منعطف النسيان ,, وأحلام مستغانمي1-2 غالية خوجة |
هل الرواية جنس ادبي يُقرأ لانه يحقق (المتعة) والنكهة,,؟ وهل المتعة التي تنجزها رواية ما ، هي تلك اللذة الجاهزة التي يفضلها القارىء دون اي جهد في ممارسة قراءة ابداعية,,؟
ربما سنجد الموافقة على هذه المتعة من القراء العاديين، لكن، في اي منعطف من الاسف علينا ان نموت حين يؤكد لك هذه المتعة ويصر عليها بعض الشعراء والروائيين والقاصين والنقاد الذين يملأون الساحة الثقافية,,؟
لابد من فنيات تُنشىء علائق غير متوقعة بين عناصر البنية النصية، وتنتشلها من عالمها الاول (الواقعي) الى عالمها المتعدد (المتخيل) الذي سيرتفع بالعناصر السردية الى لغة روائية قادرة على نقل الاثر من الكاتب الى القارىء,, هذا ما فعلته رواية (ذاكرة الجسد) للشاعرة والكاتبة الجزائرية (احلام مستغانمي),,؟
من خلال قراءة النص نشعر ان للرواية عناوين مختلفة اثنان رئيسان: اولهما ما حمله الغلاف (ذاكرة الجسد) وثانيهما ما تضمنته السطور، المُركّزة على (منعطف النسيان) كعنوان توارى داخل البنية، ليشحنها مع عنوانها الشرعي (ذاكرة الجسد) باحتمالات التضاد القائمة بين قطبي (الذاكرة/ النسيان) وتنوس بينهما عناوين اخرى مثل (حنين) لوحة الجسور والرموز وولادة (احلام) وانتهاء (الثورة)، ومثل (حياة - الحضور الغائب)، ومثل (كأسك يا قسنطينة,, كأسك يا وطن) و(طقوس غزالة) و(نجمة) و(أبقى خطيئتك الاولى) و(جثث تُنقل من القلب الى الكتاب) و(رؤوس اقلام ورؤوس احلام) و(احلام وقسنطينة ونزار) وهذا واضح للقارىء القادر على ربط كلمة الغلاف النزارية بالنص, ولسنا ندري الى اي شيء غمز الشاعر (نزار قباني) بكلماته: (وسبب الدوخة ان النص الذي قرأته يشبهني الى درجة التطابق فهو مجنون، ومتوتر واقتحامي، ومتوحش، وانساني,,,، ولو ان احدا طلب مني ان اوقع اسمي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بامطار الشعر,,, لما ترددت لحظة واحدة ,, هل كانت احلام مستغانمي في روايتها (تكتبني) دون ان تدري,, لقد كانت مثلي تهجم على الورقة البيضاء، بجمالية لاحد لها,,).
لنفترض ان ذلك من قبيل الاعجاب لاغير,.
سنناقش ما (دوخ) نزارا وغيره، في هذا العمل الابداعي,.
لاشك ان الرواية انبنت على الذاكرة بنوعيها:
(1) - الذاكرة الفردية التي يشخصها الراوي، وهو هنا (خالد - المناضل والرسام).
(2) - الذاكرة الجمعية المنعكسة من خلال شخصية الراوي المعبأة بمتواليات زمنية تشظت بين الحب والحرب والسلام، متسللة بهيئة نافورة من الذاكرة الفردية لتُغرق بالتالي (قسنطينة) كرمز ناب عن خارطة الوطن العربي بمختلف صعده الحياتية: (الوجدانية/ التاريخية/ السياسية/ الفنية/,,)
ما بين الذاكرتين والنسيان، تتحرك مساحة فراغية ملأتها حواس الفصول الستة التي شكلت ، نهايةً، الرواية ,, فكيف توزع الحقل الدلالي على المسافة الفراغية المتصارعة بين الذاكرة والنسيان ، بين الحضور والغياب ، بين منعطفات مخيلة الراوية الظاهر بضمير المذكر وتقنيات السرد الروائي المحمول على (الشخصية = الراوي vision avec ؟ وكيف لنا ان نقرأ النص: هل على انه لمّا يبدأ بعد، كون الراوي عزف على بدايات مختلفة، ام ، على انه بدأ وانتهى، كون الزمن المسرود كان استرجاعيا، ام على المقارنات بين الغرب (باريس) والشرق (قسنطينة) من حيث اللغة والمجتمع ومخلّفات الاول في الثاني، ام اننا نقرأ النص على ابعاد الحالة النفسية للكلمات والشخوص والافعال المتسربة الى خلايا المعنى,,، أم,,؟
لقد تقاطعت وحدات العمل، لتتضافر في انجاز بنيتها التركيبية القائمة على تبدلات المونولوغ، من مونولوغ تحاوري متوجه الى الانا الاخرى (القارىء + احلام) ومن مونولوغ وصفي راصد لذاكرة التاريخ الممزوجة بالامكنة غير المبتعدة عن اللحظتين: الحاضرة والماضية, وكذلك من المونولوغ الاخباري الذي قام عليه السرد وكان طرفا فيه لم يتخلّ عن مزج تبدلاته السابقة بالعادات المتناقضة بين باريس وقسنطينة، وحتى داخل قسنطينة نفسها وهي تقف على حد الموت المعنوي (موت القيم والأخلاق,,) والموت الفيزيقي المتجسد بموت الاخ حسان وعلى حد ناتج عن الموت، لكنه اتخذ شيئا يشبه (الحياة) وهذا ما رصدته تقاليد العرس وفولكلوره وايحاءاته المتعاكسة بين الاشخاص، حيث ظهرت تلك الايحاءات بالنسبة للبطل - الراوية (خالد) حالة,,, توغلت عميقا في جسد قسنطينة اما بالنسبة ل (حسان) وزوجته فقد كانت (سيركا)، اما ما عنته للبقية ، فكانت عبارة عن مصالح لا تحيد عن المقايضة كما انها كانت للعريس (عمار) لا تعني اكثر من زواج ثان من فتاة صغيرة بعمر بناته ، اختارها بالتعيين ليتداول ك(السلعة) اسم والدها الشهيد (سي الطاهر) كباب واسم للمتاجرة بالقيم والوطن,, الم يصبح مسؤولا، ومن اولويات حق ال(مسؤول) ان تكون له زوجة صغيرة ، جميلة ، ومثقفة ، تساعده بطريقتها الاسرع والاقصر على تحقيق انجازاته الخاصة على حساب العامة؟,.
(ذاكرة الجسد) رواية قامت على هذه الحدثية لتصوغ الحياة بكل تفاصيلها المعاشة، بكل تقلباتها وخياناتها، وآفاقها الاخرى المنتشرة عبر افكار وجسد خالد وذراعه الغائبة وذراعه الحاضرة ولوحاته التي تختزل احداث النص متكونة ك (رموز) شفافة منها تنسل الروائية الذي تقوله والذي لا تقوله.
علائق التبئير والرغبة:
تتوارى الكاتبة وراء شخصية (خالد) لتجعلها ذاتها الحاضرة، المتحركة من خلال ذاتها الغائبة التي لا تطيل مسافة غيابها، بسبب حضورها عن طريق الضمير الأنثوي المخاطَب الذي يُحيّر خالدا بكيفية صقل رغباته الكتابية، الوجدانية، الصراعية, هذه الرغبات، بتنوعها، شكلت عوامل الحركة الدرامية للنص، المتولد اساسا على تحولها وانفلاتها من حيز حدثي لآخر، لتتآلف في العالم الدلالي للبنية على هيئة سردية كثفت بعدها المونولوغي في التشظيات الناتجة عنه: الديالوج العائد الى (ذات) الشخصية خالد من الذوات الاخرى (سي الطاهر/ عتيقة/ احلام/ كاترين/ سي مصطفى/ سي الشريف/ زياد/,, اضافة الى الذوات الحاضرة من خلال عملية التضمين ك(مونتيرلان/ كونكور/ مالك حداد/ فان غوغ,,), والى جانب الديالوج تنامى البعد السيري متناغما مع محور الرغبات ومنتقلا منها الى مشهديات النص كفضاءات وشيعية قاطعت الزمكانية الواقعية والنصية بالزمكانية النفسية المتخارجة من انا الراوي منذ بداية العمل الابداعي والتي بامكاننا ان نعنونها ب(فاتحة الخواتيم) كونها ابتدأت من نهاية النسيج المروي، تحديدا، بعد دفن (حسان)، حيث يعطي موت الاخ، مسؤولية العودة الى قسنطينة لتربية اولاده، ولهذا، وبعدما يعود (خالد) الى الوطن الذي يزوره اهلوه في حالتي العرس والموت، ويجد نفسه مستقرا في الجزائرة يفكر في منجى لذاكرته على الورق.
اذن ، فنية الرواية نهضت على تكويرية البنية المزدوجة:
(1) التكويرية الظاهرة: وهذا ما تتناوبه صراحة مقدمة النص وخاتمته من خلال تكرار اللازمة (الحب هو ما حدث بيننا ,, والادب هو ما لم يحدث, ص 7/ص 403).
(2) التكويرية الاشارية: وهي ما تماوج من الإحالات بين المشهد الاخير من الرواية، المجسد لعودة (خالد) الى قسنطينة: (يسألني جمركي عصبي في عمر الاستقلال لم يستوقفه حزني ولا استوقفته ذراعي ,, فراح يصرخ في وجهي ، بلهجة من اقنعوه اننا نغترب فقط لنغنى، واننا نهرّب دائما شيئا ما في حقائبنا,, /ص 404) وبين مشهد المفتَتَح اللاحق على فقرة اللازمة (التكويرية الظاهرة) وبالضبط، عندما تضعنا الرواية امام حوارية (خالد وعتيقة):
( - أتريد قهوة؟, يأتي صوت عتيقة غائبا، وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري معتذرا دون اعتذار ، على وجه للحزن لم اخلعه منذ أيام , ص 8).
بنية اتقنت كيف تتقاطع وتتداخل، منشئة فضاء احاليّا للرغبة في الكتابة تملصت من رغبة الرسم واستدرجت تحولاتها المضمَرة الى الظهور عبر قنوات سردية متنوعة بين المسرحة والشعرية واليومي,,، وبين حركة الوهم النابعة من الرغبة في كتابة رواية ستنكتب، ولم تنكتب: (بعضها مسودات قديمة، واخرى اوراق بيضاء تنتظر منذ ايام بعض الكلمات فقط,, كي تدب فيها الحياة، وتتحول من ورق الى ايام ص 8/ ولابد ان اعثر اخيرا على الكلمات التي سأنكتب بها، فمن حقي ان اختار اليوم كيف أنكتب، انا الذي لم اختر تلك القصة ص 9/ ولكنني اصمت,, واجمع مسودات هذا الكتاب المبعثرة في حقيبة، رؤوس اقلام ورؤوس احلام ص 404).
,,, وتنحسم حركة الوهم بانجاز رغبة الرغبة، اي حينما تستعير الكاتبة من بطلها الكتابة ، موحية بانتهائها من الرواية - الكتاب ، قبل ان يبدأ بكتابته البطل: (فربما كنت انا ضحية روايتك هذه، والجثة التي حكمت عليها بالخلود، وقررتِ ان تحنطيها بالكلمات,, كالعادة, ص 19/ متى كتبتِ هذا الكتاب؟ أقبل زوجكِ ام بعده؟ أقبل رحيل زياد,, ام بعده؟ اكتبته عني ,, ام كتبتِه عنه؟ اكتبتِه لتقتليني به,, ام لتحييه هو؟ ام لتنتهي منا معا، وتقتلينا معا بكتاب واحد,, كما تركتنا معا من اجل رجل واحد؟ ص 20).
نقطة الاشتباك هذه ، هي البؤرة الميكانيزمية التي انفتحت فيها ظلال الرواية عن رواية اخرى اخبرنا بها (خالد): (لم اتوقع اطلاقا ان تعودي فجأة بذلك الحضور الملح، ليصبح كتابك محور تفكيري، ودائرة مغلقة ادور فيها وحدي, فلا كان ممكنا، بعد كل الذي حدث، ان اذهب للبحث عنه في المكتبات، لاشتري قصتي من بائع مقابل ورقة نقدية ص 20).
وتتحد الروايتان (الرواية المُخبَر عنها، والرواية التي سيكتبها البطل) في (ذاكرة الجسد) التي صاغتها (مستغانمي) بضميرين: انا المتلكم الانثوية المبثوثة عبر الرواية المخبَر عنها ، وانا المتكلم الذكرية الصاقلة للرواية.
وما بين التواري والظهور، نسج النص ذاكرته معتمدا على رموز تمتعت باتجاهين متعاكسين التقيا في الشخوص، والزمكانية ، والاحداث,.
