المكتبات الوقفية دعامة لنشر الثقافة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة
مع ازدياد الوعي، والاهتمام بإحياء سنة الوقف الخيري لما له من جميل الأثر في خدمة المجتمع في شتى مناحي الحياة في زمن ازدهار الحضارة الإسلامية، تسعى المملكة العربية السعودية ممثلة في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد إلى التوعية بمكانة الوقف، وتنميته، وتطويره للإسهام في تنمية مختلف المجالات الاجتماعية.
وتعتبر ندوة (المكتبات الوقفية في المملكة) التي تنظمها الوزارة في المدينة المنورة في شهر محرم إحدى صور اهتمام المملكة بتنمية الثقافة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتأصيلها، ونشرها.
وقد تم الالتقاء بعدد من المسؤولين في الوزارة لإبداء رأيهم ومقترحاتهم حول أهمية العناية بالمكتبات الوقفية، وما يمكن ان تسهم به في إثراء الحياة الثقافية.
المملكة ومواكبة العصر
يقول فضيلة وكيل الوزارة المساعد لشؤون المساجد الشيخ عبدالله بن حمد الشبانة: لابد لنا - قبل أن نعرض مقترحاتنا - أن نسترجع السبب المباشر الذي أدى إلى ازدهار الحضارة الإسلامية خصوصاً في العصر العباسي، حين كان الاهتمام بنشر الثقافة الإسلامية، وتأصيلها مزدهراً.
إن الإقبال على وقف الأموال الطائلة لصالح المكتبات العامة كان كبيراً من ولاة الأمر والموسرين والمسؤولين، وحتى العامة، ليستفيد منها كل راغب في الاطلاع، وزيادة المعرفة، فقد تم الوقف على ترجمة الكتب من اللغات الأخرى إلى العربية، كما حدث في عهد الخليفة العباسي المأمون ، وعلى إسكان العلماء والأدباء والكتاب، وتذليل السبل لهم؛ ليتوافدوا على الإنتاج العلمي والأدبي والفني في أجواء تبعث على الراحة التامة؛ وليتفرغوا لمهمتهم الجليلة.
وأبان الشيخ الشبانة في السياق نفسه أن الأثر الذي ترتب على ذلك كان كبيراً وعظيماً، فقد برز وجه الثقافة الإسلامية المشرق، وزاحمت هذه الثقافة الأصيلة ثقافات سبقتها، فأزاحتها، وتغلبت عليها بما تزخر به من أسباب البقاء والقوة والنماء، حتى أصبحت تلك الثقافة سمة العصر وعنوان الرقي والتقدم فيه إلى درجة أن تستقبل عواصم الإسلام في ذلك الزمن المضيء من يأتي من الشباب الأوروبيين؛ ليتعلموا فيها، وينهلوا من معين العلم والأدب والثقافة فيها، في الوقت الذي كانت فيه بلادهم أوروبا تغط في سبات عميق، وقد كان ذلك كله من أعظم أسباب الإقبال على الإسلام، لدراسته والتعرف عليه، مما يؤدي غالباً إلى الاقتناع التام به، والانضواء تحت لوائه.
وعن رؤية فضيلته في إمكان استعادة هذا السبق قال: لكي نعيد لثقافتنا الإسلامية توهجها الذي كان لها، خاصة وهي تلقى الآن مزاحمة من قبل ثقافات متعددة، فإنه يلزم أن يستشعر المسلمون مسؤوليتهم تجاه دينهم ولغتهم وثقافتهم، فيقفون من أموالهم ما يكفي للنهوض بثقافتنا الإسلامية بمختلف وجوهها وصورها، فتبنى المكتبات العامة، وتزود بالكتب والمراجع العلمية المختلفة، ويوظف فيها الموظفون الذين يقومون على خدمتها وخدمة مرتاديها.
