حين غنت الزرقاء,. قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشعر؟ للشاعرة ثريا العريض 5-7 د, محمد محمود رحومه |
ثالثا: التشكيل بالصوت:
ماذا نقصد بالتشكيل بالصوت؟1 وكيف يعد الصوت عنصرا تشكيليا من عناصر الصورة الشعرية وبنية طيعة تنصاع لدى الشاعرة الى عالم جمالي تبث رؤيتها الفنية؟! وسوف اجيب لاحقا عن هذا كله ذلك ان الاجابة كامنة في تحليل بعض الصور في هذا الديوان الذي احتفلت فيه الشاعرة بظاهرة الصوت وجعلته عنصرا عاملا فاعلاً مؤثرا كما سترى,, ولكن لماذا الصوت؟1, تذهب الشاعرة اننا ننفرذ بين شعوب العالم في التعلق بالصوت: بتنغيمه وتقطيعه وتجميله وتفخيمة!! ونبالغ احيانا فنحقق وجودنا بالكلمات، مجرد الكلمات، ويشهد شعرنا الجاهلي الرائع على هذه السمة، ما نزال حتى الان نعتقد في موروثاتنا الشعبية بان نستجلب الاشياء ونستحضرها بمجرد النطق بها, وفي العصر الحالي ذهبنا الى آخر الشوط حين ارتكنا الى مجرد الاصوات واعتبرناها دلالة على تحقيق امنياتنا وكم من انجازات نقدمها لانفسنا هي عباراة عن كلمات جوفاء واصوات في الهواء لامعنى لها.
لجأت الشاعرة الى البحث عن الخلاص بالصوت، واستخدمت الصوت هنا بثلاثة ابعاد، فالاول حين يعني الصوت النداء والتحذير، هو الصوت الايجابي اذن والثاني قد يصبح مجرد صرخات جوفاء في ا لهواء، ونعني به الصوت السلبي اما الثالث فهو الصوت العند ويساوي الصمت، وهو يمثل نوعا من انواع الصوت غير الصوت السلبي فقد يكون الصمت كلاما وموقفا كما سترى,.
وفي كل الابعاد السابقة نجد الصورة الشعرية التي تكشف عن تحولات الصوت والتشكيل الجمالي به.
(أ)الصوت النداء:
في الصوت الايجابي -النداء- حملت الشاعرة النبوءة وواصلت دعوتها التحذيرية، لقد صار الصوت للشاعرة هو الامل الوحيد، والقوم لايستمعون اليها ولكنها تواصل النداء، تقول:
انادي كما انت ناديت ,,لهفى عليك
ماصدقوك ,,وها انا باكية وبنوك
يبيحون آذانهم للرياح ,,ولايسمعون النشيج
هي قد اعلنت الخبر ولم يستمع احد اليها ولكنها تواصل النداء باحثة عن صدى لصوتها, وتختلف النبوءة عن النداء، النبوءة ان تذيع سرا وتتكهن بالقادم وقد سبق الحديث عنها، والنداء -مرة اخرى- هو الاصرار والتحدي ومواصلة استخدام الصوت، هي تدرك مصيرها- كمصير الزرقاء (ماصدقوك) وقد تاكد لها ان قومها (يبيحون اذانهم للرياح) و(لايسمعون النشيج) ومع هذا تصر على اداء رسالتها,ان معرفتها لدورها ياتي من جملة (انادي كما انت ناديت) تدرك الشاعرة دورها مع علمها بصعوبة الاستجابة لا ولكن يظل صوتها املاً معلقا في رقابنا يعلن اننا لم نمت بعد وفينا من ينادي ويستغيث ولابد يوماان يدرك مقصده ويحقق امله, وفي صورة اخرىنرى الشاعرة تشرح لنا الصوت - النداء- حيث تقول:
لك الان ان تصهر الشوك,.
تخطو عليه, ,,وتهتبل اللغة المانحة
تطوع صوتك كي يستجيب ,,ويعلو بلوعتك اللافحة
ان مرحلة الاعداد للصوت النداء تستلزم وقتا وجهداً، ان الامر ليس بسيطاً، انها المعاناة والارادة لكي يخرج صوتك قويا ينادي باعلى طبقانه بالحق, ولن يكون صوتا صادقا ما لم يمر بمرحلة الاعداد التي قدمتها الشاعرة لنا وهي 1-ان تصهر الشوك وتمشي عليه: ان تكوى الحقيقة المتصلبة امامك- فؤادك وتشعل النيران في داخلك، وهذه النيران التي تمر بها لابد ان تعيدك للكون خلقا آخر، اكثر صدقا واكثر قدرة اداء دور النداء، سوف تحرق النار ضعفك وتخاذلك وتعلمك العبر والتحدي,, 2-ان تهتبل اللغة المانحة، وهذه المرحلة نتيجة منطقية للسابقة فالمواقف الصعبة التي مررت بها لابد ان تعلمك البحث عن اللفظة المناسبة، ان الحاجة ام الاختراع ولولا حاجتك للنداء وشعورك بنار الظلم تكي اعماقك لما تعلمت كيف تستنزل اللغة المؤثرة من عليائها, ان اللغة لاتعطيك نفسها الا بقدر ما تعطي انت نفسك للتجربة، وعندما تحس بالخطر الحقيقي اذا بالبلاغة والبيان ينزلان عليك واذا بلغتك قادرة على الوصول الى الناس 3-تطويع الصوت: يصبح صوتك مرنا، ملكالك وحدك وليس ملكا للآخرين (لرغيف الخبز او للسلطة او للقوة) وانما يستجيب لك متى استدعيته لانك احترمته فاحترمك يعطي للكلمات مراتها وآهاتها ونغماتها فتؤثر فيمن حولك، عندها تنطق اللغة بكل الصدق الذي يحتويك وتجد صداها في المحيطين بك, للصوت النداء اصول وقواعد وعلم لدى الشاعرة انها تقنن رؤيتها الفنية، فالقصيدة لديها ليست خاطرة تطلق على عواهلها ولكنها موقف وقناعة وثمن يبذل.
والنداء - الصوت- فيه الخلاص عند الشاعرة، اقرأ قولها:
لك الآن ان تعبر الموت نحوك,, تعتنق الحلق
تفتح للصوت طاقاته المطلقة
على قمة الصبح تبصره يتمادى
اغترف منه فاتحة الفجر
كي تتوضأ مغتسلاً من همومك
قف الان محتفلاً بقدومك,.
واقرأ المتيسر ممتشقاً منطقة,.
لك الآن ان تتمدى بكل المساحات جاهاً وضاداً لغة تتعالى,, تكبر
تحملك الآن للقمة الشاهقة(ص14-15).
تصل الشاعرة في هذا المقطع الى قمة التوحد، والتوحيد، تتوحد مع القيم والنبل والطهارة، تطلق الصوت الذي ينقذها من الموت المحقق، ويعلقها بالامل، ويصح نداء الله اكبر وقراءة القرآن الكريم بصوت عال طريقة الوصول الى القمة، انه الحل الذي تطرحه الشاعرة وسط ركام الهزائم والتشرذم,, وعلى مستوى آخر فإن الصدق في النداء سوف يخلصك من آلية الصوت الفارغة، النداء الصافي الواثق من نفسه يحقق الامنيات ويهبنا القوة والشجاعة فنؤثر فيمن حولنا وتصل رسالتنا وينجو الوطن مما يحاك له,ان (الصبح- والفجر والاغتسال) مقدمات ضرورية لاستخدام الصوت هنا، ان يعلو نداء الله اكبر فهو اعظم من كل نداء واعلى من كل صوت، وفيه تحقيق امانينا باذن الله.
