في هذه الأيام يعاني المسلمون في كوسوفا محناً قاسية وآلاماً شديدة من جروح عميقة لا زالت دماؤها تنزف مهدرة رخيصة، يجددها أعداء الله من الصرب مع كل يوم، بل مع كل ساعة في حياة هؤلاء العزل المساكين الذين يتضورون جوعاً ويبحثون عن لقمة العيش والأدوية الضرورية تحت اصوات المدافع والمتفجرات في ساحة الوغى والمعارك الطاحنة التي تشتعل نيرانها بأجسادهم الطاهرة المسلمة، وقد بُحَّت حناجرهم وارتفعت اصواتهم وامصيبتاه واإسلاماه ، واستجابة لهذا النداء وتلبية للواجب الاسلامي تضافرت جهود المخلصين في هذا البلد وفي غيره من البلدان العربية والاسلامية مع جهود المحسنين لجمع التبرعات لهؤلاء ولجميع مستحقيها في العالم الاسلامي لتخفيف وطأة هذه المحن القاسية والظروف الحرجة التي يعانونها.
لقد انهالت على هذه الامة المستضعفة المستهدفة ضربات موجعة لا تفيق من واحدة منها الا تلتها اخرى هي اوسع واعمق منها، وتصدع بعض جدران بنائها الشامخ الصامد فترة طويلة من الزمن، وواجهتها تحديات خطيرة متكررة تولد ولا تموت، ولن يصدها في واقع الأمر الا الله عز وجل ثم تضافر الجهود المادية والمعنوية والتضحيات بالغالي والرخيص في سبيل تخفيف وطأة الاضطهاد والتحدي السافر.
وان من اخطر هذه التحديات تلك التصفيات العرقية الشرسة النتنة الطاحنة التي تدور رحاها في كوسوفا لتكون ثفالتها من اجساد المسلمين، من الاطفال الابرياء والمسنين الذين لا حول لهم ولا قوة في هذه الاحداث، انها معارك حامية الوطيس توقد نيرانها وحوش بشرية ضارية لا تعرف الله طرفة عين، ولا يتحرك فيها ضمير، ولا تحاسبها الهيئات الدولية على ما اقترفت في حقوق الآخرين، وحوش ظالمة جبارة تكالبت على اخواننا المسلمين فاستخدمتهم دروعاً بشرية في مواجهة الضربات الموجهة لهم واراقت دماءهم بأسباب وهمية كاذبة وهدمت مساجدهم ومستشفياتهم وملاجىء ايتامهم واحرقت بيوتهم امام نواظرهم، واضطهدت مدنهم وقراهم ومجتمعاتهم وشردت اطفالهم والمسنين منهم واجبرتهم على مغادرة اوطانهم ومنازلهم، خالية ايديهم ليواجهوا رحلات الهجرة الاجبارية الشاقة التي يصارعون فيها العوامل الطبيعية المضنية، فالجوع يضنيهم والأمراض تفترسهم والثلوج تتساقط عليهم ليل نهار والعواصف الشديدة تواجههم فتثني عزائمهم وتثبط هممهم ويموت كثير من الشيوخ والاطفال والنساء في هذه الظروف الحالكة ومن يكتب له السلامة منهم فستغلق أمامه ابواب المدن والقرى ليعيش في مخيمات اللاجئين ويقف في صفوف طويلة في الظروف نفسها ينتظر لقيمات يقمن صلبه من فتات الخبز اليابس يغمسه في الماء، او الارز الابيض لا يحصل عليها الا بعد الذلة والهوان ومصارعة امثاله من الجوعى والمنهكين وربما كانت ثمناً للاصغاء لتعاليم النصارى واليهود وغيرهم من الأعداء الذين يتسابقون اليهم في مخيماتهم او ينقلونهم الى بلدانهم - كما فعلت اسرائيل - بدعوى اشباعهم وتضميد جروحهم وهم في الواقع يشنون عليهم حرباً اخرى اشد ضراوة وافتك من الاولى، يحاولون بها تحويلهم عن معتقداتهم ومسخ هويتهم الدينية ويساومونهم عليها تحت وطأة الجوع والفقر والمرض.
هذه الظروف الحرجة لا تحتاج الى وقفة طويلة وايضاح وبيان للناس فما يجري على مسرح الاحداث اليومية في الساحة الاسلامية مما نراه ونسمعه من وسائل الاعلام في هذه الايام ابلغ واوضح واعمق اثراً في النفس المؤمنة مما تسطره الاقلام ولكن الذي يحتاج الى وقفة تأمل طويلة ومحاسبة للنفس دقيقة ومنصفة هو موقفنا نحن المسلمين من اخواننا الذين يعيشون هذه الظروف ويخوضون هذه المعارك فيكتوون بنارها ويتكبدون آلامها وويلاتها يستقبلون ليلهم ونهارهم على صوت المدافع والمتفجرات وتتخرّمهم المنايا في المساجد والبيوت والمنتزهات وعلى قمم الجبال وفي اعماق الاودية والطرق الوعرة الشاقة الطويلة يمدون ايديهم الينا فنقبض على ما في ايدينا من مال الله - إلا من رحم الله - نتقلب في نعيم الدنيا وهم يتقلبون في جحيمها، نركب المراكب الفارهة وهم يمشون على اقدام حافية، فوق صقيع يجمد الدم في عروقها ويجلس الاثنان منا على طعام العشرة في صالات الافراح والفنادق والاستراحات فيشبعون ويتخمون ومصير باقي المائدة بأصنافه الى القمامة في كثير من الاحيان، اما هم فان العشرة منهم يجلسون على طعام الاثنين فيأكلون ولا يشبعون نتداوى من تخمة الطعام ومن الارق والاكتئاب والضغط وغيرها من امراض العصر بسبب التفكير في ارصدتنا وحساباتنا وارباحنا وخسائرنا المادية وجروحهم تنزف دماً فلا تجد من اخوانهم المسلمين من يضمّدها، نفرح وهم يترحون ويشتكون الينا فلا نواسيهم ولا نسليهم ولا حتى نتوجع معهم وبصراحة - وان كانت مرة تقطع نياط القلوب - فقد تُسرق الأعراض لتباع في اسواق النخاسين على مرأى ومسمع اهل الثراء فينا.
امام هذه الظروف الحرجة القاسية لماذا لا نسأل انفسنا قبل ان يُطرح علينا السؤال؟! اين حقوق الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟! اين تماسك البناء الواحد؟! اين التكافل الاجتماعي في الاسلام بالزكاة والصدقة؟! اين الغيرة؟ اين حقوق هذه النعم التي تجبى الينا ثمراتها من اقصى الدنيا وأدناها؟ اين الحقوق المفروضة علينا فيما اسبغ الله علينا من نعم لا تعد ولا تحصى؟ نسمع الأخبار ونرى المشاهد فلا تنبسط لنا يد ولا حتى يندى لنا جبين اسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون الحكم الشرعي فيما اذا كان في هذه الأمة من يموت جوعاً وفيها من يزيد رصيده عن حاجته وربما عن حاجة ورثته ويستطيع ان ينقذ به حياة مئات المسلمين من الفقراء والمرضى والجوعى، تذكروا مواقف المسلمين مع اخوانهم كموقف الانصار من المهاجرين وموقف عثمان بن عفان رضي الله عنه والمعتصم ومواقف الاثرياء مع المسلمين في الأزمات التي احاطت بهم في جميع فترات تاريخهم وفي الوقت الحاضر لم نعدم - ولله الحمد - هذه النماذج الخيرة من المحسنين والمصلحين الذين بذلوا ما في وسعهم ولبّوا صوت اخوانهم المضطهدين المحرومين فالجهود الخيرة المشكورة تتوالى من الافراد والجماعات وفي مقدمتها ما نسمعه من التبرعات السخية من ولاة الأمر والموسرين منا من التبرع بالأموال والمستوصفات والمخيمات والسيارات وان مما يثلج الصدر ويسر الخاطر هذا الجسر الجوي الذي امر به خادم الحرمين الشريفين وهذه التقارير التي تنقلها الينا وسائل الاعلام عن مجهودات ونتائج اعمال الهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك التي يرأسها صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبد العزيز ويدعمها مادياً ومعنويا وكذلك رابطة العالم الاسلامي وهيئة الاغاثة الاسلامية وندوة الشباب الاسلامي وجمعية الحرمين وغيرها من المؤسسات والهيئات والجمعيات الخيرية المنتشرة في انحاء المملكة كذلك هذا التنسيق الذي وحد الجهود في اطار نشاط اللجنة السعودية المشتركة لاغاثة لاجئي كوسوفا بتوجيه من حكومتنا الرشيدة حفظها الله.
لقد توالت المحن وانهالت الويلات على هؤلاء المشردين من ابناء عقيدتنا الذين يعيشون معنا تحت مظلة لا إله الا الله محمد رسول الله ويتجهون لقبلتنا وقبلتهم خمس مرات على الاقل في كل يوم وليلة ويمدون ايديهم الى ما في ايدينا فمتى نستجيب استجابة تامة لندائهم ونداء الهيئات والجمعيات الخيرية التي ضاع معظم اصواتها في اودية عميقة واسعة.
متى نستجيب لنداء هؤلاء المنكوبين اللاجئين بين نارين: وطن يحترق ويحرقهم وجيران يناصبونهم العداء ويرفضون اقامتهم بينهم والعيش معهم بل متى نستجيب لنداء الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون البقرة 245, وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقرة 274.
ويتكرر هذا النداء في كثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية قال صلى الله عليه وسلم: احب الناس الى الله انفعهم واحب الاعمال الى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم او تكشف عنه كربة، او تقضي عنه دينا او تطرد عنه جوعا، ولأن امشي مع اخي المسلم في حاجة احب الي من ان اعتكف في المسجد شهرا,,, .
وروى مسلم عن ابي هريرة قال: بينما رجل يمشي بفلاة في الارض اذ سمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فاذا شرجة من الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال فلان، للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لِمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: اني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟, فقال: اما اذا قلت هذا فاني انظر الى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل انا وعيالي ثلثاً واردّ فيها ثلثه ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، لذا ولأسباب كثيرة لا تعد ولا تحصى يجب ان نهتم بأمر اخواننا المسلمين في كوسوفا وفي غيرها حتى يؤرقنا في منامنا ويقض مضاجعنا، بل يفزعنا في يقظتنا لنداوي جروحهم ماديا ومعنوياً ونؤمن لهم مأوى - ولو متواضعاً - يحسون فيه باستجابتنا لندائهم ومشاطرتنا لأحزانهم ويأوون اليه حينما نأوي ويأوي ابناء جلدتهم في العالم كله الى اسرتهم وغرفهم الدافئة بل حينما تأوي الحيوانات الى حظائرها والطيور الى أوكارها ونجود بما في ايدينا من مال الله على عباد الله واذا لم نشاركهم بأنفسنا فلا اقل من ان نوصل لهم الخبز والكساء فلنبادر اخي المسلم الى مشاركتهم آلامهم وآمالهم ولنكن عونا لهم على مآسيهم واحزانهم والله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه، واخوة العقيدة من اقوى واهم الروابط الاخوية بيننا وبينهم.
ان الجبين ليندى حينما نسمع بالتبرعات السخية من غير المسلمين الذين يستجيبون لعواطفهم الانسانية دون ان يحتسبوا وينتظروا الأجر والثواب من الله عز وجل، هذا جيتس صاحب شركة (مياكروسوفت) الامريكي الجنسية يتبرع بمبلغ مائة مليون دولار لتطعيم اطفال الدول الفقيرة ضد بعض الامراض المنتشرة - ومنهم اطفال مسلمون ولا شك - واذا كنا نشكر هذا العمل النبيل ولا ننكره فانه يجب علينا ان نتخذ منه عبرة وعظة، مع ان آمالنا ونحن نتبرع ولو بريال واحد او نتطوع ولو بذرة من الاعمال الصالحة اوسع واعرض من آماله وهو يتبرع بهذه الملايين من الدولارات واستميحكم عذراً بضرب مثل آخر فجمعية رعاية الكلاب في ضاحية من ضواحي لندن تجمع مليوني جنيه استرليني لبناء وحدات سكنية لكلاب لندن الضالة وغيرهم كثيرون ممن يجودون بالملايين لدعاة الافكار الزائفة والمذاهب الهدامة ليشتروا بها عقائد ومذاهب المنكوبين المحتاجين من ابناء جلدتنا وعقيدتنا يعقدون معهم صفقاتهم الخاسرة في مخيمات اللاجئين وفي غياهب السجون وتحت وطأة التعذيب والتكيل والجوع والفقر فهل نحاسب انفسنا حساباً منصفاً دقيقاً نرفع فيه انظارنا ونتعدى بها مواطىء أقدامنا لنصل بها الى مشاهد القيامة وموازين الأعمال والجنة والنار؟! من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا (18) ومن اراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) الاسراء.
انه نداء من كوسوفا بُحَّت به حناجر اخواننا المسلمين وجهشوا به مع بكائهم من واقع مؤلم مرير احرق الأعداء فيه بيوتهم واجبروهم على مغادرتها تحت وطأة القوة بالسلاح وفرقوا فيه بين الوالدين وفلذات اكبادهم وانتهكوا فيه الأعراض وسرقوا بالقوة اموال ومقتنيات هؤلاء المهجرين، انها مشاهد لا يستطيع القلم تصويرها ولا يتصورها من في قلبه حبة خردل من الرحمة والرأفة فهل نستجيب لهذا النداء وقد هيأت لنا الدولة والهيئات والجمعيات الخيرية جسوراً آمنة توصلنا الى اخواننا الذين يمدون ايديهم الينا وهل نضع شيئاً في هذه الأيدي الفارغة ليسد به هؤلاء رمقهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره .
د, حمد بن عبد الله المنصور
أستاذ مشارك بجامعة الإمام