علاقة التربية بنمو المجتمع علاقة ازلية نجد شواهدها في التاريخ والآثار التي تركتها الامم السالفة، ذلك ان ما تركته هذه الامم خلفها يعبر بشكل او بآخر عن مستوى تربيتها من حيث الجودة او الضعف والسطحية والبساطة، ان التربية القوية والجادة تؤثر تأثيرا واضح المعالم في الافراد سلوكا وخلقا وفكرا ومن ثم عطاء وانتاجا.
وهذا بدوره ينعكس على وضع المجتمع العام من حيث الازدهار والقوة والمنعة والاستقلالية قرارا وسياسة بالاضافة الى الحضور على المستوى العالمي للمجتمع, والحديث عن علاقة التربية بالمجتمع وتطوره يتطلب تناول الاهداف التربوية من حيث طموح هذه الاهداف ووضوحها وامكانية تحقيقها أي ألا تكون مثالية يستحيل تحققها على ارض الواقع, وغني عن الاشارة الى الاختلاف بين المجتمعات في الاهداف التربوية، فبعض المجتمعات تكون اهدافها التربوية متقدمة وعالية وتتغير مع الظروف والاحوال او كما يقال انها ذات طبيعة براجماتية، لكن في المقابل نجد مجتمعات اخرى تكون اهدافها التربوية جامدة متصلبة لا تتغير بتغير الازمان والاحوال وتبقى راكدة كما خطها ورسمها اصحابها الاوائل وفي كلا الحالتين سيكون الاثر واضحا وملموسا في واقع المجتمع.
الاهداف التربوية لا تكفي لوحدها فما هي الا تصورات نظرية يصوغها بعض المنظرين في المجتمع ولا يمكنها ان تغير او تحرك ساكنا في المجتمع ما لم تتوفر الاسباب والامكانيات اللازمة, ان نجاح التربية في تحقيق اهدافها يعتمد في الاساس على الكيفية والاساليب التي تم من خلالها احداث التربية وتفعيلها وازاء الكيفية التي تتحقق من خلالها العملية التربوية يوجد رأيان وهما:
1- الرأي الاول يرى انصاره من فلاسفة التربية ومنظريها ان التربية أشبه ما تكون بالكائن الحي الفاعل الذي يؤثر ولا يتأثر ويُحدث ولا يقع تحت تأثير الاحداث وعليه فإن التربية في هذه الحالة هي التي تشكل المجتمع وتصوغه وتغير واقعه وترسم مستقبله, التربية وفق هذا الطرح تحول المجتمع من مجتمع فقير الى مجتمع غني ومن مجتمع ضعيف الى مجتمع قوي ومن مجتمع متفرق متناحر الى مجتمع متماسك متحاب ومن مجتمع فوضوي الى مجتمع منظم ومن مجتمع يسوده الظلم والاستبداد الى مجتمع يظلله العدل ويسوده الانصاف, التربية تغير المجتمع من مجتمع معتمد اتكالي الى مجتمع مستقل ومنتج لاحتياجاته وقادر على حماية والمحافظة على مكتسباته المادية وقيمه ومبادئه.
يستشهد انصار هذا الرأي في تأثير التربية على المجتمع وليس العكس بأوضاع كثير من المجتمعات التي تغيرت بفعل التربية وتأثيرها ولعل ما يمكن الاستشهاد به مجتمع الجزيرة العربية اذ تغير بفعل التربية الاسلامية وتحول من وضع الى وضع آخر مختلف كليا عما كان عليه في عصر الجاهلية, وهذا التغير اتضحت معالمه على كثير من المجالات الاعتقادية والفكرية والثقافية والانتاجية بالاضافة الى وحدة مجتمع العرب الذي كانت تعصف به الخلافات وعوامل الفرقة, والامثلة على تحول المجتمعات وتغيرها بفعل التربية كثيرة ومتعددة فاليابان تغيرت بفعل التربية بعد الحرب العالمية تغيرا كبيرا اذ اصبحت من الدول المتقدمة صناعيا وذات تأثير بالغ في اقتصاديات العالم بل والسياسة العالمية,, وما يقال عن اليابان ينطبق على اوروبا الغربية وأمريكا التي تأخذ بمفهوم التربية البراجماتية اذ ان اثر هذه التربية يشاهد في التحولات والتغيرات الفكرية والثقافة والمادية سواء كان ذلك على شكل تقنية متقدمة تسابق الزمن او على شكل نمو اقتصادي واجتماعي.