وطالب الشيخ الشبانة بضرورة الوقف - أيضاً - على ميدان الترجمة من لغتنا العربية وإليها في المجالات المختلفة، وخصوصاً تلك التي تمس حاجة الإنسان إليها، وتلبي متطلباته المعرفية والثقافية، وعلى تحقيق كتب تراثنا الخالد، وإخراجه بطريقة تواكب الحياة الحاضرة، وعلى إنشاء المدارس العلمية والأدبية، وتشغيلها، وعلى الوسائل الإعلامية التي تعنى بالثقافة الأصيلة وتقديمها للناس، وهذا - ولله الحمد - هو الاتجاه السائد في المملكة.
واختتم الشبانة حديثه مؤكداً على أهمية الندوة التي تنظمها الوزارة بالمدينة المنورة في عودة الروح إلى مكتباتنا الوقفية العامة، وإثرائها بالمراجع المختلفة لشتى العلوم، وزيادة أعدادها، حتى تحقق هدفها العظيم.
الندوة وفتح جديد
كما أكد المهندس صالح بن أحمد الأحيدب وكيل الوزارة المساعد للشؤون التنفيذية بوكالة الأوقاف من جانبه أن الأوقاف الإسلامية في عصر الفتوحات الأولى وازدهار الحضارة الإسلامية قامت بجهد كبير في سبيل نشر الثقافة العامة من خلال مجالات متعددة، منها إنشاء المدارس، وأربطة طلبة العلم، والإنفاق على تأليف الكتب، وتشجيع العلماء وطلاب العلم، بل تجاوزت ذلك إلى الإسهام في الكثير من المرافق العامة للمسلمين، وفي إعداد الجيوش للحرب.
وأبان فضيلته أن من أبرز ما أسهمت به الأوقاف إنشاء مجموعة من المكتبات العامة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وإستانبول، والقاهرة، وغيرها من البلدان، والمدن الإسلامية.
وأوضح المهندس الأحيدب أن الناس في العصور المتأخرة ضعف توجههم إلى الأوقاف الدائمة، واتجهوا إلى المساعدات والإعانات والتبرعات المقطوعة، وهذا أثر في جوانب متعددة من مجالات العمل الطوعي، وإذا كان هناك من أسباب لذلك فقد يكون منها رخاء المجتمعات الإسلامية، مما أظهر انعدام الحاجة، كما أن تصرفات بعض نظار الأوقاف كانت هي الأقوى من عوامل امتناع الناس من الوقف، ولا شك أن التفريط بهذه المسؤولية تقصير سيحاسب عليه كل مسؤول عنها أمام الله تعالى، إذ يقول سبحانه: }فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه{.
وأشار المهندس الأحيدب في السياق ذاته إلى أن المكتبات الوقفية تأثرت بسبب انحسار الأوقاف وتلاشيها، مما كان له الأثر الواضح في اندثار الكثير من المخطوطات والمطبوعات الإسلامية، التي تحاول المملكة العربية السعودية من خلال نخبة من المحققين الاكفياء الحصول عليها بشتى السبل والوسائل، ومن مختلف الأمكنة، وتعمل على ترميمها، وتحقيقها، ونشرها للإفادة منها.
واستطرد سعادته قائلاً: لا شك أن هذه الندوة المقررة لبحث أمور المكتبات الوقفية في المملكة سوف يكون لها عظيم الأثر في إحراز فتح جديد لتطوير هذه المكتبات، وإحياء عملها الناهض في إثراء الثقافة الإسلامية، ومواكبة الركب الحضاري المعاصر الذي تشهده بلادنا.
وسأل الأحيدب المولى سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه العناية بأوقاف موتاهم، فهي أمانة في أعناقهم سيسألون عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون، مشيراً إلى أن هؤلاء المسؤولين سينالون الأجر الجزيل من رب العالمين، حينما يولون هذه الأوقاف ما تستحقه من رعاية وعناية، تتمثل في الحفاظ عليها، وتنميتها، ومتابعة الصرف على الجهات الخيرية المعنية في سجلاتها.
ودعا الله سبحانه وتعالى أن يجزي ولاة أمرنا خيراً على ما تلقاه الأوقاف وغيرها من اهتمام وعناية ورعاية.
