دانتي ومؤثرات المعراج بالنص والوثيقة د, نذير العظمة |
ظلت اوروبا بخاصة والغرب بعامة في الدوائر المهتمة بأدبنا العربي ودوائر الاستشراق تتخذ مواقف نقدية جائرة بحق هذا الأدب من منظورين :
اولا : منظور نظرية الاجناس
ثانيا : منظور الميثولوجيا.
فأدبنا في نظر الكثيرين من اصحاب هذه الدوائر فقير بالاجناس وفقير بل فاقد لنظام ميثولوجي متكامل على غرار الإغريق والرومان واوروبا الوارثة لهما.
بل هو فقير ايضا اذا ما قيس بالآداب الشرقية القديمة كالصيني والهندي والفارسي,, وربط بعضهم هذا الفقر وهذا الفقدان بتفسيرات عنصرية وعرقية مبتسرة كالقول: ان تنوع الاجناس وتوفر الميثولوجيا مرهون بأعراق بشرية دون غيرها فالساميون مثلا والعرب منهم لا يقدرون على غير الوجدان والغناء، ويصعب عليهم ان يخرجوا من الذات الى الآخر لذلك سيطر على فنهم الشعري القصيدة الغنائية او الجناس Lyric بينما توفرت الحضارات الاخرى على الاجناس المتفوقة كالشعر الملحمي Epic والشعر القصصي Narrative والشعر الدرامي Dramatic وتجاوزوا ذلك الى الطعن بالافكار والاساليب والخيال في شعرنا الغنائي.
وقد نهض لهؤلاء سليمان البستاني في ترجمته المشهورة للالياذة ومقدمتها القيمة وحاشيتها الضافية وفند تلك الاتهامات والدعاوى، واستقرأ ادبنا العربي في ضوء نظرية الاجناس مؤكدا توفرها فيه وإن صنفت تحت اسماء مختلفة، وقام في جملة ما قام به من محاولات التصويب بإعادة تجنيس كثير من الاعمال تحت مسميات الملحمة او القصة كما قام غيره من الباحثين باستكشاف تعدد وجوه هذا الادب وغنى اجناسه المتنوعة, في كتابنا (المعراج والرمز الصوفي) الذي صدر عن دار الباحث- بيروت 1982م بعد ان نشرنا فصوله منجمة في المعرفة مجلة وزارة الثقافة السورية بدءاً من عام 1977م، تناولنا قصة الاسراء والمعراج باللغتين العربية والانجليزية وأحصينا ما ينوف على عشرين قصة منشورة لموضوع الاسراء والمعراج مستقاة من القرآن الكريم والسنة من حيث معمارها الاساسي وشخصياتها ورموزها ولكن المخيلة الشعبية اضافت وبالغت او ضخمت بعض جوانب من هذه القصة بما يلبي حاجاتها الجمالية ذائقة وخيالا، وليس خافيا ان هناك ما يقارب الاربعين رواية لحديث الاسراء والمعراج عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين كلها صحيحة تختلف في اجزاء الرواية وترتيبها لكنها تتفق في عناصرها الاساسية.
واهم هذه الروايات رواية مالك بن أنس، ثم ما رواه ابن اسحاق في السيرة التي اختزلت في سيرة ابن هشام ثم الرواية الشعبية المنسوبة الى ابن عباس وهي اوسعها وتنوف على الخمسين صفحة من القطع المتوسط.
وعلى حين ان اهل الحديث يهتمون بالصحيح منها لتوفر السند، فإن المهتمين بالأدب والفولكلور ينظرون الى ما تراكم منها كموروث شعبي إسلامي افرزته المخيلة المشتركة، ومعمار القصة واطارها العام وعناصرها الاساسية تتوفر في أغلب ما يسمى بقصص الاسراء والمعراج من مجئ جبريل الى الرسول عليه الصلاة والسلام والقيام بالرحلة الى بيت المقدس، والصلاة بالانبياء اماماً هناك، ثم الصعود الى السموات السبع,, ومقابلة النبي الموكل بكل سماء والحوار مع الملائكة لكل منها ثم زيارة الجحيم والنعيم والكلام عمن فيهما.
وقد جرت حادثة الاسراء والمعراج في ليلة 27 رجب في ظروف درامية مأساوية تذكرنا بأجواء الملاحم فبعد ان يئس الرسول صلى الله عليه وسلم من اقناع اهل مكة بالدعوة الحنيفية توجه مع غلامه زيد الى الطائف املا بأن يقتنع اهلوها بهذه الدعوة، لكن اهلها آنذاك قابلوه بالرفض واخرجوه من المدينة ورجموه بالحجارة حتى شج رأسه وفي ذلك الظرف بالذات حدثت رؤيا المعراج التي رواها الحديث وطورتها المخيلة الشعبية الى قصة كاملة مستقية مادتها من التفسير والاحاديث معا.
والغالب المرجح ان الاسراء اي الرحلة من مكة الى بيت المقدس ذكرت في التنزيل في مطلع سورة الاسراء (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله,,).
اما المعراج اي الرحلة من بيت المقدس الى السموات العلى فالعرش ومخاطبة الله جل شأنه هي من الحديث الذي تضمنته الكتب الصحاح, كما تضمنته كتب التفسير في تنوع لا يتنكر للأصول الواحدة، وان تفرد بعضهم بتفسير سورة النجم على انها تشير الى العروج والغالب انها تحكي تنزل الوحي على الرسول الكريم ومع ان صيغة الحادثة تنوعت تسميتها حديثا او قصة، فالحديث للمسند والقصة للمركب والمؤلف والمتخيل,, إلا ان ما قرأناه من موروث هذه المادة يجعلنا نطرح مجددا مشكلة التجنيس لا سيما للقصة المنسوبة لابن عباس او لغيره.
فهي دون ريب اشبه بملحمة رغم انها استقت عناصرها الاساسية من الحديث والتفسير ولكن ينطبق عليها ما ينطبق على الملحمة من شروط كالظروف المأساوية التي تحيط بأبطال الملاحم.
والقصة بالدرجة الاولى رحلة في اتجاهين افقي من مكة الى بيت المقدس, وعامودي من بيت المقدس الى العرش، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يروي الرحلة وقائدها جبريل عليه السلام.
وشخصياتها الانبياء والملائكة والبشر الذين ارسلهم الله الى الجحيم عقابا لما اقترفت ايديهم من اثم او الذين انعم الله عليهم بالجنة لتقواهم وصلاحهم ومسافة الرحلة بين مكة والمسجد الاقصى والسموات والعرش ثم العودة، تتوفر على وحدة الزمان والمكان ووحدة الموضوع التي تتوفر في الملاحم، كما ان الرحلة والشخصيات التي تناوبت اثناءها هي اشبه ما يتوفر في الملاحم في هذا الخصوص.
الا ان الملاحم تنظم شعرا بينما قصة الاسراء والمعراج الشعبية ارسلت نثرا وان نظمها بعض الشعراء او رواها بنثر مسجع وتأثير هذه القصة تجلى في ثلاث دوائر.
الدائرة الاولى: دائرة الأدب العربي والفلسفة، كرسالة الطير لابن سينا والسهروردي وعنقاء ابي حامد الغزالي، ورسالة الغفران للمعري ورؤيا البسطامي وكتاب المعراج للقشيري وثورة في الجحيم للزهاوي وشاطئ الاعراف لمحمد عبدالمعطي الهمشري وبين اللا نهايتين لمحمد السحراوي.
والدائرة الثانية: هي الادب الفارسي بدءاً من سنأتي في سير العباد الى ارض المعاد , ومنظومات فريد الدين العطار ستة آلاف بيت في موضوع المعراج وكتابه منطق الطير الذي هو معراج ولكن للطير.
والدائرة الثالثة هي دائرة الأدب الاوروبي، ولا سيما ملحمة دانتي التي اصبحت مؤثراتها الاسلامية من اهم الدراسات المقارنة التي دشنها آسين بلاتيوس واكملها كل من مونيث خوزي سندينو وأزيكو تشيرولي، كما درسها كاتب هذه السطور ود, صلاح فضل في مصر وعلى حين انني استفدت من نتائج ابحاث المستشرقين الاسبان وطروحهم ووثائقهم, إلا انني توسعت فيها كما اضفت مؤثرات هامة للقصة في الادبين العربي والفارسي.
ولتوفر شروط الملحمة في قصة الاسراء والمعراج اسميتها ملحمة لا قصة,, والفارق واضح بين الملحمة والقصة,, فإن كل ملحمة تنطوي على قصة ولا تنطوي القصة على ملحمة.
فليس غريبا ان تؤثر في ملحمة دانتي وعلى شاكلتها بعض ملاحم الفرس من قبل (سناتي والعطار) ورسالة ابي العلاء المعري التي اسماها سليمان البستاني بالملحمة وغير ذلك من الاعمال التي تأثرت هي نفسها بنصوص الاسراء والمعراج.
لقد طرح اسين بلاسيوس مسألة كوميديا دانتي والمؤثرات الاسلامية- وهو مستشرق اسباني- طرحا علميا في مطالع هذا القرن (1919م)، فأحدث هزة كبيرة في حقل الدراسات المقارنة، وتقدم بأطروحة متكاملة عرضنا بعضها في صدر هذه المقالة، وركز بلاسيوس على القرائن النصية بين رائعة دانتي وجملة من الاعمال الاسلامية في صدارتها قصة الاسراء والمعراج بالاضافة الى مؤلفات ادبية وصوفية اعتقد بلاسيوس انها اثرت على الشاعر الايطالي, لكنه اي بلاسيوس لم يتقدم بوثيقة تاريخية تثبت هذا التأثير على طريقة الفرنسيين في الدراسات المقارنة واكتفى بالقرائن النصية,وكان في طليعة من اعترض على اطروحة بلاسيوس المستشرقون الطليان بخاصة وانصار الدراسات المتعلقة بدانتي بشكل عام لانهم يستكبرون ان يكون شاعر اوروبا المسيحية مدينا بعبقريته الى مصادر اسلامية ولعل المستشرق غابرييلي كان يعبر عنهم حين قال: ان دانتي لا يعرف العربية وان العلاقة (النصية) بين ملحمة دانتي وقصص الاسراء والمعراج غير متوفرة.
لكن هذه المناظرة التاريخية بين الدانتيين وخصومهم لم تقف عن حد القرائن النصية بين عمل دانتي والمصادر الاسلامية, ففي عام 1449م قام عالمان جليلان بنشر مخطوط لترجمة قصة الاسراء والمعراج النسخة الاندلسية (والمغربية) الى كل من اللغة اللاتينية واللغة الفرنسية برعاية الفونسو العاشر الملقب بالحكيم في عام 1264م في مدرسة اشبيلية للترجمة التي كان يتعهدها ويرعاها, وهذان المستشرقان هما الاسباني خوزي مونيث سندينو والطلياني ازيكو تشيرولي دون ان يعرف الواحد منهما مشروع الآخر، واعتمد كلاهما على المخطوطات المتوفرة ان في مكتبة اكسفورد او مكتبة الفاتيكان.
واضاف سندينو بأن اعاد بناء الترجمة اياها باللغة الاسبانية الحديثة لأن الترجمة الى اللغة القشتالية (الاسبانية القديمة)، قد ضاعت.
وكنت من أول الذين نبهوا الى هذه الترجمات التي اطلعت عليها من خلال ما قدمه المستشرق سندينو فنشرت دراسة عنها في مجلة المعرفة مجلة وزارة الثقافة السورية عام (1979م) وترجمت عن الفرنسية القديمة عناوين ورؤوس موضوعات نسخة قصة الاسراء والمعراج الاندلسية التي تمت ترجمتها برعاية ألفونسو العاشر قبل ان يبدأ دانتي مخطط الجزء الاول من ملحمته الشعرية (1305م).
وكان محمد غنيمي هلال قد طرح في كتابه الادب المقارن المسألة في اطار الاجناس الادبية واشار الى عمل كل من سندينو وشيرولي في الهوامش.
وقد قام د, صلاح فضل في كتابه مؤثرات الثقافة الاسلامة في الكوميديا بطرح المسألة بشكل موسع (1980م) الصادر عن دار الكتب المصرية, كما خصصنا لها بابين كاملين في كتابنا المعراج والرمز الصوفي الصادر عن دار الباحث بيروت (1982م).
وهكذا فان الدراسة النصوصية التي اجراها آسين بلاسيوس في مطالع هذا القرن وجدت ما يدعمها من وثائق الترجمة لقصة الاسراء والمعراج بل اطول نسخة منها الى لغات الثقافة المهيمنة في عصر دانتي اللاتينية والفرنسية والاسبانية القديمة قبل البدء بكتابة الجزء الاول من ملحمته باربعين عاما (1305م).
فالقرائن لم تعد نصوصية فحسب كما في دراسة بلاسيوس فدراسات كل من خوزي مونيث سندينو الاسباني وأزيكو شيرولي الطلياني حسمت المسألة لصالح المؤثرات الاسلامية وان اختلف على كيفية هذا التأثر الأمر الذي تعرضنا اليه في مقالات سابقة.
|
|
|