لكن ومع الاخذ في الاعتبار لهذه الامثلة يظل التساؤل ماثلا: هل بالفعل التربية والتربية بالذات هي التي توجد كل هذه التغيرات في المجتمعات؟ وهل للتربية هذا الفعل السحري؟!
2- النظرة الاخرى يرى اصحابها ان المجتمع هو الذي يصنع التربية التي يريدها وخصوصا القائمين على السلطة ومن بيدهم مقاليد امور المجتمع فهم بما لديهم من نفوذ وامكانيات وتأثير في رسم السياسات وتوجيهها يمكنهم ان يوجدوا التربية التي إما ان تحافظ على المجتمع كما هو بكل ايجابياته وسلبياته ودون احداث تغيير فيه بل ابقاء الاوضاع على ما هي عليه وإما ان توجد تغييرات ولكن تكون نتيجتها في النهاية خدمة مصالح وأهداف المتنفذين في السلطة دون خدمة اهداف المجتمع بصورته العامة وفئاته المختلفة.
ان نتائج هذا النوع من التربية والتي يضعها بعض افراد المجتمع وبالاخص اصحاب السلطة ستكون:
* الابقاء على اسلوب التفكير النمطي الجامد الرافض لكل جديد والمتشبث بالافكار والرؤى الموروثة دون اعطاء للنفس فرصة التفكير في هذه الافكار والرؤى واعادة النظر فيها.
* عدم التفاعل المؤثر في الحياة بل والتحول الى متلق في هذه الحياة وهذا يعني عدم الابداع فكريا وماديا وفي المجتمعات العربية مثال حي على هذه النتيجة اذ ان المجتمعات العربية تحولت الى مستهلك لأفكار ونظريات ومنتجات الغير حتى انها اصبحت على هامش الحياة العالمية بفعل تربيتها الجامدة في فعالياتها وأدواتها وأنشطتها وليس بالضرورة بمبادئها.
* قتل روح الطموح لدى انسان هذا النوع من التربية وحصرها في متطلبات الحياة اليومية من مأكل ومشرب ومأوى ولباس وعدم الارتقاء الى مستويات الاشباع العليا والتي اشار اليها ماسلو في هرم الاحتياجات مما يعني قتل حاجة احترام الذات,, والمكانة الاجتماعية وكذا حاجة تحقيق الذات وعدم اعطائها فرصة النمو داخل انسان مثل هذه المجتمعات.
* الابقاء والمحافظة على وضع الانسان المتقيل بل والمتلذذ بممارسات الاستبداد التي تمارس نحوه ومعه بحيث يستشعر ان هذه الممارسات على ما فيها من استبداد وتسلط هي جزء من وجوده ويلزمه الدفاع عنها لأنه لا يدرك انها ممارسات تسلطية وتتضح آثار هذه التربية في رغبة الفرد للخضوع ومشاعر الدونية والعجز بل وذوبان الذات في شخص من يفرض سيطرته ويمارس استبداده حتى يصل الفرد الى مستوى من التلذذ بتعذيب الذات وشقائها.
* الانقياد الاعمى وبدون وعي لما هو قائم من عادات وتقاليد وأطروحات رسمية ومؤسساتية وعدم اعطاء الفرد نفسه فرصة التفكير في صحة الواقع الذي يعيشه وفي حقوقه وواجباته بل ويتداخل الصحيح بالخطأ والحق بالباطل.
وبغض النظر عن الاطروحتين السابقتين وأيهما اصح لابد من التأكيد على ان التربية مهمة لأي مجتمع وعليه يجب الا تترك في يد من قد يسيء استخدامها ويرسم لها ويخطط وفق مصالحه الآنية والمستقبلية,, التربية حق وواجب مشترك لجميع الفئات الاجتماعية وكافة قوى الضغط الاجتماعي واذا اريدت تربية رائدة في مجتمع من المجتمعات فلابد من ارادة اجتماعية تصنع التربية التي تخدم المجتمع في حاضره ومستقبله.
أ, د, عبدالرحمن بن سليمان الطريري