Sunday 25th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 9 محرم


قراءات سردية
اللغة السردية
حسين المناصرة

أمر الكتابة قائم على العمل البارع باللغة والنسج بألفاظها في دائرة نظامها، وليس هذا النسج الرفيع الكريم إلا في مقدور الفنانين المتألقين، والكتاب البارعين المتأنقين عبدالملك مرتاض؟!
لم تكن مشكلة ازدواجية اللغة العربية تواجه اللغة الشعرية في تاريخها الطويل مثلما واجهت السرديات، اذ كانت اللغة الشعرية احادية شبه متوحدة ثقافيا، لانها مستلة من لغة الثقافة الرسمية العليا المعبرة عن تمرس الشعراء في سياق اللغة الفصيحة العليا نسبيا، طبعا نستثنى من هذا التصور لغة الشعر الشعبي المكتوب باللهجات المحكية الدارجة والذي لم تحفظ منه ثقافتنا اللغوية التراثية الا الشيء القليل الشائع في السير والملاحم الشعبية.
واذا كانت اللغة الشعرية تعتز دوما بانها لغة ممتلئة بمفردات المعاجم والثقافة اللغوية العليا، فان اللغة السردية لم تحتفل بهذا السياق، لا في ماضيها، ولا في حاضرها، فهي كانت ومازالت تراعي ضرورة التواصل مع جمهور المتلقين بمختلف مستوياتهم، كما تحرص على التشبع بالتراكيب الشعبية العادية المألوفة في سياق الفصيح او غير الفصيح مراعاة لظروف الشخصيات.
وما دمنا نعترف بان اللغة العربية التي نتعايش معها هي عدة مستويات (ابرزها من الناحية الالية اللغة المعجزة، واللغة الفصيحة العليا، واللغة الفصيحة الثقافية، واللغة الوسطى الصحفية، واللغة الدارجة,, ومن الناحية الاجتماعية والثقافية فهي متعددة بتعدد الاشخاص) فان هذا التصور لتعددية المستويات يجعل الكتابة السردية، وهي التي تتفاعل مع شخصيات اجتماعية مختلفة، ذات مستويات لغوية متعددة،، باصوات متداخلة ومتجاورة في السرد، ولا يمكن بالتالي ان تصنف اللغة السردية نفسها في سياق اللغة الشعرية الاحادية، لانها في نهاية الامر لغة سردية متعددة بتعدد الاصوات، ومتنوعة بتنوع التراكيب الثقافية المنتجة في تصور الكاتب عن الشخصيات.
ولعل الاشكالية الرئيسية التي تبرز في لغة السرد هي اشكالية ازدواجية اللغة الفصيحة والعامية، فهناك من يتشبث برفض دخول العامية الى لغة الابداع طالبا من الكتاب ان يراعوا في سردياتهم لغة الحال لا لغة اللسان، ويقابل ذلك وجود فئة اخرى ، وخاصة من الكتاب السرديين انفسهم الذين يرون ضرورة كتابة السرد احيانا بلغة اللسان التي تنطق بها الشخصيات وهي غالبا لهجات دارجة.
واجمالا كانت هاتان الرؤيتان اهم ما انتج في النقد السردي في جانبه اللغوي، وكان الميل العام الى ان تكون اللغة العربية الفصيحة الوسطى الصحفية التعليمية المبسطة هي لغة الكتابة السردية، فتكون بذلكم حافظت هذه اللغة على آلية الفصيحة من جهة، وحافظت على حميمية العلاقة مع جمهور المتلقين من جهة ثانية, ولا مانع في كل الاحوال سرديا ان تكون اللغة العربية الفصيحة متعددة المستويات اذا كانت الغاية هي الحرص على الكتابة بلغة فصيحة مبسطة، في سبيل التقليل من استخدام العامية الدارجة في لغة السرد.
ان التراكيب الفصيحة هي التي تعتمد على سلامة التركيب النحوي، وسلامة الاشتقاق اللغوي وسلامة نطق الحركات,, الخ, في حين تتحول الفصيحة الى دارجة عامية عندما تكسر واحدة من هذه السلامات الثلاث او غيرها فاذا قلنا (سافر الرجلين) أو (دعيتهم الى الندوة)، أو (كيف حالك) بكسر الكاف وتسكين الياء والفاء نكون في سياق العامية، وان الامر يحتاج الى تحويرات بسيطة للغاية لنصبح في سياق الفصيحة، وهي سياق (سافر الرجلان)، و(دعوتهم الى الندوة)، و(كيف حالك) يفتح الكاف والفاء وتسكين الياء,, وبالتالي ليس البون شاسعا كما يظن البعض بين الفصيحة والدارجة في ازدواجية لغتنا.
ولو توقفنا عند مجمل النصوص السردية العربية لوجدناها تستخدم اللغة العربية الفصيحة في مستوى اللغة الوسطى الصحفية المبسطة التي لا تخلو من اخطاء في المفردات والتراكيب على طريقة خطأ شائع افضل من صواب مهمل, وكأن الكتابة باللغة العربية الوسطى الفصيحة نسبيا هي الافضل لأي قارىء عربي من اية لغة دارجة لان اللغة الدارجة عندما تكتب تحديدا تختلف صورتها، فتصبح اكثر تعقيدا بدرجات من اللغة الفصيحة التي تعود عليها القارىء العربي في المدرسة وفي الكتاب، لذلك لم يفضل جل الكتاب العرب الكتابة باللهجات الدارجة، وهذا الموقف بحد ذاته ميزة ثقافية.
***
يكتب عبدالملك مرتاض في كتابه (في نظرية الرواية) مقالة او فصلا بعنوان مستويات اللغة السردية واشكالها ويتحدث في سياق هذا العنوان عن خمس مفردات هي اللغة والمعرفة والحياة واللغة والفلسفة والسيمائية ولغة الكتابة الروائية ومستوياتها واللغة الابداعية بين الوسيلة والغائية واشكال اللغة الروائية: لغة النسج السردي، واللغة الحوارية، ولغة المناجاة .
والغريب ان يعد المؤلف هذا الفصل وكأنه الفريد من نوعه، والاول من جنسه، في الثقافتين العربية، والغربية، كأنه تناسى ان المعركة حول اللغة اصبحت من الاشياء المستهلكة في السرديات منذ منتصف القرن العشرين, ورغم ذلك فانه لم يقدم اكثر مما قيل في هذا المجال باستثناء سلبية الصوت الخطابي المرتفع الذي يطالب به ان تكون اللغة السردية مشابهة للغة الشعرية على نحو قوله التالي الممتلىء بالمترادفات والالفاظ المعجمية المهملة: واذا لم تكن لغة الرواية شعرية، انيقة،رشيقة، عبقة، مغردة، مختالة، مترهيئة، متزينة، متغجرة، لا يمكن الا ان تكون لغة شاحبة، ذابلة، عليلة، كليلة، حسيرة، خلقة، بالية، فانية، وربما شعثاء غبراء , او في قوله: انا نطالب بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرا وتفيهقا .
وكالمه عن اللغة لا يخلو من القيمة المباشرة في توصيف لغة السرديات، اذ يمكن عد الصفحات الثماني الاخيرة، الخاصة بأشكال اللغة الروائية، مجدية، وهي تشير اشارات عابرة الى فضاءات النسيج السردي، والحوارية، والمناجاة، وكان من الاجدر ان يكون الفصل كله متعلقا بهذه الفضاءات الثلاثة تنظيرا وتطبيقا، بدل ان يكون الفصل هجوما غير مبرر على الروائيين وعلى لغتهم دون مبرر، على نحو قوله فقد عهدنا من كتاب الرواية,, لا يتقنون ادوات الكتابة، فتراهم يكابدون من اجل نسج كتابات ضعيفة على مستويات النحو واللغة والاسلبة جميعا ومع هذا القول الخطر لم يفرخ المؤلف في هذا الفصل كتابات كل هؤلاء الكتاب الضمنيين السلبيين من وجهة نظره، فيشرحهم في جسد لغة النقدية المصرة على ان تكون فضفاضة، باستثناء اشارته الى احسان عبدالقدوس, ويوسف السباعي كساردين سلبيين في اتجاههما الى العامية المصرية.
وفي الوقت الذي يقتبس فيه المؤلف من النقد الغربي مقولة ان تكون الرواية مركبة من عدد ضخم من التراكيب والصياغات، ويؤمن بضرورة ان تكون المستويات اللغوية متعددة في الرواية، نجده لا يجد في الرواية العربية المعاصر المستويات التي ينص علهيا النقد الغربي، او ما يجده في الف ليلة وليلة التي يصورها على انها عسل الشهد، مزج بالزبد الطري,, ذوقان في ذوق واحد، او قل: اذواق تشكل ذوقا واحدا وكأن الرواية العربية مقفرة بلهاء.
ثم تغدو نظرية المطالبة لديه نظرية رومانسية براجماتية ونقدية طوباوية لا تعترف بواقع الكتابة العربية المغيبة، في قوله التالي: ان المسألة اللغوية في السردانية تحتاج الى براعة المزج، كالعصير الممزوج من جملة من الفواكه مزجا مدروسا يراعي فيه رقة الذوق,, نشرب عصائر في عصير، ونتلذذ بذلك تلذذا,, اما الطريقة التي طبقها كثير من الروائيين العرب المعاصرين في مسألة المستويات اللغوية، فانها تشبه خلط الخل بالعسل ، والملح بالسكر، والزيت بالماء، وكل شيء بما لا ينسجم مع صنوه وفي هذا القول من التعسف الشيء الكثير الذي لا يحتاج الى اغراء بالهدم.
ان الكلام السابق هو طوباوية الرواية، وربما تصلح روايات عبير ان تكون عصائر كوكتيل مناسبة,, لذلك تصبح اللغة النقدية هنا لغة مجانية اكثر منها لغة علمية ولعل شتم ارضية الرواية العربية بهذا الشكل هو اساءة الى الثقافة السردية العربية، واساءة الى المثقفين العرب، ونرجسية الذات المستعلية المتشبثة بتقديس التراث والآخر الغربي,,! وربما نزعم ان الفقر الثقافي المطلع على النصوص السردية العربية المهمة هو الذي ينتج هذه الشعارات المعيارية المشوهة.
وهكذا يغدو عبدالملك مرتاض في تنظيره للغة السردية مطالبا بان تكون الرواية قصيدة شعر، وبكل تأكيد يريدها ان تكون قصيدة عمودية مثل قصائد ابي فراس الحمداني، او عمر بن ابي ربيعة! لتصبح اللغة المطلوبة لغة شعرية مائة بالمائة، لانه يريد اللغة وجمالها، واللغة واسرها، واللغة وسحرها، واللغة وتجليات تشكيلها، وفعلها وتفاعلها، ومثولها لوحات لوحات امامك وانت تقرأ ، وكأنك تشم عطرا بين الحروف، بل كأنك ترف رضابا بين الالفاظ، بل كأنك ترشف شهدا بين الجمل وفي رأيي ان اي كاتب يصرف وقته في انتاج هذه المرأة اللغوية سيكون بيجماليون ينحت تمثالا لفتاة ساحرة الجمال ، وما ان تدب في التمثال الحياة حتى بصبح موبوءا على الاقل من وجهة نظر توفيق الحكيم في مسرحيته المشهورة عن بيجماليون.
أليست افكار مرتاض طوباوية مثالية؟ ثم الا يعد في هذا الجانب واحدا من النقاد الذين يريدون الرواية ان تكون قصيدة، ولو طارت,, على طريقة عنزة ولو طارت ؟
انه لا مجال لجعل اللغة السردية لغة شعرية، وان كانت الشعرية ميزة في اية لغة ابداعية، بل ان تعديدة اللغة السردية وتنوع مستوياتها تكسب العمل السردي انفتاحا على الاصوات الحياتية كافة، مما يجعل من الرواية صياغة جمالية للواقع مهما حاولت ان تغرق نفسها في التخيل او الوهم او اي فضاء اخر غير الواقع الذي انتجت فيه ولأجله.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved