عشتُ وأسرتي على مدَى اسبوعين متتاليين حدثين من الحزن والايمان، أولهما رحيلُ سيدي العم عبدالعزيز الى دار البقاء، وثانيهُما فقد سيدتي الوالدة الغالية لتلحقَ بآلي ،وآلها، ومَن قضَى من المؤمنين الصادقين، وتدخلَ رحابَ الخلود راضية مرضيّة بإذن الله! كان عزائي وأهلي عزاءَ المؤمنين الصابرين الذين اذا أصَابتهم مصيبةٌ، قالوا انا لله وانا اليه راجعون .
والحمدُ لله من قبل ومن بعد، وصبراً واحتسابا وتسليماً بما قضى الله لنا وقدّر، والموتُ صراطُ الأحياء، لايستأخرون عنه ساعةً ولايستقدمون.
***
اتذكّرُ في هذا السياق مقولةً معبّرة سمعتُها على اكثرمن لسان,, لي فيها عزاءٌ جميل، وللآخرين منها عبرةٌ وذكرٌ, تقول: كل شيء يبدأُ صغيراً وينتهي كبيراً، إلاّ الحزن، يبدأُ كبيراً وينتهي صغيراً!
وفي هذا المعنى بعضٌ من آلاء الله ونعَمِه على الانسان، فالمؤمنُ بقضاء الله، الراضي بقدره، المسلّم بإرادته، يعصمُ الله قلبه بالصّبر، ويحصنه بالايمان، ويُلهيه بشيء من النسيان، كي لايبقى الحزنُ على من فَقَد جاثماً على قلبه، فيُضعفَ إيمانَه، ويشوِّه نَفسَه، ويُفسدَ بدَنهَ!
***
لقد كانت تظاهرةً رائعةً من الحب تلك التي رافقت الحدثين المؤلمين! لم اكد أصدِّقُ ما سمعتُ وما رأيتُ,, وأنا استقبلُ طوفان العزاء مسمُوعاً ومقروءاً، ناهيك بقوافل الزائرين الذين جاءوا من كل فج، وبعضُهم شدّ الرحال من مدن اخرى إصراراً على المشاركة حضوراً!
رأيتُ بأم عيني رجالاً ونساء، منهم مَن وهَنَه السنُّ، ومنهم من أقعده المرض، ومنهم من جارت عليه الأيام، فرسمت أخاديد في تضاريس وجهه,, كلهم جاءُوا معزّين ومشاركين وداعين للفقيدين بالرحمة والرضوان, كنتُ استقبلُهُم وأودّعهم بقلب يفيض رحمةً ومحبةً ودعاءً لهم بأن يُحسن الله خاتمتهم اذا مالبّوا النداء الخالد الى دار البقاء!
***
واحيانا، كان الدمعُ يصرعُ إرادتي وأنا استقبلُ بعضَ كلمات العزاء، فيغشاني شعورٌ مزدوجٌ من الحزن والفرح في آن!
الحزنُ في فقد من كان سبب الحزن،، والفرحُ بحبّ من حضَر أو كتَب لي أو هاتفني عزاء وتأييداً! لم أكن أتوقع، حتى في سُرىَ الحلم البعيد، ذلك الكمّ الهائل من الحب,, رأيت فيه شَهداً من الثقة يروي نَبتَة الايمان والصبر والاحتساب في قلبي,, ويعينني بعد الله على التعامل مع المصيبة,, وتجاوز بعض آثارها,, صبراً وسلوانا!
***
استقبلتُ عَبر الهاتف، الثابت والمنقول، مئاتِ الرسائل المسموعة تعزّي وتوُاسي وتدعو للفقيدة الغالية، وكان بعضُها عجباً!
* أحدُهم اتّصل وذكر اسمه، ولم تكن تربطني به صلةٌ من قبل, تحدَّثَ بتأثّر بالغ عن مقالي في رثاء فقيدتي الحبيبة، بعنوان وداعاً يا ام الرجال ,, تذكَّر والدتَه رحمها الله,, فاختلطت نبرتُه بشهيق الذكرى,, وتعطَّلت لغةُ الكلام بيننا,, وبكيتُ,, معه لوعةً ورثاءً وحُباً!
***
* وأخرى اتّصلت معزية، وفي صوتها حُزمةٌ من حزن,, اعتذرت عن ذكر اسمها، مكتفية بالقول إنها كاتبة ,, وأدركتُ ان لزمالة القلم دموعاً تبوحُ بالكثير من الكلام!
* وهناك اخوة كرام شاطروني الحزن، نثراً وشعراً,, تدفّقت عبر حروفهم لآلىءُ الصدق والرحمة، فلهم الجزاء الأوفى من عند الله!
***
لكلّ أولئك وهؤلاء جميعاً اقول:
شكراً من الأعماق,,لكلّ خطوة برّ سعَيتمُوها,.
لكلّ كلمة عزاء تحدَّثتموها,, او كتبتمُوها,.
لكل ترنيمة دعاء عزفتمُوها,.
لكلّ دمعة حُزن أمطرتها مشاعرُكم,, فسالت لؤلؤاً يزين وجَنَاتكم,, ويشفعُ لإنسانيتكم في رياض الحب والوفاء!
***
وبعد,,فلقد كان فقدي لأمي وعمي عظيماً,, لكن مشاعركم أيّها الأحبّة,, كانت أعظم عندي حضُوراً، وأبلغ أثراً من جُرح الموت: عزاء وصبراً واحتسابا!
والله المستعان!
عبد الرحمن بن محمد السدحان