يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
ولعل المكتبات الوقفية تحقق الأمرين: الأول، والثاني من هذا الحديث الشريف، باعتبارهما يجمعان العلم النافع، والاستمرارية في الاستفادة مما تحويه هذه المكتبات، التي تسهم مع غيرها من المكتبات العامة في نشر الوعي الثقافي والديني بين المواطنين.
وفي الكثير من مناطق المملكة يوجد عدد لا بأس به من المكتبات الوقفية، التي تشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وتعمل على تزويدها بجميع احتياجاتها من كفايات بشرية وكتب ومطبوعات ومبان، كما استعدت الوزارة لعقد ندوة علمية خلال شهر محرم الجاري للتعريف بهذه المكتبات وأهميتها في تنمية المجتمع.
وفيما يلي أحاديث لعدد من أهل الرأي والعلم حول هذا الشأن لمعرفة تصوراتهم حول أهمية هذه الندوة والسبل الكفيلة بزيادة أعداد المكتبات الوقفية في المملكة، والاستفادة منها.
إثارة النفوس الخيرة
في البداية حدثنا فضيلة عضو هيئة كبار العلماء وعضو مجلس الأوقاف الأعلى بالمملكة الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع، موضحاً انه من منطلق شعور وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد بمسئولياتها، عزمت مكتبة الملك عبدالعزيز بالمدينة المنورة التابعة للوزارة على إقامة ندوة علمية تعنى بوقفية المكتبات والآثار الإيجابية لهذه الأوقاف، من حيث إتاحة الفرصة لطلبة العلم وللعلماء في الاستزادة من العلم، والتمكن من الاطلاع على الثمرات العلمية من مؤلفات العلماء الموسعة مما لا يستطيع الكثير من طلبة العلم الحصول عليها من غير هذا المجال.
وأضاف فضيلته بأن هذه الندوة تعنى أيضاً بترغيب أهل الغنى واليسار من أهل العلم والمقامات العالية في المجتمع ودعوتهم إلى التأسي بأسلافهم في اقتناء الكتب العلمية ووقفها واحتساب أجر ذلك عند الله تعالى، إيماناً وتصديقاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، أو ولدصالح يدعو له).
وأكد فضيلة الشيخ المنيع على أن وقف الكتب يعطي فائدتين للواقف بعد مماته: إحداهما ما في وقف الكتب من الانتفاع بعلمها، والثانية أجر الوقف، حيث إن الوقف على أعمال البر ووجوه الخير من أكثر الأعمال فضلاً وأجراً.
وأشار فضيلته في هذا الصدد إلى أنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثيراً من أصحابه وقفوا بعض أموالهم في وجوه البر والإحسان ابتغاء وجه الله واستمراراً في العمل الصالح للواقف بعد موته.
تم قال الشيخ المنيع: ولا شك أن مبادرة إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز في المدينة المنورة بعقد هذه الندوة - كحلقة نشاط من أنشطة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد - هذه المبادرة تعني إثارة النفوس الخيرة القادرة على البذل والعطاء في التوجه نحو تشجيع العلم والعلماء، بتيسير أسباب التحصيل والبحث والتحقيق في الجوانب العلمية المختلفة، من علوم شرعية، ولغوية، وتاريخية، وانسانية، وعلوم طبيعية.
واستطرد بقوله: كما تعني هذه المبادرة الفرصة للعلماء وطلبة العلم في التعرف على مكتبة الملك عبدالعزيز، وما فيها من نفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة، ولإمكان النظر في تجميع المكتبات العامة في مكتبة واحدة يتيسر بجمعها مضاعفة النفع والانتفاع، وأرجو أن تحقق هذه الندوة من الفوائد والثمرات ما يجعلها قدوة لغيرها، وسبباً لتكرارها.
الإعلام وفهرسة المكتبات
المتحدث الثاني كان فضيلة رئيس محاكم منطقة تبوك ورئيس المجلس الفرعي للأوقاف بتبوك الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد الذي قال: لا يخفى على طلاب العلم والمعرفة، وأيضاً كل من أراد أن يوسع وسائل رسوخ العلم، أن المكتبات أهم سبل التحصيل العلمي، ومنذ بزوغ فجر الإسلام ورسوخ أقدامه وانتشاره في الأرض والعلماء وطلاب العلم مرتبطون بالكتاب.
وأضاف قائلاً: وقد أدى ذلك إلى اتساع رقعة العلم في شتى صنوفه سواء العلوم المتصلة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو التاريخ أو علوم الأدب أو الاجتماع أو الفلك أو الطب، كل هذه العلوم والمعارف ما كان لها أن تبقى وأن يورث لنا علماؤنا هذا الكم الهائل من العلم لولا وجود الكتاب.
ثم قال فضيلته: ومن هنا ولكون هذه المنزلة راسخة في أذهان علمائنا وطلاب العلم اهتم الجميع بوجود المكتبات، سواء المكتبات العامة أو المكتبات الخاصة، وقل أن يوجد طالب علم إلا ولديه مكتبة تضم بين جنباتها مجموعة كبيرة من الكتب النفيسة، بل هناك مكتبات فيها مجموعة من الكتب النادرة المخطوطة والمطبوعة.
وهناك مكتبات من هذا النوع قد لا تكون معلومة، وقد تكون موقوفة، ولا يستفاد منها، ومن هنا تأتي أهمية هذه الندوة التي ترعاها، وتشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة بصاحب المعالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي - جزاه الله خيراً.
وعن تصوره حيال نجاح هذه الندوة، والخروج بتوصيات لزيادة وتطوير المكتبات الوقفية يرى الشيخ الحميد أهمية أن يسبق هذه الندوة تغطية اعلامية مكثفة عبر أجهزة الإعلام المرئية والسمعية والبصرية لتذكير الجميع بأهمية رسالة المكتبات الوقفية في نشر العلم، وإبراز ما فيها من كتب مفيدة وتذكير الورثة، ومن لديه ولاية على مثل هذه المكتبات بأن الأجر والمثوبة المترتبة على وقف الكتب والاستفادة قد لا تتحقق إلا بالإعلام عنها، والسماح لطلاب العلم من الاستفادة منها.
كما اقترح فضيلة رئيس محاكم تبوك ضرورة عمل فهرسة لجميع المكتبات الوقفية وطباعتها وتوزيعها على الناس، وذلك من باب العلم، وحبذا لو بوبت الفهرسة، وقسمت على نوعية العلوم والمعارف.
وطالب فضيلته - أيضاً ضمن التصورات - أن يعمل تسجيل وثائقي عبر الحاسوب، أو الفاكسملي لهذه المكتبات، وتوزيعه، وجعله في متناول الجميع.
وقال: كما أرى أن يقام معرض شبه دائم تتبناه الوزارة لإبراز أثر المكتبات الوقفية، ومنزلتها.
واختتم الشيخ الحميد حديثه بقوله: إننا سنكون - مع هذه التصورات التي أراها - على ثقة بأن الندوة ستشبع هذا الموضوع، وتعطيه العناية المطلوبة، وعلى ثقة أيضاً -إن شاء الله تعالى - بالخروج بتوصيات تعود بالخير والنهوض بهذه المكتبات لتعم فائدتها.
خطوة في المسار الصحيح
أما سعادة الدكتور علي بن ابراهيم النملة أستاذ علم المكتبات وعضو مجلس الشورى فيرى أن مجرد التركيز على أهمية المكتبات الوقفية هو خطوة في المسار الصحيح نحو زيادة هذه المكتبات.
وأوضح سعادته أن من هذا التركيز يمكن بيان أثر المكتبات الوقفية في التراث الإسلامي، وكون المكتبات اعتمدت كثراً جداً على الوقف، حتى كان يعاب على من يشتري كتاباً في مجتمع فيه مكتبات وقفية.
وأضاف قائلاً: ومن المنتظر أن يزداد هذا التركيز بأكثر من ندوة، وبأكثر من مكان من أرجاء البلاد، تعالج فيها قضايا وقف الكتاب، ويركز فيها على مشكلات الواقف، بحيث يخفف من شرط الواقف، وتتاح الفرصة للتصرف الفني والإداري بالكتب الموقوفة دون الإخلال بكونها علماً ينتفع به أو صدقة جارية.
وقال د, النملة: ثم لابد من التركيز أيضاً على الوقف الاستثماري على المكتبات سعياً إلى تطوير خدماتها، وتزويدها بتقنية نقل المعلومات، وترميم الكتب فيها وصيانتها، وإيصال خدماتها إلى المستفيدين في داخل مدينتها وخارجها، فالوقف لا ينبغي أن يقتصر على وقف الكتب والمكتبات الشخصية التي يوصي بها أصحابها في حياتهم أو بعد وفاتهم - مرحومين مغفوراً لهم بإذن الله -، بل لابد من ايجاد موارد مالية موقوفة على المكتبات القائمة، قد تكون مجالاً للإنفاق العام على المكتبة، بما في ذلك الرواتب والمكافآت التي تسحب الكثير من مخصصات المكتبات واعتماداتها المالية.
وأردف قائلاً: ولا يستبعد أن تمتد مكتبة من المكتبات - بفضل الله تعالى - ثم بفضل الوقف عليها بالمشروعات الاستثمارية التي تدر عائداً مالياً طيباً، وكما يتم هذا الوقف على مشروعات خيرية أخرى، كذلك يمكن أن يتم هذا في مجال المكتبات.
واختتم عضو مجلس الشورى حديثه مشيراً إلى أن هناك هموماً كثيرة حول وقف الكتاب لا مجال لسردها في هذه الوقفة السريعة، مؤكداً أن مجرد إقامة ندوات ومؤتمرات عن المكتبات الوقفية مؤشر طيب تمنى له الاستمرار في أكثر من مكان، وفي أوقات متقاربة.
قسم خاص للأطفال والنساء
ومن جانبه أوضح سعادة رئيس جهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني الدكتور ابراهيم بن محمد أبو عباة ان أسلافنا كانوا يولون أمر الكتاب والمكتبة عناية كبيرة واهتماماً خاصاً، فانتشرت المكتبات العامة والخاصة، وما ذلك إلا لإدراكهم لأهمية العلم وقيمة الكتاب.
وأضاف قائلاً: وقد تسابق أسلافنا من العلماء والفضلاء في اتساع واقامة مكتبات وقفية أودعوا فيها ما لديهم من كتب ومصادر ومراجع علمية، بعضهم فعل ذلك في حياته، والبعض الآخر أوصى بذلك بعد موته، فقامت بذلك مكتبات وقفية كبيرة أفاد منها طلاب العلم والراغبون في تحصيل المعرفة.
وأكد الدكتور أبو عباة أن هؤلاء الأبرار كانوا يفعلون ذلك رغبة فيما عندالله من الأجر والثواب، لكون هذا العمل الجليل من الأعمال الصالحة التي يبقى أجرها مستمراً للإنسان بعد موته عند انقطاع عمله كما حدثنا بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهذا من العلم الذي ينتفع به.
ثم قال: وها نحن نرى اليوم الكثير من هذه المكتبات الوقفية منتشرة في أنحاء العالم، وفي المملكة منها الكثير - ولله الحمد - وهي صروح علمية شامخة ومعالم حضارية بارزة تسهم في نشر الوعي الديني، وتعمل على إشاعة المعرفة بين الناس,, إلا أن هذه المكتبات تحتاج إلى كثير من العناية والاهتمام، لا من حيث وجود الكتاب فقط، بل من حيث اختيار الموقع المناسب والبناء الملائم والإعداد الجيد، ودعمها بالتجهيزات اللازمة، لتتمكن من تقديم المعرفة بأسلوب عصري سهل.
وأردف يقول: إننا بحاجة إلى المزيد من المكتبات الوقفية في مدننا وقرانا، وأن يتم توزيعها في الأحياء بشكل مناسب، ويا حبذا لو ربطت بالمساجد، بشرط أن يكون لها مداخل مستقل، وتبنى على هيئة مكتبة بكل ما تتطلبه من مستلزمات انشائية وفنية.
وأشار الدكتور ابراهيم أبو عباة إلى أن المكتبات الموجودة بالفعل بحاجة إلى دعم وتطوير وتحديث في جميع الجوانب، وأهمها التزويد المستمر، ودعم أوعية المعرفة بكل جديد بحيث يفتح المجال لكل من يرغب في دعم المكتبة بالكتب العلمية الجديدة وفق شروط وضوابط محددة.
وتمنى أبو عباة أن يكون في كل مكتبة قسم خاص بالأطفال، يجد فيه الناشئة ما يحتاجون إليه من كتب وقصص، تناسب مستواهم العمري والفكري، ويا حبذا لو خصصت تلك المكتبات أيضاً بعض الأيام للمرأة لترتادها، وتستفيد مما فيها من كتب في مجالات البحث والاطلاع.
واختتم الدكتور أبو عباة حديثه بقوله: ولعل الندوة المزمع تنظيمها من قبل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المدينة المنورة أن تسهم في الرفع من مستوى تلك المكتبات، وتخرج برؤى وتصورات تسهم في تطوير هذه الأعمال الوقفية الجليلة.
|