Sunday 25th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 9 محرم


بوريس باسترناك,, ظل هادئاً حتى النهاية
رضا الظاهر

كيف استطاع بوريس باسترناك أن يبقى على قيد الحياة خلال عقود من الاستبداد ليكتب رائعته دكتور جيفاغو ؟
كان، كما يبدو، الكاتب الوحيد من أبناء جيله، ومن مكانته، الذي استطاع أن يحتفظ، خلال عهد ستالين، باستقامته وسموه، بينما تجنب الاعتقال، أو المنفى الداخلي أو الخارجي، أو الموت أو الانتحار.
وفي مقدمة كتابه الصادر مؤخراً بوريس باسترناك: سيرة أدبية- الجزء الثاني 1928- 1960 يعزو كريستوفر بارنز هذا الأمر الى حيويته، وكذلك، بحدود معينة، إلى حسن حظه .
غير انه كان هناك، كما توضح السيرة، بُعد اخلاقي لحسن الحظ, فلم يلتق باسترناك وجهاً لوجه في الواقع أبداً، رغم انه تحدث معه بالتليفون لفترة قصيرة بعد أن فعل مابوسعه لانقاذ حياة الشاعر أوسيب ماندلشتام، واقترح لقاءً مع الدكتاتور لاجراء مناقشة جادة , حول ماذا؟ سأل ستالين، فأجاب باسترناك حول الحياة والموت ، بينما أقفل ستالين الخط, ولكن باسترنك كان يحدق، بين حين وآخر، في العيون الحاقدة والمرعبة لإمعات الاستبداد من دون أن يرف له جفن.
ويقارنه بارنز ب الأحمق المقدس لبوريس غودونوف الذي يلمح الى حقائق مرعبة بينما يتمتع بالحماية من الانتقام، ومن المؤكد انه كان ساذجاً وشجاعاً في عامي 1938- 1939 عندما كانت عمليات التطهير في أوجها، حيث زج بثمانية ملايين شخص في السجون ومعسكرات الاعتقال، فرفع يديه، كما يذكر إيليا إهرنبورغ، إلى السماء في ليلة ثلجية في شوارع موسكو وصرخلو ان أحداً أخبر ستالين بذلك! .
كان على الدوام وطنياً روسياً متحمساً، وتمسك، رغم كل شيء، بمثاله الخاص عن تلك الوطنية, وحتى عندما هوجم بشدة عام 1937 فضل أصدقاؤه أن يتعاملوا معه باعتباره مثالياً ذاتياً .
وبالاضافة إلى ذلك كان هناك الاعجاب العميق والواسع بعمله الذي كان يحقق له الاحتفاء والترحيب عندما يقرأ أمام الجمهور، الأمر الذي جعل أندريه مالرو يحييه في المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب السوفييت الذي عقد عام 1934 باعتباره شاعر روسيا الأول، والذي ربما كان احد أسباب حماية حياته، وحتى في عام 1949 عندمابدأت عمليات تطهير جديدة في المرحلة الأولى من الحرب الباردة، يبدو ان ستالين نفسه قد أوقف رجال الأمن الذين كانوا يستعدون لاعتقال باسترناك طالباً منهم تركالساكن في الخيمة بسلام.
وعلى الرغم من ان طريقة بارنز البحثية في دراسة أعمال باسترناك وحياته وزمنه هي الاتجاه المعاكس تماماً لطريقة معالجة باسترناك لحياة الدكتور جيفاغو فإن طبيعية مادتها بذاتها تشير الى بطولة ذلك الانسان عبر تلك المحنة اللانهائية من العنف، والحاجة، والبؤس، والخسران، والقسوة، والاذلال، والرعب, فقد وقف باسترناك الى جانب كثيرين فضلاً عن مندلشتام، وأرسل مساعدات مالية، عندما توفر له ذلك، إلى من يحتاجونها، ورفض التوقيع على الادانات الجماعية رغم أنهم وضعوا، أحياناً، اسمه عليها على أية حال ، وبقي بعيداً عن زملائه في لقاءات مطاردة الساحرات، وعندما أدلى شوستاكوفيتش باعتراف ووعد باصلاح طرقهالشكلانية في مؤتمر المؤلفين الموسيقيين السوفييت عام 1948، قال باسترناك، الذي كان قد بعث إليه برسالة تشجيع في اليوم السابقياإلهي، لو أنهم تعلموا فقط أن يبقوا صامتين على الأقل! فحتى ذلك يمكن أن يكون من مآثر الشجاعة .
ان الجزء الأول من هذه السيرة الذي نشر عام 1989، وغطى الفترة من 1890 حتى 1928، يؤسس الأمان والدفء والتآلف الفني لخلفية باسترناك العائلية، في ذلك البيت الذي شيده والده الرسام ليونيد، ووالدته عازفة البيانو روزاليا، لابنيهما وبنتيهما, وقد كتب باسترناك عن عام 1914 باعتباره آخر صيف كانت ماتزال الحياة فيه تبدو بحاجة الى الافراد، وعندما كان حب أي إنسان في العالم أسهل وأكثر طبيعية من الكراهية , وكانت تلك نظرة متشائمة، طالما انه في الفترة التي يغطيها الجزء الثاني من السيرة، ورغم ان والدي باسترناك وشقيقتيه كانوا يعيشون في الخارج حينئذ- لم ير والديه بعد عام 1923، ولا شقيقتيه بعد آخر زيارة له الى الخارج عام 1935- كان محاطاً بالكثير من العلاقات الدافئة مع أصدقاء وأحباب وزوجات وأطفال.
وعندما انهار زواجه الأول من إفجينيا كان ذلك، الى حد كبير،
بسبب علاقته العاطفية مع المرأة التي أصبحت زوجته الثانية، زينايدا, وعندما وقع في الحب، مرة أخرى، مع أولغا إيفنسكايا، انتقلت، أخيراً، إلى بيت ريفي قرب البيت الذي كان يسكن فيه وزينايدا.
ويتخلى بارنز عن نغمته الحكيمة المألوفة عندما يكتب عن أولغا- وهي أحد نماذج لارا في دكتور جيفاغو , وإذ يرفضها بشكل كامل تقريباً، واكثر مما يفعل مع الثعالب الأدبيين أو السياسيين الآخرين في القصة، يلاحظ بارنز، على نحو لاذع، الطريقة التي تحدث بها باسترناك عنها بحيث ان موهبته تجاه حماقات الحب لم تتأثر بتقدم العمر .
وارتباطا بنشر دكتور جيفاغو في الخارج، ومنح باسترناك جائزة نوبل في أعقاب ذلك، واجه باسترناك، أخيراً، الاذلال الكامل الذي كان قد تجنبه في ذلك الحين، وللمرة الأولى أظهر دلائل الخوف والضعف, ويعزو بارنز كثيراً من هذا- رغم الدعم العالمي الواسع الذي كان باسترناك يتلقاه عندئذ- الى علاقة أولغا المزدوجة مع السلطات، ومخاوف باسترناك عليها, غير ان ذلك الكتاب الذي توفي باسترناك في أعقاب صدوره كان انتصاره الأخير، ودفاعه عن إيمانه الخاص بقيمة الفن التي لا يمكن التنبؤ بها، وروحه الانسانية المتفردة التي لم يستطع ستالين ومطاردو الساحرات إخماد جذوتها.
كان باسترناك ضحية التناقض الغريب بين أمله في الانتصار، والدلائل اليومية التي يراها أمامه عن عدم امكانية تحقيق ذلك، لكنه احتفظ، رغم ذلك، باعصاب هادئة، وراهن على ذلك الهدوء.
جدير بالذكر ان باسترناك1890-1960 درس، في الأساس، الموسيقي، لكنه تخلى عن ذلك في الثامنة عشرة لصالح الشعر, وفي عام 1912 درس الفلسفة في جامعة ماربورغ, وعند عودته الى روسيا أنغمر في حركة الشعراء المستقبليين الروس، ونشر أول مجموعة له توأم في الغيوم عام 1914, وظهرت مجموعته الثانية فوق الحواجز عام 1917, غير ان مجموعته الثالثةحياة شقيقتي التي كتبت عام 1917، ونشرت عام 1922 هي التي أذاعت صيته.
وأعقبت ذلك مجموعات عدة بينها موضوعات وتنويعات - 1923، ومجموعة قصص - 1925، وقصائده الطويلة العام 1905 ، والملازم شميدت وكلاهما عام 1927، وسيكتور سكي - 1931, وفي العام ذاته نشر سيرته الذاتية الأولى تحت عنوانتحكم آمن ، أعقبتها مجموعته الشعرية الهامةميلاد ثانٍ -1932.
وفي سنوات الثلاثينات بدأ ماوصفهمعركتي الصامتة الطويلة مع ستالين, وبعد عام 1933 لم ينشر له عمل هام خلال عشر سنوات, وبعد ذلك ظهرت مجموعتان شعريتان هما في القطارات المبكرة - 1943، ورحابة الأرض - 1945, وخلال تلك الفترة كان يكسب عيشه من الترجمات الأدبية وبينها فاوست غوته، وأشعار جونسون، شيلي، باليرون، كيتس، وشكسبير, وتميزت ترجماته لمسرحيات شكسبير: هاملت، عطيل، روميو وجوليت، الملك لير، ماكبث، أنطوني وكليو باتره، وهنري الخامس, وكان همه الأدبي الرئيسي في العقود الأخيرة من حياته، ونشاطه المحموم رغم تدهور صحته، عمله في الأثر الذي اعتبره شهادة على المثقفين الروس قبل وأثناء وبعد الثورة، وهو روايته دكتور جيفاغو التي نشرت في إيطاليا عام 1957، بعد أن يئس من نشرها في الاتحاد السوفيتي.
واثار منحه جائزة نوبل عام 1958 حملة مخزية ضده اتخذت اسم قضية باسترناك ، واضطرته الى رفض الجائزة, وقد نشرت أعماله في الاتحاد السوفيتي بعد وفاته، الا ان دكتور جيفاغو لم تنشر الا عام 1987.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved