هل اللغة وسيلة الاتصال فقط!؟ وكيف يمكن للكاتب او الصحافي ان ينقل الصورة التي يختزنها في مخيلته او الفكرة التي يود ايصالها للمتلقي دونما نقص او زيادة؟ لا مناص ونحن نطالع هذا الكم الهائل من المقالات الادبية والعلمية والصحافية المتنوعة محليا وعربيا وحتى عالميا من تصور العناصرالتي تتشكل منها الصورة او الفكرة التي تستحوذ على مخيلة الكاتب او فكره ليصوغ منها تجربته الكتابية بأبعادها الثقافية والاجتماعية واللغوية في اطار الهوية الحضارية التي ينتمي اليها مثلما يفعل الفنان والنحات والرسام والموسيقار, تلك العناصر التي تتعامل ككل متكامل ضمن ذاتية صاحبها في موضوعية بحثه او مادته تكون المقياس في العلاقة الثنائية التي تتم من خلال القراءة او المشاهدة او الاستماع، وتكون (الرسالة) في هذا الاتصال: الحكم من المتلقي على المرسل.
ترى ما الذي يميز كاتبا من آخر؟ ولماذا نجد انفسنا مشدودين لقراءة بعض الكتّاب اكثر من غيرهم؟ أهي الفكرة او الرؤية التي ينطلق منها الكاتب ام مقدرته اللغوية بكل ما تحمله من مدلولات بلاغية ومضامين سياقية! ام أنه الاسلوب من حيث سلاسة تركيب ه وجزالة لفظه بشكل عام! ام هو الموقف الذي يحدد جرأة الطرح وخصوصيته وصدقه وعلاقته بطبيعة الموضوع!؟
ان مقدرة الكاتب على معالجة فكرة ما وتمكنه من ايصالها الى القارىء مهما بلغت من الاهمية والقبول من حيث ارواء عطشه او الاجابة عن اسئلة تراود ذهنه وتستعصي على الارتياد دونما دليل او مرشد لسبر اغوار المعرفة، والوقوف على قيمتها الابداعية هبة ورؤية وطرحا هي من اساسيات نجاح الكاتب, ولكن بدون اللغة السليمة تظل في اطارها التجريدي تفتقر الى وهج عملية الاتصال التي هي المحور المفصلي في فعل الكتابة.
قد يقلل بعض العمليين من شأن اللغة او يقلل من تأثيرها في عملية الاتصال الثنائية, وقد يغيب عن اذهاننا في كثير من الاحيان اهمية تمكن الكاتب من أدواته اللغوية, فبدون ذلك تتعرض الفكرة للتشوش والضبابية وربما الجنوح لسطحية الطرح بما لا يخدم المنظور الفكري بل من المحتمل ان يكون عاملا في طمسه او وأد الفكرة قبل تخلّقها, ولان اللغة هي وسيلة الاتصال والتبادل والتفاهم، يتضح جليا التمكن من مستوى الاداء اللغوي بشقيه النحوي والبلاغي هذا المحور الاساسي الذي من خلالها يتمكن الكاتب من مناقشة فكرته بجدية ووضوح وعرض قضيته مهما تعقدت مداخلها وتشابكت مع قضايا اخرى سيان ان كانت ذات علاقة رئيسة ام فرعية بفكرته الاساسية.
لا تقتصر البراعة في التمكن من اللغة على سلامة استعمالها فقط فلابد للكاتب الناجح من طريقة عرض تغري المتلقي وتثير فيه شهوة الاستزادة وربما الرغبة في تبادل حسي مع الكلمة, هذا المفهوم الأشمل للتجربة الكتابية ينحصر في (اسلوب) الكاتب من حيث سلاسة الترابط اللفظي وجزالة اجزائه الكلامية, وقديما قال سقراط: الرجل (الانسان) هو الاسلوب: فالاسلوب هو الثوب الذي يعكس مظهريا شخصية كاتبه كما يجسد في الوقت ذاته جوهره ومحتواه على مستويات عديدة تلمسها في عمق الرؤية ونستشف منها صدقية التفاعل وجدية الطرح, وكما تختلف طرق التعبير وتتباين كذلك تتعدد الاساليب فمنها الممل الذي يحول بين القارىء وبين متابعة القراءة حتى وان كان الموضوع شيقا او مثيرا او اثيرا, وهناك الاسلوب الابتكاري الشائق الذي يأخذنا فيه الكاتب معه الى خصوصية المعالجة ويمتعنا بحركية اللغة فنجد انفسنا نتابع القراءة بنهم وشوق وعلى عكس الاول فهو يخاطب حواسنا الخمس بكل ما تغدقه علينا من نعم الامتاع والاستمتاع وبالتالي يكون صاحب هذا الاسلوب قد نجح في ايصال الصورة وتبليغ فكرته للقارىء دونما اضطراره للجوء الى الوسائل المساعدة لفتح الشهية او الاخرى التي تخفف من عسر الهضم!
ان واقع العصر بكل معطياته التقنية وتسارع ايقاعاته يفرض على الكاتب التعامل مع الكتابة بشيء من الابتكارية والابداع بعيدا عن المطولات التي يجنح فيها بعض الكتاب للاطناب الممل او استخدام المفردات المقعرة او اللوحات الغريبة عن العصر والواقع والمعايشة ناهيك عن اجترار الافكار التي هي في عداد المسلمات والبديهيات.
والكاتب الناجح لا يغفل اهمية دور المتلقي في الاستجابة وقبول القراءة مع الاخذ بالاعتبار مستوى ثقافته وتمكنه من اللغة ومقدرته الرؤيوية, فمن اهم شروط نجاح الكاتب او الصحافي ليس فقط امتلاك الاداة المناسبة والاسلوب الملائم مع وضوح الصورة او الفكرة بعناصرهما الاساسية الصحيحة ومن ثمة عرضها بطريقة سليمة وواضحة ومبتكرة، بل مقدرته على تحدي عقل المتلقي دونما اقحام او قسر لتثير فيه عناصر القبول او الرفض وتصبح هذه العلاقة التحاورية/ محاولة الاقناع من طرق والاقتناع من الطرف الآخر، شرطا اساسا في قبول الكاتب من القارىء وبالقدر الذي تتقارب فيه ثقافة المتلقي وتمكنه من لغته وفهمه لمكونات الفكرة او الصورة موضوع العلاقة تتحدد منزلة الكاتب والحكم على نتاجه.
اذن هذه العناصر مجتمعة والطريقة التي يتم العرض بها تمكن من الانفراد بمنزلة مميزة في (مملكة) القارىء يضاف الى ذلك بعد آخر يشكل الحد الفاصل في تميز كاتب ممن سواه! ومع صعوبة تحديد ما هية هذا البعد الآخر او الاحاطة بتفاصيله الا انه مهم وقد يقترب من ذاتية الخصوصية اكثر من موضوعية الشمولية.
وصعوبة التحديد تلك التي تلي سهولة الوصف لها ارتباط بعوامل محسوسة اكثر منها ملموسة، فالنتاج الذي يحمل بصمة خاصة من مكنون صاحبها تؤثر في النفس وتسير بها متتبعة الصورة الكتابية وانثناءاتها على المستوى البصري ومضامينها في الجانب النفسي, ونستشف مع هذا الانسياق او التتابع النقلي المحبب بحركاته المتئدة او المتسارعة الملامح الوجدانية والنفسية للكاتب او لصاحب الصورة, في مثل هذا الجو الحميم الذي يستغرق فيه القارىء تفاصيل الصورة وجزئياتها ويلم بمجمل الفكرة نستشعر صدق الكاتب مع ذاته وقدرته على اشعال جذوة الحس الواقعي متمازجة مع افق التخيل لدى القارىء فيحصل القبول وتكتمل عملية المخاطبة اي توازي الفاعلية مع التفاعلية التي هي جوهر عملية الاتصال.
بديعة داود كشغري