Sunday 25th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 9 محرم


الرعب

البلدة منبطحة في قعر واد تحفه الجبال من كافة اقطاره,.
انهمار الأمطار يأخذ مساراً بين الهضاب والتجاويف ثم يتسلل الى الأزقة التي تكبح جماحه فتبقيه محاصراً حتى يلملم فلوله، منسرباً الى المنازل المنطرحة في طريقه,, يرتب على اطرافها ويلجها على مهل.
قالت المرأة وهي تهز جسد الرجل النائم وقد شمت رائحة الماء تحت فراشها:
- الماء يهاجمنا,,!!
تحرك الرجل ثم لف رأسه المعصوب بعمته بقوة وتذمر,, وندت عنه شتيمة مغمغمة وعاد الى شخيره الواهن بسرعة,.
مضى دبيب الماء المتقاطر رابتاً على الأطراف التي تجمع حولها في بركة صغيرة تبحث عن منفذ يفك حصارها,.
نظرت المرأة الى بركة الماء بارتياب,, وشعرت بما ينطوي عليه ذلك التجمع من نية لاكتساح العوائق بالتدريج,, اصابها خوف باطني ذكرها بالغرق الذي لا يفرق بين الصغير والكبير,, حين يجتاح المنازل في مدن كثيرة جاء ذكرها في اكثر من مصدر.
سمعت صفير الرياح في اعقاب قصف الرعد الذي هز اركان المنزل فارتعشت واحست بالفزع يغمر قلبها.
تساؤلت بتحسر: متى يصحو هذا الرجل الذي لا يريد ان يعترف بالخطر الداهم؟,, هزته برفق,, وهمست بأذنه مستعطفة.
- سوف نموت غرقاً,, انني خائفة (واغرورقت الدموع في عينيها) تحرك جسده منقلباً الى جانبه الآخر دون ان ينطق بكلمة,, الاحلام غالباً ما تحلق بعيداً في متاهات يستحيل التحكم في اجوائها,, هاربة لائذة تنطلق في ذلك المدى,, متحررة طائشة.
كانت الزوجة الولهى في بداية اقترانهما تنتظر أوبته بفارغ الصبر,, وبدوره كان يحيطها بالكثير من الرعاية والرقة,, بيد انه اخذ يتغير بالتدريح,, فلم يعد ذلك الرجل الذي كان يضيق بالوقت خارج منزله,, كما اخبرها ذات يوم,.
اصحب يعيرها بكثرة الشكوى من امراض وهمية خاصة حين اسقطت للمرة الثالثة دون اكتمال نمو الجنين,, كما ان عرجها البسيط اصبح مادة للسخرية منها,, ومع ذلك تغلبت على ضعفها وفازت بالمولود,, استجابة للدعوات التي لم تتوقف قط وهي تتضرع بها ليل نهار,.
شقت البروق والرعود خيمة الظلام بعنف فصرخت مولولة بفزع ومضت نحو الرجل فحركته من جديد,, فاذا به هامد,, كما وجدته اخر مرة تشبثت به تذكرت انه جاء متعباً هذه الليلة في وقت متأخر ولم يتبادل معها اية كلمة انما اتجه الى مكان نومه وارتمى على فراشه.
انتبهت الى ابنها وهو يغط في نومه لن يكون بعيداً عن هذا التسرب الذي يحف بالمتاع المتناثر في زوايا المكان.
سمعت من جديد ولولة الريح تهز النوافذ والأبواب,, فزاد ذعرها وخوفها بيد انها في ذلك الاضطراب لا تدري ماذا تفعل,, ذرفت دمعة ساخنة ساحت على خدها بحرقة,, بينما اكتسى وجهها الشاحب حزن احال سحنته الى لون ليموني باهت,, ولم تكن تملك سوى ان تتنهد من اعماق قلبها في لجة الحيرة التي تتغشاها,, هزت الرجل عدة مرات بيد انه لم يتحرك,, انما استجاب جسده لدحرجتها دون اية مقاومة.
قالت في نفسها: النوم صنو الموت,, فلا فائدة من المحاولة اليائسة,, لكن الرجل خائر,, فما باله,,؟ هل,,!!.
نهضت نحو مهجع صغيرها,, التصقت به فشعرت بالحرارة تسري في جسدها وهدأ وجيبها بعض الوقت لولا ان انتفاضة الريح وهزيم الرعد قوض تلك السكينة السريعة واعاد اليها ارتياعها واضطرابها خاصة حين ابصرت بركة الماء تغطي مدخل الغرفة بكامله,, صرخ الطفل حين احس بلفح تأوهاتها فأعادت تدثيره معتقدة انها خدشته بأظافرها فربتت على جسده بحنان كي يعود الى نومه بينما عقلها الباطني ود ان يصحو كي يشاركها بعض همومها تمتمت بآية الكرسي بضراعة علها تنعتق من كابوس الليل ودجى الأزقة اذ ان دار والدها تقف على تخوم الجبل في مشارف البلدة,, ولن يتحقق بلوغها دون الخوض في تلك الدروب المعتمة والطرق الموحلة.
كانت تريد ان تهرب بوحيدها جزعاً من كابوس ترصدها منذ عدة ليال,, وقد شكت لزوجها ما تعاني فلم يكن يعلق - وهو يضحك ساخراً- سوى بقوله
- ابحثي عند احد يقرأ عليك,.
وحين اجابته: خدني الى امي,.
رد قائلاً: فيما بعد,, انا مشغول,.
لقد كانت ترى في احلامها تلك ما تجده ماثلاً امامها في هذه اللحظة,, تدفق المياه من كل جانب حتى تغرق,, فتصحو من النوم فزعة مرتعبة,, وجسدها يرتعش مبللة الاطراف,, سابحة في بركة من العرق,, ولما صرخت ذات ليلة,, شعربها زوجها فأفاق من نومه وعندما رآها مذعورة سألها بغضب: ما بك,,؟.
لم تحر جواباً,, فما كان منه الا نعتها ببعض الالفاظ الجارحة وارخى رأسه فوق الوسادة ثم غط في سباته.
ألقت نظرة على محتويات غرفتها بامتعاض والخوف يستبد بها ركضت نحو وليدها تشده الى صدرها محتضنة اياه بكل الحب والأمل,, بينما الظلام الحالك يخيم على المنازل المتراصة وقد أبلاها القدم,.
في تلك الليلة الدهماء ترصد الخوف امرأة مذعورة تتدحرج متعثرة بين الأزقة يغمرها احساس بالضياع ووليدها يصرخ كلما سمع نباح الكلاب وولولة الرياح وصخب الرعد.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved