بالأمس وأنا أقلب في أوراقي القديمة باحثا عن أمر غير ما سأحدثك عنه هنا، وجدت كلمة نحيتها منذ أكثر من عام لكونها في موضوع أكثرت من الحديث فيه - وإن كان لا يمل - وهو مجمع اللغة العربية، وصادف عثوري على هذه الكلمة دعوة مجلس الشورى رجالا للتشاور في موضوع انشاء مجمع للغة العربية في هذه البلاد المباركة التي هي به أولى من سواها.
ولا تعنينا هنا طريقة المجلس في الاستدعاء، فهذا من شأنه، ان يستشير أهل الاختصاص أولا يستشيرهم هذا من شأنه.
لكن مثل هذه القضايا يجب ألا تخضع للميول والأهواء الذاتية.
ثم ان هذا ليس بموضوع هذا الحديث، وإنما هي مناسبة اقترن بها عثوري على هذه الكلمة التي طواها النسيان فنشرها بعد طي سببه كثرة ما كتبته في موضوعها عبر عشرين عاما مضت.
وما كنت أدعو إليه فيما مضى قد بدت بشائر التهيئة له، فما فائدة نشر مثل هذه الكلمة إذن؟
إن بداية هذه البشائر تملي نشرها لكوننا لا نريد مجمعا تختلط فيه العامية بالفصحى كما هي حال مجمع اللغة العربية في مصر، بل نريده مجمعا كما كان المجمع العلمي في دمشق ومجمع اللغة العربية في مصر قبل ما يزيد على 60 عاماً، لا كما هي الحال الآن.
هذه مقدمة أرفعها إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد، الذي يتبنى اليوم تحقيق ما أمر به خادم الحرمين الشريفين قبل ما يزيد على خمس عشرة سنة تقريبا، وأنا على يقين من أن صاحب السمو الامير يدرك ذلك تمام الادراك ولكنه التذكير.
لندع الفرصة للكلمة المنسية التي قلت فيها بشأن مجمع اللغة العربية وآدابها في مصر وضرورة انشاء مجمع للغة العربية وآدابها في بلادنا المملكة العربية السعودية.
ما أكثر ما وجه إليّ هذا السؤال وهو:
لماذا لا ننشئ مجمعا للغة العربية في هذه البلاد؟
وكنت أجيب السائلين بأن علينا قبل ذلك ان نستوعب ما قدمته المجامع الأخرى القائمة، وبعد ذلك ننظر في امر امكان اقامة مجمع هنا في المملكة العربية السعودية، فما الذي جد حتى اجعل من هذه القضية موضوعا لهذا الحديث.
لقد كانت المجامع منطلقا لكثير من الاصلاح وميدانا لطويل من الكفاح شهده تاريخ المجامع فيما سلف من عهدها، لكنها اصيبت بداءين، أولهما: إهمال تلك الجهود، وثانيهما: تخلي بعض من تلك المجامع عن هدفها الاساس وهو صيانة اللغة العربية الفصحى، لغة الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتراث الامة الاسلامية، وذلك بما جنح إليه بعضها من تساهل في قبول الشائع من الالفاظ العامية على نحو ما تجده في مثل المعجم الوسيط من ذائع عامية مصر مما يثير سؤالين:
أولهما: هل عجزت الفصحى عن ايجاد البديل؟
وثانيهما: هل عامية مصر هي عامية جميع الاقطار العربية؟
فأما جواب السؤال الاول فقد فرغ من جوابه منذ أزمنة طوال وهو ان الفصحى قادرة على القيام بحق العلوم وسائر المجالات الثقافية بجدارة لا يجادل فيها إلا مغالط ممارٍ أو عاجز مكابر.
وأما جواب السؤال الثاني فمفروغ منه ايضا لا لاختلاف لهجات الاقطار العربية وحسب بل واختلاف لهجات الاقاليم في القطر الواحد، فكيف تفرض عامية قطر على جميع الاقطار؟.
هذا لو جاز قبول إدخال الالفاظ العامية في الفصحى، وما احسب ذلك يصح ان يكون موضوع تفكير فضلا عن جواز قبوله.
لكن ما الذي جد حتى اكتب في هذا الموضوع؟
الواقع ان انتظارنا الانتفاع من ثمار جهود العلماء في تلك المجامع وبخاصة في الماضي قد طال حتى صاروا إلى مالا نرضاه لنا ولا لهم.
لقد بات لزاما علينا ان نتحرك جادين في هذا الامر لكونه من مسؤولياتنا، ونحن مهيؤون لهذه المسؤولية تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وعلميا وجغرافيا أيضا,فبلادنا منبت الفصحى ومهدها الذي نمت فيه وهي مسرحها الذي درجت فيه في ازهى عصورها، ومن افواه ابنائها استقاها رواتها ومدونوها مفردا ومركبا، فكل اهل اللغة عالة في جميع علومهم على ابناء هذه البلاد، وهذا ما لم ينكره أحد على الاطلاق.
وبلادنا اليوم زاخرة بالكفاءات العلمية التي تستطيع القيام بمسؤولية لغة اجدادهم التي هي لغتهم، وفوق ذلك هي لغة الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتراث الامة الاسلامية كما اسلفنا.
والقائم على كل ذلك بحق في هذا العصر هم اهل هذه البلاد، فكيف يقومون بحق التشريع الالهي ولا يقومون بحق لغة هذا التشريع.
ان اللغة العربية وفنونها مسؤوليتهم يجب عليهم ان يقوموا بحقها كقيامهم بحق التشريع السماوي - والحمد لله - وذلك ان اللغة قالب التشريع الذي هو المضمون.
كيف نصر في الادب على تلازم الشكل والمضمون ثم نفرق بينهما في التشريع، أو بعبارة اخرى لانقول بمثل هذا التلازم في التشريع مع ان علماء السلف قد جعلوا حذق اللغة العربية شرطا من شروط جواز الاجتهاد، وحرموا اللحن المتعمد في خطب الجمع والاعياد والاستسقاء وكرهوه في سواها, انني في هذه الكلمة ابين عن تراجعي عن التوقف في القول بوجوب انشاء مجمع لغوي في هذه البلاد وأضم صوتي إلى تلك الاصوات التي نادت بوجوب انشاء مجمع يقوم على شؤون هذه اللغة التي باتت محاربة حتى من اهلها، أو بعبارة اخرى من الذين ينتسبون إليها.
إن إنشاء مثل هذا المجمع بات ضرورة حتمية لكون محاولة هدم هذه اللغة قد جاوز مرحلة الدعوة إلى مرحلة التنفيذ، فهل يجوز لنا ان نقف موقف المتفرج إلا ببعض كلمات الانكار المتناثرة حينا بلا نظام، وبلا جد، لا في القول ولا في العمل.
لقد باتت لغتنا العلمية والادبية خليطا من الصواب والخطأ حتى دعاة الادب الاسلامي صار بعضهم لا يكتفي بالسكوت عن عامي اللفظ، بل يدعو إليه، فإذا كان هذا هو موقف دعاة الادب الاسلامي، فما حال الآخرين، او بعبارة اخرى، فكيف نلوم غيرهم.
ومسؤولية الفصحى مسؤولية جسيمة وعظيمة فرط فيها المتأخرون وهم يعلمون ثناء الباري تبارك وتعالى عليها في كتابه العزيز في أكثر من عشر آيات كريمة صحبت بعضها كلمة لسان كقول الله تعبارك وتعالى:
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) سورة يوسف الآية رقم 2 .
(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) سورة النحل الآية رقم 103 .
( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجميٌ وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) سورة فصلت الآية رقم 44 .
(ومن قبله كتب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) سورة الاحقاف الآية رقم 12 .
ولعلماء السلف في هذا أقوال يطول ذكرها فضلا عن إيرادها فحسبك منها ما ورد في مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام أحمد بن تيمية فارجع إليه هناك.
إن كثيرين من اهل هذا العصر يتعاملون مع اللغة العربية كتعاملهم مع اي لغة اخرى متناسين الوضع الخاص للغة العربية وهو انها لغة مقدسة اكتسبت قدسيتها من قدسية الكتاب العزيز الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
إن مداخل كثيرة في مجتمعنا العربي الحديث باتت تهدد اللسان العربي بالفساد.
أما اللغة العربية نفسها فمحفوظة بكتاب الله العزيز الذي: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) سورة فصلت الآية رقم 42 .
وإنما الخوف على لسان العرب كما اسلفت.
إننا في هذه البلاد المباركة نملك القدرة على ان نقدم الشيء الكثير في خدمة هذا اللسان فلدينا ثلاث كليات متخصصة في ثلاث من جامعاتنا، وخمسة اقسام للغة العريبة في خمس جامعات اخرى، وفي هذه الكليات والاقسام جمهور من علماء اللغة العريبة وآدابها يستطيعون تقديم كل ما يتطلبه الدفاع عن لسان العرب، ولكل منهم سهمه في هذا الميدان، غير ان جهودهم في حاجة إلى شيء من تنظيم، وان يكون العمل جماعيا لا فرديا، فمتى سيكون هذا.
على ان هذا لايمنع الاستعانة بذوي الخبرات من الآخرين لتكون الفائدة أتم وأكمل.
أ,د, محمد بن سعد بن حسين