Sunday 11th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 25 ذو الحجة


مساحات بيضاء
جدلية الثبات والإزاحة (2)
ريمة الخميس

أحدهم يصوغ الأمر حكمة او فكاهة، يقول: إنما وضعت القوانين للخروج عليها ! حتى لقد اصبحت هذه المقولة قانونا جديدا في رصد السلوك الانساني وسيكلوجيته وأساسا - ربما - في تفسير الظاهرة الابداعية، النزاعة أبداً إلى اختراق النواميس الحياتية من ناحية، وكسر قوانين النقد من ناحية اهم,,!، وهذا الكسر وذاك الاختراف ، بغض النظر عما نطلق عليهما من اصطلاحات التجاوز والاعلاء والابدال والانحراف والاختلال والمخالفة والعصيان والمروق والاطاحة والتحريف والاقتران والانتهاك، تصل في مداها المغالي إلى توصيف الامر بدلائل الجرم، وصياغة الفعل بشروط الشذوذ والجنون,, وبغض النظر عن الشروح والتبريرات التي استند إليها اصحاب دعاوى الاتهام، من بارت إلى اراجون، ومن فاليري إلى سبيترز ووارين، ومن تيري إلى كوهن وتودوروف، ومن نقاد المشرق العربي الى مغربه، بغض النظر أقول عن اشكال توصيف السلوك وعن استنادات اصحاب الادعاء في احكام اركان الجرم، فإن ذلك الكسر وذاك الاختراق للنواميس والقوانين، في الفن هما شكل من أشكال الازاحة المعنى الحياة في الحياة، إلى معنى الحياة في الفن، ربما يكون الاقرب من وجدان المبدع مثل فاليري حين اسماه تجاوزا، أو مثل أراجون الذي رأى انه اعلاء لمجال الفعل خلف حدود الفعل، لولا ان الترجمة العربية قد دست رؤية أراجون في زنزانة مصطلح العصيان وربما يكون الاوفق في تفسير اطروحات الناقد أو المفكر مثل بارت او كوهن، لولا ان الترجمة العربية قد أودعت رؤية النقد داخل سجن جديد لاصطلاح كاصطلاح بارت من شناعة المسدي إلى فضيحة صلاح فضل,,! لكن لهذا كله سياقا آخر,,، لاعود إلى القوانين التي تسن، ليتم الخروج عليها .
يوضع القانون عادة في اعقاب اقتراف لفعل يضر بمصالح الآخرين كي يحظره قبل ان يستشري ويحتل مكانة العرف ومن هذا يستمد قوته في حظوته باقرار الشرائع والاعراف ومبادئ الخير وقيم الاخلاق، لكن مغامرة الحمقاء تأتي حين ينهج النقد في صياغة قوانينه على غرار القوانين الوضعية، وبادعاء الحفاظ على سلامة الذوق وقيم الجمال، الغريب ان تلك القوانين النقدية - التي نهون من أمرها أحيانا بادراجها تحت اسماء المصطلحات - تأتي بدروها في اعقاب اقتراف فني (لنسمه كذلك مؤقتا) ليس من اجل ان يحظره حتى لا يحتل مكانة العرف ، بل من اجل اعتباره قياسا جديدا، متجاوزاً، يُرقي القياس إلى ما ينتج على غراره، وبالتالي يصبح العمل الابداعي الجديد هو بمثابة روح القانون الجديد وجسده وان ترك للنقد شرف صياغته النصية وتصنيفاته المدرسية أو الاصطلاحية هذا على حين لايقنع النقد بنصيب التبعية بل يستميت في سبيل اقرار له بالسيادة فيما يدفع به إلى تسلطية سيادية يتحرق إليها عبر ما يدعيه من سن القوانين,,! هذا تاريخ طويل، ففي الحياة القديمة كان الابداع ترديداً لصور الحياة يضفي إليها قليلا من التجميل وحداً معقولا من التهويل والمبالغة، فعمرو بن كلثوم مثلا يقول: ملأنا البر حتى ضاق عنا,, وماء البحر نملؤه سفينا فالبر في الشعر هو نفس البر في الحياة، والبحر هو البحر وإنما اتجهت المبالغة الى تصوير العدد الذي ظلت امينة له مفردات مثل ملأنا وضاق عنا لقد كان حجم الازاحة اللغوية في توسيع المجال الدلالي للمفردة عن اشارتها المرجعية في الحياة ملغيا، ولهذا ارجعت القصيدة ذائقة التلقي إلى اختبار تجربة الحياة لا إلى تأمل عناصر التجربة الجمالية وشروطها، فانتفت ضرورة ان يكون هناك فعل نقدي بل ان أحداً آنذاك لم يسأل أي بحر وأي سفن يتحدث عنهما الشاعر أو ان يرجح استخداما مجازيا لبحار من رمال الصحراء.
ومع اتساع مسافة الازاحة في التجربة الجمالية عن تجربة الحياة عموما وفي ادواتها - من اللغة الى الموسيقى والصورة في الشعر خاصة - حيث اصبح الحب في الحياة، موتاً وفناءً في الابداع، وأصبح الشاعر يطاعن خيلا من فوارسها الدهر، ويرجو من الدهر ما لا يطاله من نفسه الدهر، ويدفع بالنور الى عين الاعمى يرى قوافيه التي تسمع من به صمم بدأت ذائقة التلقي تنتبه إلى التجربة الفنية بما فيها من ازاحة مارقة، اكثر من انتباهها إلى ما يمكن ان ترد إليه تلك التجربة الجمالية في الحياة، وربما رأت في ذلك الخروج مروقا يستدعي ان يسن له قانون جديد.
هذا مجرد مثال، فتجربة المناوشة والمراوغة بين الابداع والنقد تجربة ذات بعد انساني عام اشمل من ان تكون ذات شروط قومية، بدأت وبقيت حتى اليوم، مشدودة على مبدأ ثابت في نزوع النقد إلى صياغة القوانين - المستمدة من طبيعة الابداع ومغامراته - لتكون الخطوة التالية للابداع خروجا وكسرا وانتهاكا,, الخ لتلك القوانين، غابت في ظل تلك المرواغة غاية اهم في دعم النقد للتجربة الابداعية باضاءتها ومساعدتها على الوصول.
ابلغ الدلائل على ضراوة تلك المناوشة امران: الاول: استماتة الفعالية النقدية في تأسيس نفسها كعلم علم النقد ولانها تفتقد شروط علم كالرياضة او الفلك، فإنها تتمسح مرة في علم الاجتماع لتستمد منه شروطها في منهج نقدي كالمنهج التاريخي الاجتماعي، ومرة اخرى في علم اللغة تستمد منه شروط الاشارة والدلالة وتؤسس نظريات الالسنية والبنيوية وغيرها وثاني الامرين: نزوع تلك الفعالية النقدية الى صب نفسها في قوالب الاصطلاحات,, في الحالة الاولى يحبطها ان يمتص جهدها علم الاجتماع او علم اللغة، وفي الحالة الثانية يفضحها ارتباك المصطلح,,!
لو تخلى النقد عن اصراره في تقديم نفسه بشروط العلم، لو تعامل مع الابداع بابداع معادل، لو عقد مصالحة تفتح المجال امام حوار يشتري رؤى النقد وتجنيح الابداع لاصبح للممارسة النقدية مكانة كمكانة الفعل الابداعي، وهذا كله ما يزعم تصوري لنظرية الازاحة في معناها الخاص كما سأحدده، انها قادرة على فك الاشتباك وحل الاشكال,,!
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved