Sunday 11th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 25 ذو الحجة


تفسير نهايته المأساوية
بوشكين,, إحساس الآخر ,, وعبقرية الإبداع
رضا ظاهر

يشهد هذا العام، وهو عام الذكرى المئوية الثانية لميلاد الكسندر بوشكين، الكثير من الفعاليات والاصدارات الشعبية والأكاديمية في مختلف انحاء العالم ولغاته, وفي هذا الاطار صدر، مؤخرا، كتابان هامان عن سيرة حياة بوشكين الأول تحت عنوان بوشكين ومؤلفته إيلين فنشتاين، والثاني تحت عنوان زر بوشكين ومؤلفته سيرينا فيتيل.
من الصعب التقليل من أهمية بوشكين في التراث الأدبي الروسي.
فقبله لم يكن هناك سوى عدد قليل من الشعراء الصغار، ومجموعة من الحكايات الشعبية، وعدد من النصوص ذات الطابع الديني, أما بعده فقد جاء ليرمونتوف، غوغول، تورغينف، دستويفسكي، وتولستوي، ومبدعون آخرون كثر, ولم يكن ممكنا ظهور أي من هؤلاء الكتاب بدون بوشكين, ولم يخفق أي منهم في الاعتراف بفضل بوشكين، الذي جمع في الأدب الروسي بين أسلوب شكسبير البارع وحياة بايرون النموذجية.
ومن المؤكد ان هناك مجالا لسير أخرى لحياة بوشكين, ولكن هاتين السيرتين كشفتا عن مادة جديدة تحيط بموت بوشكين.
عاش بوشكين، الذي ولد عام 1799، لعائلة نبلاء عريقة أصابها الفقر، وعاش كل حياته في الوسط الخانق للأوتوقراطية القيصرية, وكانت حركاته مرصودة من جانب شرطة القيصر السرية، وكان كل سطر من كتاباته المنشورة يخضع لعيون الرقيب, ولم يسافر بوشكين الى الخارج أبدا، ولكنه أجتاز القوقاز، ذات مرة، ليزور مناطق شرق الأناضول التي جرى اخضاعها حديثا, وفي رحلة الى أرضروم يظهر تأثير تلك الرحلة على مخيلته.
كان بوشكين، باعترافه، طفلا بدينا وقبيحا, وقد نشأ ليكون شابا قصير القامة، وراقصا تعوزه البراعة, وبعد تركه الدراسة، حيث لم يتفوق، انغمر في الادمان على الكحول، والمخدرات، والمقامرة.
وكان يتصرف على نحو سيىء في المسرح، ويطلق، بصيحات عالية، التعليقات الهدامة, كان طائشا ومتقلب المزاج، بحيث ان كسبه من جانب حركة المتمردين الديسمبريين لم يكن سهلا, كان سريعا في غضبه، ساخرا وحادا في سلوكه، وغالبا ما يتورط في نزاعات مع الآخرين, وفي الحادية والعشرين أدت به أشعاره الفاحشة الى المنفى في الجنوب، حيث عانى من الهزال، وكان يلعب البليارد مع نفسه، ويغاز، بطيش، زوجات المسؤولين.
ذلك وجه واحد من بوشكين, فعلى الرغم من كسله في الدراسة جرى الاعتراف بكونه رائعا واستثنائيا, وجعلته حيويته وبراعته، لاحقا، أنيس المعشر وجذابا للنساء, وكان كريما ولم يسمح لفقره أبدا ان يكون حائلا أمام مساعدته أصدقاءه.
وبعد ليال من الصخب والعربدة كان ينهض مبكرا ليكتب وينقح تلك الأشعار التي صارت من بين أفضل التراث الشعري العالمي, وكان أغلب معاصريه يستشهدون بأشعاره.
وفي تقديمها هذه المفارقات تقدم فنشتاين صورة مذهلة لواحد من أعظم شخصيات الأدب, وعلى الرغم من غنى حياته ومأساوية موته المبكر في نزاع مذل، تبقى جاذبية بوشكين في عمله الابداعي، الذي يخفي وراءه فهما عميقا للمشاعر الانسانية.
وفنشتاين محقة في عزو جزء كبير من شخصية بوشكين الى الاحساس بكونه آخر, فقد كان جده الأكبر عبدا اثيوبيا قدمه السفير الروسي لدى السلطان التركي الى القيصر بطرس الأكبر كهدية, وفي بوشكين كانت تبدو سمات ذلك الرجل المترحل بصورة أوضح مما هي في أفراد العائلة الأخرين, غير أنه ما من شيء، في الواقع، يمكنه ان يفسر، على نحو كامل، عبقرية بوشكين.
واذا ما أخفقت السيرة التي كتبتها فنشتاين في نقل بهجة حياته الأساسية فان سبب ذلك ربما يعود الى ان بوشكين - منذ ذلك الصباح الثلجي في أحد أيام يناير/ كانون الثاني من عام 1837 عندما خر صريعا بطلقة واحدة من غريمة الارستقراطي الفرنسي دانتيس- عاش في عمله الابداعي حسب.
أما سيرينا فيتيل فتركز في السيرة التي كتبتها على نزاع بوشكين الأخير هذا، والمؤامرات التي أحاطت به، وتلك القوى في شخصيته، وفي البنى الاجتماعية والفكرية في روسيا التي أدت الى تلك النهاية العبثية المبكرة لهذه العبقرية الأدبية.
وبفهمنا لموت بوشكين -بقدر ما تسمح به طبيعته المبهمة، وخداع وصمت الكثير من مرتكبي الأعمال الدنيئة ومن الشهود- نستطيع ان نستوعب شيئا عن حياته, فأمنية الموت التي عبر عنها منذ صباه، والاثم غير القابل للتعليل الذي انتابه، يشكلان، حسب فيتيل، آصرة بين أشعاره الغنائية الحزينة، وحماقات علاقاته, ان ما تشخصه فيتيل في عنوانها المجازي- زر بوشكين المفقود في ظهر معطفه الرسمي- يرمز الى رفضه الاستسلام والخضوع حتى في الأشياء الصغيرة.
ولا يمكن فصل استقلالية مزاج بوشكين عن أصالة شعره, غير ان فيتيل تنقل، بطريقة حية، الهواجس التي عذبت عقله خلال أيامه الأخيرة، بحيث أنها تصبح دلالة مقنعة على عبقريته الشعرية.
لقد لاحقت بوشكين عقدة اللون والعرق في بلاط القيصر نيقولاي الأول الى ان قتل في تلك المبارزة الشهيرة من أجل شرف امرأته ناتاليا التي تزوجها، وهي في الثامنة عشرة، عندما كان هو في الحادية والثلاثين, وكانت ناتاليا، التي هام بها القيصر أيضا، قد وقعت في حب الارستقراطي الفرنسي الشاب دانتيس الذي كان سفير هولندا لدى روسيا البارون هيكرين قد تبناه.
وفي يأسه دعا بوشكين غريمه الى المبارزة بالمسدس, وبعث أول دعوة الى المبارزة عام 1836م، لكن الغريم الفرنسي لم يقبل التحدي إلا بعد عام, وفي المبارزة أطلق بوشكين الطلقة الأولى فخر الارستقراطي الفرنسي فظن بوشكين انه مات، لكن الغريم سرعان ما أطلق الطلقة التي أنهت التحدي إلا بعد عام, وفي المبارزة أطلق بوشكين الطلقة الأولى فخر الارستقراطي الفرنسي فظن بوشكين انه مات، لكن الغريم سرعان ما أطلق الطلقة التي أنهت حياة الشاعر, أما رصاصة بوشكين فيبدو أنها أصابت زرا في سترة الفرنسي
ان كاتبة السيرة فيتيل تبدأ في معالجة مأساة بوشكين من النهاية لتعود بنا الى الوسط, فما يظهر من معالجتها للمادة التي توفرت لها هو ان ابداعات بوشكين الخاصة هي التي دمرته, فقاتله دانتيس كان محاكاة ساخرة ليفغيني أونيغين الذي جاء الى توجيه الاهانة، ثم قتل لينسكي، الشاعر الحساس مثل مبدعه.
وعلى مدى قرن ونصف منح الباحثون، الروس خصوصا، لغز موت بوشكين، اهتماما كبيرا, فقد تشبعت دراسة الشاعرة أناّ أخماتوفا بالكراهية القاسية لزوجة بوشكين، الشابة الحمقاء اللعوب، التي أخفقت في إبعاد دانتيس أو زوجها عن ذلك النزاع العبثي, ورفض آخرون دانتيس وراعيه البارون هيكرين باعتبارهما أجنبيين شريرين لم يدركا عواقب فعلتهما الشنيعة, أما كاتبة السيرة فيتيل فلا تبرىء أحدا، ولكنها تتمتع ببراعة فائقة في التعامل مع المصادر المتناقضة لتظهر صورة سايكولوجية مدهشة للشخصيات الرئيسية.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved