Sunday 11th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 25 ذو الحجة


مستجدات السودان,, وآفاق الحوار الوطني
د, وحيد عبد المجيد

ليس مفهوماً ما الذي ينتظره كل من الحكومة السودانية ومعارضيها في الداخل والخارج للبدء في حوار جاد لانقاذ بلدهم, فقد ثبت بعد نحو عشر سنوات، تكتمل في 30 يونيو القادم ان ثورة الانقاذ لم تنقذ شيئاً حيث آن أوان انقاذ السودان من سلبياتها، كما تأكد للمعارضة انها ليست قادرة على تحقيق هدفها في اطاحة النظام القائم وان سيناريو تعاقب الانقلابات العسكرية والحكومات المدنية ليس حتمياً.
ومع ذلك ما كدنا نستبشر بقبول المعارضة في الداخل فكرة الحوار واستجابة النظام لطلبها ان يكون تحت مظلة الرئاسة وليس مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم حتى فوجئنا بأزمة جديدة ترتبت على هجوم شنه الرئيس عمر البشير على قادة المعارضة في الخارج.
وحدث هذا كله في فترة قصيرة للغاية بين اواخر فبراير ومارس 1999, واعتبره كثير من المراقبين دليلاً جديداً على ان الصراع بين الحكم والمعارضة غير قابل للحل, ولكن هذا النوع من الأحكام المطلقة لا مجال له في عالم السياسة، الذي لا يثبت على حال, كما ان هذا حكم لا ينسجم مع واقع كل من الحكم والمعارضة في السودان الآن, فأهم ما يتسم به هذا الواقع هو ان الطرفين كليهما وصلا الى طريق مسدود,, فلا اهل الحكم انجزوا ما قفزوا على السلطة من اجله, ولا اهل المعارضة حققوا تقدما باتجاه استعادة الديمقراطية التعددية, والأهم من ذلك هو ان كلا منهما صار مدركاً حدوده اكثر من اي وقت مضى, وليس هناك وضع موات للبدء في حوار وتفاوض على حل وسط اكثر من ذلك، فالسياسي لا يلتفت الى المساومة والمصالحة طالما انه يحقق تقدما في الاتجاه الذي يستهدفه, اما اذا عجز فهو يبحث عن سبيل اخر كي لا يصطدم بالحائط.
ومن هذا المنظور لن يكون امام الحكم والمعارضة في الحالة السودانية مفر من الحوار آجلاً او عاجلاً,, والأرجح انه لن يكون أجلا، بعد ان شهدت الشهور الأخيرة مستجدات اهمها اصدار اول دستور منذ انقلاب 1989 ثم سريان العمل بقانون تنظيم التوالي السياسي وبدء ظهور احزاب سياسية للمرة الاولى ايضا منذ مايقرب من عشر سنوات.
لقد تعرض الدستور السوداني لانتقادات حادة من المعارضة نتفق معها وربما نضيف اليها المزيد, ومع ذلك يصعب انكار ان هذا الدستور يؤسس لمرحلة جديدة اكثر انفتاحا او اقل انغلاقاً ويرسي قيماً اساسية لم تكن واردة لدى ثورة الانقاذ مثل المواطنة والتعددية والفصل بين السلطات بغض النظر عن كيفية تنزيلها على الواقع, ولعل المغزى الأهم لهذا الدستور هو انه ينطوي على اقرار ضمني بالتراجع عن مفهوم الدولة الرسالية الذي حملته ثورة الانقاذ من خلال الجبهة القومية الاسلامية وزعيمها الدكتور حسن الترابي ولكن دون الافصاح عنه صراحة, غير ان الممارسات التي ارتبطت به وكانت قريبة الشبه من سياسات تصدير الثورة الايرانية، طبعت السياسة السودانية بطابعها في الداخل كما في الخارج.
ومثلما فشل الايرانيون في تصدير ثورتهم ولم يجنوا غير المتاعب، لم يتمكن سودانيو الترابي بدورهم من حمل مفهوم الدولة الرسالية الذي سبب لهم بدورهم مشاكل مع جيرانهم واثراً سلبياً على العلاقات بين القاهرة والخرطوم لانه ارتكز على روابط مع حركات اسلامية يمارس بعضها العنف في مصر ودول اخرى.
