Sunday 25th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 9 محرم


في الريادة النقدية عبدالفتاح أبومدين ناقداً 3-4
د, محمد صالح الشنطي

ولعله اختط هذا المنهج في بقية مقارناته التفصيلية ولكنه في ختام هذه الموازنات يحدد الإطار العام لهذه الموازنات مؤكدا أنه انما يلم في ختام هذه الدراسة المامات عجلى ليرى العمق ويرى اللفظ والمعنى والأبيات والحقيقة بالوقوف والتأمل، والأخرى التي فيها ضعف في تركيبها وسبكها ونسيجها ويوجز رأيه فيما درس من قصائد مبديا ملاحظات نقدية يعتد بها كقوله عن فقي رأيت أن معجمه اللغوي محدود بالقياس الى الشعراء الكبار في وطنه وخارجه ويومىء الى ان الكثرة قد تؤدي الى ان يكون الشعر نظما، ويشير الى الضعف التركيبي وزج كلمات قلقة لا ترقى في مدلولها الى المعاني العالمية في النسيج الشعري، ويستعرض نماذج من شعر الشاعرين يبين مواطن الضعف والقوة فيها فيصف مطلع القصيدة بأنه بارد فيه ركود وفاقد النبض الى ان يقول هذا ليس شعرا ولكنه نظم راكد، ويشير الى أن الفقي يريد أن ينسج على غرار ما سبق وصفه بالنموذج الساحر لعلي محمود طه، فذلك النموذج في رأيه بعيد الأغوار، اما نظم الفقي فسبحه شلو، ثم يتتبع بعض أبياته ويصفها بانها بعيدة عن دنيا الشعر، ثم يخلص الى حكم نهائي فيقول: لست اريد ان اطيل الوقوف عند هذه القصيدة لانها فاقدة الجمال وهو يقرر أن بحثه جمالي عن السبك والايقاع والمعاني اللفظية يتابع النسيج الشعري وهو بالفعل يؤكد على تجانس التراكيب واتقان الصور والعجز ونبو بعض الصيغ والايقاع من مثل قوله انظروا الى تلك الشينات المتتابعة، أنت رب الشعور والشعر والشاعر إلخ,.
وفي مقارناته الباقية يسير على هذا النهج فيصف على سبيل المثال بيتا للزهاوي فيقول: ألفاظ مرصوصة متنافرة يكسوها وزن وتختم بقافية، ويركز على تتبع التراكيب ويقارنها بما في النثر والسرد القصصي.
وفي هذا الإطار يقارن بين قصيدة جدة لحمزة شحاتة ومكة لمحمد حسن فقي، إذ يرصد الخلل في التراكيب ومواطن الجمال فيها، كما يتتبع الكلمات ومواقعها.
ويتجاوز الناقد المقارنة بين القصائد الى الموازنة بين الدواوين وبعضها مما يعتبر من الشعر الحديث، ولكنه لا يتخذ موقفا جامدا او معاديا من هذا الشعر.
وقد يكون الديوانان اللذان يقارن بينهما لشاعر واحد كديواني الخطراوي واللافت للانتباه انه يصف بعض قصائد الشعر الحديث في الديوان بالمتحررة والقصائد العمودية بالمقيدة بأصفاد الخليل، ويميز بين ما يسميه الوحدة النفسية والوحدة العضوية، وهو يسرق عبارات الإطراء التي تحس بأنها نابعة من اعجاب حقيقي من مثل قوله: وقفز الى أعالي الذرى في أفق الشعر البديع ، ويتوقف عند بعض الهنات العروضية ولذلك يطلب من الشاعر ان يراجع قصيدة رسالة مختصرة جدا لأن فعولن في احايين كثيرة أصبحت فعول مما هز الايقاع مع انها تحدث في هذا البحر، ويكشف عن علم غزير في العروض اذ يشير الى ان تام المتقارب تكون عروضه صحيحة اما الضرب فيكون صحيحا ومحصورا ومحذوفا وأبتر على ندرة تعاب (12).
وعلى غرار ذلك يقارن بين ديواني قلب على الرصيف وعيون تعشق السهر لأحمد سالم باعصب (13).
والولع بالثنائيات التي تتجاوز الموازنة الى عنصري العمل الأدبي مما يلفت انتباه الباحث، اذ تكاد تستغرق هذه الثنائيات كثيرا من عناوين كتبه النقدية من ذلك، شفيق صبري بين الشعر والنثر، وضياء الدين رجب بين الموقف والصياغة فضلا عما اشرنا اليه اثناء حديثنا عن الموازنات وكذلك فانه يهتم بالجانب المضموني ويركز على زاوية واحدة فقط كحديثه عن التيار الديني في شعر محمود غنيم او الرثاء في شعر الجارم.
وجل المعالجات النقدية التي نهض بها ابومدين انصبت على الشعر وعلى المجموعات التي نشرت في فترات مختلفة لشعراء ينتمون الى اقطار عربية متعددة، وقد كرس بعض الدراسات التي تناولت قصائد مفردة او تيارات محددة في اعمال بعض الشعراء ولم يقم بدراسة شاملة في مختلف أعمال شاعر بعينه،, وإن بدا انه اختص طاهر زمخشري بدراسة عدد من دواوينه في مقالات منشورة في أوقات مختلفة، ولكن حرص على ان يدرس كلا منها في سياق ما تم صدوره قبلها مشيرا الى التماثل او التباين في المنحى والأسلوب درس ديوان همسات وأنفاس الربيع وأحلام الربيع وأصداء الرابية للزمخشري كما درس ديوان الأمس الضائع لحسن عبدالله القرشي وديوان قيود للشاعر التونسي عمر السعيدي وليالي الهرم لصالح جودت وديوان اكثر من قلب واحد لشوقي البغدادي ومجموعة الحنين الظامىء للشاعر الليبي علي الرفيعي ومن عبير الصحراء لأحمد عبدالجبار وأحمرار الصمت وديواني ماجد الحسيني حيرة وضياع وعبير الصحراء للشاعرة نداء، وقصائد الجبل لعدد من شعراء عسير، وغيرها من الدواوين.
ويمكن استخلاص أهم المرتكزات المنهجية في دراساته النقدية على النحو التالي:
اولا: العناية بالمقدمات سواء تلك التي يكتبها أصحاب الدواوين أو يقدم بها لهم كتاب آخرون، كما يعرف بالشاعر وديوانه ويعرف بالمكان والزمان الذي نشر فيه الديوان ويدرجه في سياق أعمال الشاعر أحيانا، كما يعرج على وصف اللوحة التي تتصدر الديوان ولوحة الغلاف بالذات في أحيان قليلة، وهذا مما يدخل في إطار ما يسمى بالنص الموازي.
ثانيا: يناقش بعض القضايا النقدية كمسألة التأثر والتأثير كما فعل حينما عرض لديوان الأمس الضائع حيث ناقش مسألة التأثر بالشعر المهجري ورمزية الشعر اللبناني وما الى ذلك، وفي مدخله لدراسة أنفاس الربيع عرض لمسألة الغضب من النقد، وعندما درس ديوان همسات تحدث عن الشعر الغنائي وعدم الحاجة إليه في تلك المرحلة التي صدر فيها الديوان.
وعاد الى بحث موضوع الرمزية في الشعر العربي فقرر عند دراسته لديوان شوقي بغدادي أكثر من قلب واحد ان الرمزية لم تؤثر في الأدب المصري، ثم ناقش مسألة التأريخ للثقافة العربية وتحدث عن دور كل من مجلة الرسالة في مصر والآداب في لبنان، ثم عرج على قضية الأدب والواقعية وتتبع ما جاء في القرآن الكريم دالا على هذا المعنى، وتحدث عن السمة الواقعية في الشعر العربي القديم من خلال حماسة أبي تمام.
وعاد الى مناقشة مسألة التأثر والتأثير لدى دراسته لديوان الحنين الظامىء للشاعر الليبي علي الرفيعي حيث تحدث عن تأثره بالشاعر البياتي وأبي ماضي والشابي وعبدالصبور وكذلك فعل فيما يتعلق بماجد الحسيني حيث تحدث عن روح علي محمود طه ولدى دراسته لديوان عبير الصحراء تحدث عن الخنساء ونازك الملائكة وجليلة رضا,, إلخ.