تفكيك التناقض/
سيميولوجية التماثل:
تتكشف الأصداء ابتداء من الاسماء: (عتيقة) بما في هذا الاسم من اشارية متزاوجة مع الزمن الماض بكل ابعاده المقروءة واللامقروءة فهو بدل على التشبث بتقاليد البيئة الجزائرية من جهة: (فتنسحب لتعود بعد لحظات، بصينية قهوة نحاسية كبيرة عليها ابريق، وفناجين، وسكرية ومرشّ لماء الزهر، وصحن للحلويات, في مدن اخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان، وضعت جواره مسبقا ملعقة وقطعة سكر، ولكن قسنطينة مدينة تكره الايجاز في كل شيء ص 8) كما ان هذا الاسم بدأ ينزع عن نفسه بعض دلالته السابقة، وينخرط في تقليد تقاليد اللحظة الحاضرة من جهة اخرى ، حيث اتجه تفكير عتيقة الى محاكاة اللحظة المعاشة,, بطريقة تميل الى الخروج من ذاكرتها الاولى (البيت القديم) الى ذاكرة قسنطينة الحالية (البيت العصري),, اما الاسم الذي يشاكس دلالات عتيقة فهو (احلام) بكل ما يحمله من دلالة مستقبلية غير قابلة للتحقق واقعيا (زواج احلام من رجل آخر) وابتعاد ذات الشخصية اي احلام، عن ذاكرتها الام (سي الطاهر - والدها الذي استشهد,,) ومن صديقه (خالد) ودخولها الى مساحة الحاضر بطريقة الحاضر.
اما ما بين الاسمين (عتيقة/ احلام) فيلمع اسم ثالث (حياة) كحركة منفتحة على خارج النص عن طريق امكانية تغيير الواقع، وكحركة منفتحة على داخل النص من خلال الاحداث المسقَطة على سلوكات الشخصيات: (الطاهر = الشهيد - الثورة = الذاكرة)/ (خالد = نقيض الفناء) وذلك كطرف اول لم يتزحزح لا عن الاحلام ولا عن الذاكرة، لكنه تزحزح عن الحياة التي اتخذت مفاهيم مغايرة جسّدها الطرف الاخر الملتقي مع (عتيقة) مثل (سي مصطفى/ سي الشريف).
من الطرف الاول نجد ان هناك ظلالا متحركة تتناوب (الطاهر وخالد) وتصر على المتابعة (زياد) الجامع اضافة الى قسنطينة ، فلسطين، بيروت، وباقي الدول العربية.
ضمن اشتباكات الطرفين تتوزع درامية النص ساردة تناقضاتها عن طريق رموز اصرت على الانبثاق بين مشهد وآخر، بين سيرة واخرى، وكأنها بذلك تمتص العوامل الموضوعية ، وتُسقطها من داخل البنية على الخارج، بشكل ايحائي، تبلورت دلالاته عبر الزمن النفسي الذي انكمش معها ك (فجوة توترية) تشظت من الحركة العمقى الى الحركة السطحية ومحورت حولها النص، اي جعلت من شبكة علاماتها ذاكرة للرواية لا تفصح عن نفسها الا في النهاية, واهم هذه الرموز: (الجسر) وتدرجاته اللونية وتحركاته المحتمَلة، وصراع طرفيه مع اللحظة الواصلة بينهما، المعلقة في الفراغ, وهذا ما عكسته لوحة (حنين) كلوحة مصغرة عن اللوحة الام (الجزائر - الوطن) وما تداخلات هذا الرمز مع البنية المنظور اليها من زاوية الرؤية مع سوى اشارة الى هيكلية السرد المنبنية على اساس (لوحة داخل لوحة) غير المترابط ظاهريا، لكنه، متواشج داخليا مع باقي علاماته (الذراع المبتورة) التي صاغت ما قبل (حنين) لتكون دليلا على (الثورة ورجالها وعوالمها) والتي غابت بعدها، لتنحمل على الحياة المتضادة مع حنين , حيث اصبحت الذراع المفقودة تستغل من قبل الآخرين للوجاهة (مثلا سي الشريف، عم احلام الذي دعاه الى عرسها، مثلما دعاه الى العشاء مع اصحاب الاموال والاحوال), ولم تنفك هذه الذراع - العاهة، عن الحضور، محمولة على ابعاد
|
|
|