ان الشعور الاسلامي يتملك الشاعرة هنا، وهي تبحث عن الصوت القوة - الصوت النداء الحق الذي ينقذ امتنا من الخوف والتخاذل, صوت النداء هنا يختلف عن اي صوت آخر، انه يتضوأ بالقرآن ويتطهر بالتوجه الى الله سبحانه وتعالى,وليس صدفه ان تكون هناك قصيدة في الديوان باسم النداء تحتاج منا الى وقفة اطول ولكننا سنمر على بعض الصور التي تؤكد راينا على ان نعود اليها في دراسة قادمة إن شاء الله، تقول الشاعرة:
صوت من يتناوبك الآن,,ملتبس النبرات,,؟
صوت من يتدفق عبر شروخك ,,في صرخة جارحة
يتحدى انطلاق السكون ليرعد في اذنيك:
متى سوف تقرأ شوقك للحلم,,؟
تولد منبهجاً بالحياة؟(ص119)
يخرج الصوت - النداء- بالرغم منك, صار الصوت جنيا يقلبك، يتدفق عبر شروخك، فالجراح التي تركها الزمان فيك تتخثر، ويصبح الصوت شفاءها وتحقيقاً لاملها، انها صرخة جارحة نعم، ولكنها صرخة تخرج من المظلومين المقهورين الذين بدت عليهم ظواهر الموت، هم يستيقظون الان، يشرخون الكون باصواتهم ، يتحدون السكون، وينادون، فتاتي الاحلام، وينادون، فتولد حياة جديدة, الشاعرة هنا تجد الصوت في التساؤل، والصوت هنا, في هذا المقطع- نكرة (صوت من - صوت من- صرخة) هل هو صوتها وتنكرة؟1 هل لاتعرف ملامحه لطول اغترابها عنه؟ هل هو صوت الاخرين، اصحاب الضمائر الحية مثلها قد استيقظوا وهي تعلن مشاركتها لهم، وتتبنى اصواتهم وتجمعها في صوت واحد لان المصير واحد؟1 كل هذه الاسئلة تظل مثارة ولن يجيب عنها احد فالنص يقول، وهو في حالة بث دائم، انه نص مفتوح لم ينته القول فيه بعد، وهذه علامات النص الثري.
وفي هذه الصورة يظل النداء هو الامل، تقول الشاعرة:
انك الان تشعر بالغيم في خطواتك.
والريح في شفتيك
انك الان ترتاح للافق ,,حين يناديك تصغي اليك,.
وعند النداء تفيق ,,هلا تماديت منعتقا بوجودك,.
هذا الوجود الجديد العتيق,, ؟يتصاعد فيك النداء
تليق بك الاجنحة ,,تغادر ظلك مثل اليمامة من حرز ايك
لتعبر حزن القفار اليك
موسم للسفر ,,وتبدأ من سورة الفاتحة,,(123)
آخر كلمات الديوان- النداء هو الحل، توظيف للاصوات الشريفة في معركتنا الحضارية مع الغرب، ويظل النداء هو الجناح السحري الذي تطير به الى الافاق، المهم ان يخرج من اعماقنا المحترقة الممزقة وسوف نقوى به، وهذه الصورة من اجمل صور الديوان في راينا، ذلك ان بعض تشكيلاتها الجزئية جديدة مثل صورة الغيم في خطواتك، والريح في شفتيك، وكان الريح والغيم يساعدانك لتخرج بصوتك الندي رائعا ماثقاً, انك الان ايها العربي الاصيل- جزء من الكون، تجلى فيك نوره وقدرته، احتواك واحتويته فلماذا تنفصل عنه؟ لماذا ترفض نداء الطبيعة؟ ولم لاتصبح عنصرا تنتظم في جوقتها وهي تغني للحياة؟! الافق يناديك، وعليك ان ترد النداء، وعند تحقيق النداء تكون قد وصلت الى قمة اهدافك وحققت انتصارا كبير اعلى الحياة، ان الكون بروعته يعلمك النداء وعليك ان تستجيب لنداء الحياة اولاً وبذلك تكون قد فتحت مساحات احساساتك واستجبت لحركته، وعندها تتم المعجزة, هل اكتفيت ايها العربي الجديد بان تردد الصوت خلف الافق وكأن الطبيعة تقوم بتدريبك وتعليمك اصول النداء, لننظر الى نتيجة انسجام الانسان العربي مع الطبيعة وتمام التلاحم بينهما ,, وعند النداء تفيق,, وللنداء ليس منك، انه من الطبيعة ولكنك تعي الدرس وتقلد النداء ثم تمر بالمرحلة الثانية، فمن داخلك، من اعماقك سوف يتشكل النداء وينبت لك اجنحة تطير بها الى المستحيل.
|
|
|