ثالثا: تتبع السمات الأسلوبية حيث يبدأ بالملمح الأبرز كحديثه عن الموسيقى، وخفوتها ونثرية بعض القصائد، وعرض لقضية جمالية مهمة، وهي مسألة السرد والشعر، وربما خالفناه فيما يقول عن هذا الملمح، ولكنه يأخذنا باستاذيته وثقته ويحكم علينا المنافذ والطرق حتى لا نملك إلا التسليم، ولكنه لا يسترسل في تقصي الملامح الأسلوبية على نحو مكي بحيث يضع أيدينا على خصائص أسلوبية محددة في مختلف قصائد الديوان، بل يعمد الى التتبع الدقيق للألفاظ والتراكيب والخصائص في كل قصيدة على حدة، وتكثر الأحكام الانطباعية الذوقية التي تصدر عن الناقد كقوله عن مطلع او عجز هذا لا يعجبني كما انه يصدر أحكاما واضحة وصريحة وقاسية في بعض الأحيان,, فيصف بعض الأبيات او المقطوعات او القصائد او المعاني بالسطحية والتفاهة والعبث والابتذال والسرف، المبالغة ولكنه يعلل أحكامه في أغلب الأحيان، ويتحدث كثيرا عن الانسجام والاتساق في التراكيب ويشير الى ما يسميه اللعب بالألفاظ او الاحالات الذهنية وفقدان مراعاة النظير ويولي المعاني والدلالات أهمية كبيرة.
رابعا: تتبع الأخطاء والمنزلقات اللغوية الى حد الإحصاء في بعض الأحيان فقد احصى مائة واربعين خطأ في ثمانين بيتا من قصيدة (من وحي النبوة) وأشار الى خلو بعض الدواوين كديوان الشاعر التونسي عمر السعيدي من الأخطاء النحوية الفادحة، ويعمد الى القول أهل اللغة لا يسيغون هذا على سبيل المثال، كما اننا نجد عبارات مثل قوله: نفس الشاعر محدود في القوافي والعجز روي كما يشير الى عدم التماسك والى ان المطلع لا تتجلى فيه روعة الجمال، والى الغلو في التعبير,, إلخ.
في كتابه عن حمزة شحاتة المعنون بحمزة شحاتة ظلمه عصره يؤكد ان ما جاء في هذا الكتاب خواطر مردها قراءة سريعة لشعر حمزة شحاتة (رحمه الله) وكذلك بعض نثره وشيء مما كتب عن هذا وذاك، وإن قرر بأنه قرأ ديوانه بأناة وتأمل ووعي وانبهار على حد تعبيره.
ومنذ المقدمة يومىء الى منحاه في هذا الكتاب فيحدد الهدف بأنه يقصد الى الإلمام بمعاني شعره وما ورد من نثره، وأن معانيه البعيدة الغور تستفز القارىء الواعي.
ويبدأ الناقد بعرض ما كتبه عزيز ضياء رحمه الله في كتابه عن حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف ومناقشته بوصفه شاهدا شارك في الحقبة التي عاش فيها الشاعر، وقد استعرض آثاره مؤكدا ماجاء في العنوان من أنه ظُلم، ويقارن كعادته بين شحاتة والمعري فأشار الى أن المعري عرف ودرس وحفظت آثاره، أما شحاتة فقد اعتزل وانقطع وبعد عن الناس، وحرق ومزق ما بقي عنده من آثار، وأن ما نشر هو ما تبقى عند بناته وأصدقائه، ويحاول ابومدين البحث عن السبب في اعتزاله فيرجع الى محاضرته الشهيرة الرجولة عماد الخلق الفاضل فهو يؤمن بالقوة ويتخذها له منهاجا، وحين فقد الخصال التي رامها انتابه اليأس وقاده الى العزلة والانطواء.
ويتوقف عند تلك المحاضرة ليتمعن في مستوى استاذية شحاتة في اللغة نحواً وصرفاً ومفردات وكذلك قدرة على أداء المعنى وانتقاء الألفاظ ومنهج التحليل للموضوع الذي عالجه كما يقول، ويبدأ من العنوان مستشهدا مدعما رأيه بما يقوله الاستاذ عزيز ضياء عن تلك المحاضرة، ويلمس ملامح منهجه في التفكير حينما يتكلم عن منطقه ورؤياه العقلية وجنوحه الى التجريد ويعرض الناقد لما جاء في هذه المحاضرة من معان، ويتوقف عند أنماط الفضائل ومدلولاتها وتأثيرها ومعطياتها في منهج تحليلي ويناقش قضية الصياغة في العنوان فيبين لماذا قدم الرجولة على الخلق، ولماذا اختار الفاضل بدل الكامل فالكمال غاية والغايات بعيدة المنال، ويخلص من ذلك الى انه يدرك ببصيرته مدلولات الألفاظ فيحرص على الالتزام بما يقول, وفي عرضه لما ورد في هذه المحاضرة من أفكار لا ينقاد الى التسليم بها تسليما مطلقا على الرغم من إعجابه بها، بل يختلف مع صاحبها ويحاوره ويناقشه، فيتوقف عند قوله النعمة لا تبطر معلقا وأنا أرى انها تبطر ويستشهد بقول الله تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى والطغيان هو البطر، وهنا تتأكد النزعة الأخلاقية الدينية التي أشرنا اليها من قبل.
ويتوقف ابومدين عند بعض التركيبات والجمل والحكم واصفا إياها بالجمال وصاحبتها بالفكر الثاقب، ولكن هذا لا يمنعه من الاعتراض على وصف الشاعر للشجاعة بالتصميم، فيقول : والاطلاق لها تجاوز لانه غير حقيقي بالقياس الى أنماط ليس فيهم صفة من هذا الخلق المتدني، وهو لا يعترض على الاطلاق في معنى الشجاعة فحسب، ولكن يتحفظ عند اطلاق معاني الخصال من غير احتياط، ويقول عند تأمله في قضية الكذب عند الشاعر في محاضرته: فلست معه في كل صوره ومعطياته، ويؤكد نزعته الدينية حين يتوقف عند الفضائل كما وردت في القرآن الكريم، ويشير الى نزعته الفلسفية العميقة.
وهكذا فان الأحكام القيمية هي الغالبة، والوقوف عند المعاني هو الأبرز، وحظ الصياغة من التعليق قليل ومحدود وهو اذ يفرغ من مناقشة المحاضرة يتوقف عند كتاب عزيز ضياء عن حمزة شحاتة فيوافقه تارة ويخالفه اخرى، ويناقشه فيما يخالفه مناقشة منطقية، وينكر ما يطلقه من أحكام خصوصا تلك التي يقرر فيها ان حمزة لم يخضع لما يخضع له القمم أمثاله، ويصف ذلك بأنه مبالغة وتجاوز، ثم يستعرض علاقات حمزة شحاتة ومعاركه مع محمد حسن عواد ويحكم عليها حكما اخلاقيا فيصف تلك المعركة بالهجو المقذع، ويستعرض مسيرة شحاتة الثقافية ويطلق ابو مدين العنان لنفسه فيتأمل أحوال ذلك الزمان في توق واضح الى أيامه ويذكر لنا طرفا من وقائع ذلك العصر، خصوصا تلك المتصلة بالشاعر ويتحدث عن معارضات شحاتة، ويمضي مع الاستاذ عزيز ضياء فيؤكد قوله عن أن ما نُشر من شعر حمزة شحاتة قطرة من بحر.
ويشرح الناقد ابو مدين منهجه الذي سيصطنعه حينما يعرض لشعر شحاتة دارسا فيشير الى انه سينحو منحى طه حسين في دراسته للمتنبي اذ يتوقف امام القصيدة التي يدرسها ويعلن عن بيت اعجبه فيقول: ان الشاعر أرضاه وأطربه، ويتوقف امام بيت آخر ويتململ ثم يبوح بأن ذلك البيت غير منسجم في تراكيب ألفاظه وموسيقاه وأن ثمة تنافرا بين الألفاظ التي ضم بعضها الى بعض، ويعلن إعجابه بهذا الأسلوب في النقد مؤكدا انه سيشيد بما يتفاعل مع نفسه من جيده وأكثره كذلك، وسيشير الى ما يرى انه اكتنفه شيء من تكلف لفظة أو صدر أو عجز.
وهذا المنحى الانطباعي التأثري الذي يسبقه الشرح والتفصيل هو الذي يسلكه الناقد، وتتبدى قدرته على التذوق ونظراته الناقدة الثاقبة في ادراكه للخلل في اللغة او الوزن أو المعنى، اما تعليقاته المعجبة فتعتمد على الأحكام المرسلة العامة.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved