليلهم للتدخل في البلقان يتوقع بعض المحللين الامريكيين كما ذكرت مجلة (نيوزويك) اخيرا ان تكون اولبرايت كبش الفداء اذا لم تحقق عملية الاطلنطي نتائج حاسمة غير ان هذا التوقع يبدو مغاليا لا يأخذ في الاعتبار تأييد غالبية الرأي العام الامريكي لهذه العملية بغض النظر عن نتائجها وتعاطفهم مع اهل كوسوفا رغم انهم مسلمون,, فهناك مشترك انساني يغفل عنه بعضنا عندما يحصرون نظرتهم في دائرة ضيقة ويغلبون عداءهم للغرب على اي اعتبار موضوعي.
|
|
|