وكان تراجع النظام السوداني عن هذا المفهوم قد بدأ بالتخلي عن مشروع المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي ولكن هذا التراجع اكتمل باصدار الدستور الذي يقيم نظام الحكم على اساس مدني رغم استناده على مرجعية اسلامية, فقد انطلق هذا الدستور من الاقرار صراحة بالتعددية الثقافية - الحضارية في السودان وبالتنوع العقائدي فضلا عن الاعتراف ضمنا بالتعددية السياسية التي تم التعاطي معها عبر مصطلح التوالي الذي اعتبره البعض مناورة للهرب من اجازة حق تكوين احزاب سياسية متعددة.
ولكن تبين انه ليست هناك مناورة والارجح ان ارتباك صانعي الدستور وهم في مجرى مراجعة توجهاتهم واعادة تقويم مسيرتهم، دفعهم الى ايجاد مصطلح يرون انه نابع من تراثنا رغم ان تعبيراً مثل التعدد او الاحزاب ليس بعيداً عن هذا التراث واذكر ان حواراً دار بيني وبين احد قادة المعارضة السودانية خلال ندوة نظمتها جماعة تنمية الديمقراطية بالقاهرة قبيل اصدار الدستور حول مفهوم التوالي فكان محاوري مصراً على ان د, الترابي يقصد به التتابع وانه سيستخدمه أداة لمنع التعددية, ولكن كانت وجهة نظري ان الحكم في السودان يتجه الى مراجعة تجربته والاقرار بالتعددية وليس العكس ولأنني كنت قد عدت الى المعجم في شأن كلمة التوالي قلت يومها ان المعنى الاقرب لها في مجال السياسة هو التمايز والذي يحمل في طياته التنوع وبالتالي التعدد, فكان العرب يستخدمون هذا التعبير قديما بهذا المعنى كأن يقولوا (توالت الغنم عن الماعز) اي تمايزت عنها.
وبعد اصدار الدستور في 30 يونيو 1998 تم الاعلان عن قانون تنظيم التوالي السياسي في 23 نوفمبر من العام نفسه، واصبح هذا القانون ساريا اعتبارا من مطلع العام الجاري حيث تم انشاء اكثر من ثلاثين حزباً خلال اقل من ثلاثة شهور.
وهذا جديد حقاً في سودان البشير والترابي، ويصح ان تأخذ المعارضة هذا التطور في حسبانها وان تؤسس عليه بالتالي تغييرا في اساليبها بل وحتى في مضمون موقفها الذي وصل الى طريق مسدود, فقد استهدف هذا الموقف اسقاط النظام القائم اعتقاداً في ان انقلاب 30 يونيو 1989 هو مثل الانقلابات السابقة التي انتهت وكأنها لم تكن, وهذا اعتقاد مشكوك فيه كثيرا لان ايا من الانقلابات السابقة لم يكن ايديولوجياً ولم يعمد اصحابه الى احداث تغيير جذري في بناء المجتمع نفسه في اتجاه معين.
وايا يكن الأمر فالحاصل الآن هو ان النظام السوداني لم ينجح في شيء بمقدار نجاحه في الامساك بمفاتيح المجتمع وغلق الأبواب التي دخلت منها الرياح التي اقتلعت النظم العسكرية السابقة، ولكنه لم يتمكن من انجاز ما سعى اليه اصلا واراد البقاء في السلطة من اجله، وهو اقامة دولة رسالية تفيض على ما حولها، وعندما ادرك قادته ذلك وجدوا ان تكاليف محاولة بناء مثل هذه الدولة كانت مرتفعة للغاية وانها اضرت بالتطور الطبيعي للسودان اقتصاداً ومجتمعاً وان المراجعة صارت ضرورية من اجل مستقبل النظام نفسه, وهذا جديد لابد ان تعيه المعارضة وان تراجع - بدورها - تجربتها التي لا تقل اخفاقا على مدى نحو عشر سنوات اذا فعلت ذلك بجدية فالارجح انها ستصل الى اقتناع بضرورة ان تجدد هي الاخرى في موقفها وان تسعى الى حل وسط عبر حوار مع النظام القائم وليس الى اسقاطه بالقوة او بالشعارات.