الوزارة وخدمة الواقفين
أما فضيلة الشيخ عبدالله بن ابراهيم الغنام وكيل الوزارة المساعد لشؤون أملاك الأوقاف فقد استهل حديثه، مبيناً فضل الوقف، وأنه من الأعمال الشرعية التي يمتد نفعها وخيرها وأجرها بعد وفاة صاحبها، كما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، لذا كان الوقف من الأعمال الصالحة التي يحرص عليها المسلمون، وكلما زاد الخير والصلاح والوعي في الأمة، زادت معه الأوقاف واتسعت.
ويؤكد فضيلة الشيخ الغنام أن الأوقاف في صدر الإسلام قد أسهمت في نشر العلوم والثقافة بدءاً من: بناء المساجد التي تعد المدرسة الأولى للمسلمين، والتي كان لها أثر كبير في بناء الأمة الإيماني والعلمي، ويوجد حتى الآن الكثير من هذه المساجد الشهيرة - المنتشرة في أنحاء العالم - تم بناؤها ابتغاء وجه الله ومرضاته، وشهدت في عصورها نهضة ثقافية شاملة.
وقال في هذا الصدد: أسهمت الأوقاف في بناء المدارس، والإنفاق على التلاميذ والمعلمين، كما كان للوقف أثر عظيم في انتشار العلم، وتوسعته بين أبناء المسلمين، حيث أدرك كثير من أرباب الأموال قيمة العلم والتعلم فلم ينسوه، ووقفوا له الكثير من أموالهم، كما جعل بعضهم للقضايا العلمية النصيب الأكبر، وخصوصاً مجال نشر الكتب العلمية، وإنشاء المكتبات الوقفية التي تخرج منها الكثير من علماء المسلمين الذين أثروا الساحة العلمية بالعلوم المختلفة مثل: الطب، والفلك، والكيمياء، والهندسة، وغير ذلك، وهذا ما جعل المسلمين يتفوقون على غيرهم من الأمم والحضارات الأخرى.
واعتبر الغنام الوقف سمة من سمات المجتمع المسلم، التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات، وذلك على الرغم مما نسمعه من المجتمعات غير المسلمة ممن يبقي أمواله وقفاً لمشروع ما، أو وقفاً على دار من الدور الخيرية يطلق عليها اسمه تخليداً لذكراه، بينما المسلم هدفه أكبر و أسمى، فهو يتطلع إلى الدار الباقية والجزاء الأوفى من الله جل وعلا.
وأهاب الغنام بالمسلمين إلى معرفة الجهود التي تقوم بها حكومتنا الرشيدة ممثلة في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في هذا الشأن لخدمة الإسلام والمسلمين في هذا الجانب، ويسعدها اتصال الناس بها من خلال وكالتها لشؤون الأوقاف لمعرفة أي المصالح أكثر حاجة ليكون الوقف عليها، بدلاً من تزاحم أهل الخير على مصلحة واحدة كالمساجد مثلاً، وترك باقي المصالح، التي ربما تكون محتاجة للوقف أيضاً، وهذا يعود بالنفع على الطرفين بدلاً من انقطاع المنفعة وضياع الوقف.
وأشار وكيل الوزارة المساعد لشؤون أملاك الأوقاف في هذا الصدد إلى أن صور الأوقاف كثيرة ومتنوعة، منها الوقف على المكتبات العامة؛ لتوفير الكتب والمراجع العلمية اللازمة للباحثين وطلاب العلم، وهو ما تسعى إليه الوزارة من خلال ندوة المكتبات الوقفية في المملكة، وقد أحسنت الوزارة اختيار موقع انعقاد الندوة في واحدة من أعرق المكتبات الوقفية وأهمها بالمملكة، وهي: مكتبة الملك عبدالعزيز بالمدينة المنورة التي تعد نموذجاً حياً للعناية بكتب التراث والمخطوطات والكتب الحديثة.