وهذا المنهج في التفكير ليس بعيداً عن بعض قادة المعارضة ممن صاروا يدركون ان الدستور الجديد ينطوي على قدر من التغيير وانه ليس مجرد مناورة ولكن يفترض ان يترتب على ذلك اقرار بأن النظام أقر مبدأ المراجعة الذي يفيد ان كل شيء قابل للتطور اذا تحققت مصالحة وطنية بما في ذلك الدستور الجديد نفسه وكذلك الوثيقة الدستورية الانتقالية التي وضعتها المعارضة في الخارج في مؤتمر لندن في فبراير 1992 لتمارس الحكم على اساسها اذا آلت اليها السلطة فهذه الوثيقة تحتاج الى تطوير مثلها مثل وثيقة الدستور السوداني الجديد, ففي كل منهما نقائص وعيوب حتى اذا زادت في هذه وقلت في تلك.
ولكن المهم هو ان يقتنع قطاع يعتد به من المعارضة بأن هناك مراجعة في السودان تستحق ما يماثلها سعيا الى حل وسط من اجل مستقبل افضل, ويفترض ان تأخذ المعارضة في اعتبارها لدى تقييم المستجدات في الداخل ان هناك تباينا في داخل النظام صار اكثر وضوحا من ان يمكن اخفاؤه وكانت عملية صياغة الدستور نفسها مؤشرا على هذا التباين كما يتضح من اي مقارنة بين الصيغة التي صدر بها وتلك التي اعدتها اللجنة القومية المختصة وكانت اكثر ديمقراطية وانفتاحا فقد انطلقت الصيغة الاولية من مفهوم التعددية السياسية ونصت في وضوح على ان (يكون لكل فرد الحق في تكوين الجمعيات وانشاء التنظيمات السياسية والنقابات الاجتماعية والثقافية), ولكن تم تعديل هذه الصيغة لتنص على ان للمواطنين الحق لتنظيم التوالي السياسي, فهناك تباين في داخل النظام نفسه، بل وفي الجبهة القومية الاسلامية التي انضوت في اطار المؤتمر الوطني الحاكم, ويمكن التمييز بين عدة مجموعات على اساس المواقف والمصالح, وهناك تباين من ناحية اخرى بين النظام وقوى اسلامية اخرى اهمها حركة الاخوان المسلمين.
وربما يمثل هذا التباين عاملا اضافيا يشجع المعارضة الرئيسية ممثلة في احزاب وقوى (التجمع الوطني الديمقراطي) على اعادة تقييم الاوضاع في ضوء المستجدات بدلا من مواصلة عملية اعادة انتاج الموقف نفسه منذ عشر سنوات بأشكال مختلفة كان آخرها في مذكرة ديسمبر 1998 فقد اعادت تلك المذكرة تأكيد المنهج الراديكالي في التعامل مع النظام والذي يهدف ليس فقط الى اسقاطه ولكن ايضا الى محاسبة قادته وبالتالي معاقبتهم وكان الجديد فقط هو محاولة تسليم هذه المذكرة الى رئيس الدولة، بدلا من الاكتفاء باعلانها في مؤتمر او اصدارها في صورة بيان ومع ذلك يجوز القول ان المطالب التي تضمنتها كانت معقولة كموقف افتتاحي لحوار وطني مع استبعاد ما تضمنته من تهديد ووعيد لتسليم السلطة في التو واللحظة, فلم تكن صياغة المذكرة على نحو يخدم فكرة الحوار وانما صيغت كما لو كانت انذارا يقدم على أسنة رماح غير موجودة.
وبمقدار ما اثارت هذه المذكرة تشاؤما في شأن امكانات الحوار فقد ادى قبول المعارضة في الداخل اجراء حوار تحت مظلة الرئاسة الى قدر من التفاؤل في اواخر فبراير الماضي، غير ان التشاؤم عاد بسرعة بموجب تصرف من النظام هذه المرة عندما شن الرئيس البشير هجوما غير مبرر على قادة المعارضة في الخارج.
ولكن يظل هناك امل في ان يدرك كل من النظام والمعارضة انه لا بديل عن الحوار فيعرف النظام انه لا سبيل آخر لانقاذ السودان بعد ان فشلت تجربته في تحقيق هذا الانقاذ! وتعلم المعارضة ان انقاذ السودان يستحق ويقتضي قدرا من المرونة لأن التشدد المستمر دون طائل يقود الى جمود غير محمود.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved