Friday 26th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الجمعة 9 ذو الحجة


رواية العطر

أما مؤلف هذه الرواية الصادرة عن دار المدى للثقافة والنشر بسوريا فكما يقول عنه مترجمها الدكتور نبيل الحفار: ولد باتريك زوسكيند PATRICK SUSKIND في السادس و العشرين من شهر آذار/مارس 1949 في بلدة أمباخ على بحيرة شتارنبرع الواقعة على سفوح جبال الالب, كان والده صحفياً وكاتباً, بعد حصوله على الثانوية العامة درس باتريك التاريخ في جامعة ميونيخ بين 1968 - 1974 عمل بعدها في اعمال واماكن مختلفة وكتب عدة قصص قصيرة وسيناريوهات سينمائية ولم يعرف ككاتب إلا عام 1981 بمسرحيته عازف الكونتراباس وهي مونودراما من فصل واحد قدمتها معظم المسارح الالمانية والاوروبية, وبراويته الاولى العطر 1985م التي ترجمت حتى الآن الى اكثر من عشرين لغة وصل الكاتب الى الشهرة العالمية.
ومنذ منتصف الثمانينيات عرف الكاتب في اوساط الجمهور الالماني والاوروبي عبر مشاركته في كتابة سيناريوهات عدد من المسلسلات التلفزيونية الناجحة، وفي عام 1987 حصل زوسكيند على جائزة غوتنبرغ لصالون الكتاب الفرانكوفوني السابع في باريس, وهو يعيش حاليا بين ميونخ وباريس متفرغاً للكتابة.
والرواية منذ بدايتها الى نهايتها تسيجنا بسؤال واحد:
* هل حقاً يوجد إنسان بلا رائحة؟!,.
اذن هو - المتلاشي - الذي يعيش بلا أثر وبلا هوية أو وجود.
كان غونوي، هو واللاشيء سواء لأنه لم يكن ذا رائحة, هو الذي امتلك القدرة على تحسس اشد العطور خفاء وتخزينها في ذاكرته واستدعائها وقتما يشاء,, وهو الذي استنشق رائحة البحر من الحكايات والقصص، دون ان يرى بحراً ما كان باستطاعته التعرف على عطره الشخصي بالذات، وكان خلوه من الرائحة سبباً في إفساد حياته منذ البداية فالمرضعة المكلفة بارضاعه تنبذه لانه بلا رائحة ولهذا فهو في نظرها مسكون بالشيطان.
اما الاب تيرير المشرف على رعاية غرنوي الطفل في الدير فقد وجد نفسه عارياً وبشعاً ازاءه لأن هذا الطفل عديم الرائحة, وهو الكائن البارد والعدواني، قد وضع القس العجوز تيرير وجهاً لوجه، امام ما يصدر عنه من روائح كريهة.
(رائحة التعرق، والأردية غير المغسولة، حيث شعر أن انفضاح رائحته الشخصية لا يعدله شيء سوى انكشاف افكاره القذرة امام الآخرين.
وإن افتقار غرنوي للرائحة الانسانية جعلته حيادياً بالمعنة السلبي للكلمة فهو منكفىء لا يتأثر او يؤثر بالاحداث بل انه يعتزل عن العالم من حوله سبع سنوات بكاملها ثم يقاد بعدها - طائعا - لاستعماله في تجارب علمية، دون ان ينبس ببنت شفة لأنه يعي تماماً ان قوته وامتيازه عن سائر الخلق مقداران لهما ان يزدهرا في حالة الكمون - وحسب - في ذلك العالم الصاخب الذي لا يشعر به احد سواه، عالم ذاكرته الملأى بروائح غير متناهية لكنه وهو الحيادي باطلاق لم يكن يقابل من لدن الآخرين بذات الحيادية كان مادة خصبة لانضاج البغضاء من حوله، وهكذا فقد اصبحت المشاعر المنصبة نحوه مزيجاً من الكراهية والاحتقار.
وفي اليوم الذي كشف فيه غرنوي عن معجزته للناس، وهي الرائحة التي صنعها لتكون عطراً لجسده انقلبت مشاعر الناس تجاهه تماماً حتى انهم رأوا فيه ربما ملاكاً غير ان هذا الشيطان - الملاك لم يكن يدرك انه بانسحابه عن العالم إنما كان يحكم على الآخرين بالموت, فغيابه عنهم كان لعنة لهم تماما كما ان غياب رائحته كان مدعاة للعنة حياته التي لم تفارقه إلا بتصنيعه للرائحة - المعجزة - التي انقذته من الموت على الصليب.
فما ان يفارق غرنوي احداً حتى يداهمه الموت,.
فهو يحكم على أمه بالقتل بعد ولادته مباشرة، اي بعد انفصاله عن جسد أمه.
وفي ذات الليلة التي ترك فيها عمله عند غريمال - صاحب المدبغة - كان غرنوي يعبر الجسر بينما طفت سابحة من تحت الجسر جثة غريمال الغريق.
وحين يودعه باديني ينتهي في الليلة نفسها (هو وزوجته) مع انهيار البيت والمتجر.
اكثر من ذلك كان انسحاب غرنوي عن المعام وتقوقعه داخل كهف في جبل بلومب دوكنتال سبباً في اشعال حرب كونية استمرت طيلة فترة اعتكافه لسبع سنوات, فهو اذن قاتل دون سابق تصميم اذ كان غيابه عن الناس بسبب الكراهية المتبادلة، مدعاة لكل هذه الكوارث, حتى شعوره بالحب افضى به لأن يكون قاتلاً محترفاً, فمنذ اول ليلة خفق فيها قلبه عشقاً، إذ تحسس شذى فتاة صغيرة امتدت يداه على الفور لقتلها بوحشية كمن يتنزع زهرة ليستأثر بعبيرها لنفسه كان يريد إفناءها بغية تخليد عطرها وتأبيد رائحتها التي ظل يحلم بها، إلى ان حصل عليها اخيراً لكن بثمن باهظ تمثل بقتله لخمس وعشرين فتاة من اجل الاستيلاء على عطر اجسادهن ليستخدمه في صناعة عطره الشخصي عطر جسده العديم الرائحة.
غير ان حياته لم تستمر بعد ذلك طويلاً وانتهت بموته او بالاحرى - انتحاره - الذي اراده على يد شلة من المشردين الذين هاموا برائحته التي خلقها بنفسه، فاؤلئك الذين قتلوه إنما كانوا مدفوعين بعشقهم له لرائحته كانوا فخورين الى اقصى حد، فلأول مرة في حياتهم فعلوا شيئاً عن حب .
وهكذا,, وكما ابتدأت حياة غرنوي بولادته وهو يتشمم رائحة كريهة رائحة السمك في السوق، حيث وضعته امه هناك.
انتهت حياته بموته على يد هذه الشلة من المتشردين الذين تعشقوا رائحته - التي صنعها لنفسه من عبير اجساد الفتيات اللائي قتلهن - الى درجة الموت.
وحول ذلك يقول الناقد احمد عبد الحسين:
** مثل هذه الواقعة انبنت على ترسيمة فلسفية تطل في سائر متن الرواية وان - بشكل موارب - ومؤداها:
اننا لا نتمكن من صنع اسم لنا إلا بافنائنا للآخر وجعله مندكّاً
في شخصنا الى الحد الذي يمكننا من القول بان كوننا موجودين كأحياء هو فعل عنفي - بل إرهابي - بامتياز.
ذلك ان هذا الوجود هو ازاحة لممكنات وجودية اخرى وتلك الحياة (حياتنا) هي طمس لحيوات عديدة متفرضة او متحققة، وفي الوقت ذاته فاننا في حال انعزالنا عن العالم فنحن انما نقذف به الى لجة من العدم، إننا نلجأ إلى العزلة ليس عزوفاً عن الآخرين فحسب، بل لتحقيق ذواتنا وإعلائها وفي ذلك موقف نيتشوي صريح مع ان غرنوي هو الصورة المضادة تماماً لسوبرمان نيتشه.
ويضيف الناقد احمد القول:
** على ذلك يمكن لرواية ان تقرأ بصورة كنائية ترميزية، فتغدو حقلاً فلسفياً واسعا، لكنه ابعد ما يكون عن التعقيد او الغموض، فبالاضافة الى سياقات السرد التقليدية التي تحكم جسد الرواية هنالك ايضاً المرجعيات الدينية الواضحة الدلالة التي لجأ إليها المؤلف, فعلى سبيل المثال:
يلتمس الكاتب مدخلاً ما لمقاربة شخص غرنوي لشخصية صاحب الرسالة، فيجد في اعتكافه سنوات طوالاً داخل كهف، حلاً نموذجياً، وحين يدفعه ليتقمص رداء المخلّص الفادي او المنقذ فانه يجعله واقفاً على امتداد صليبه المعدّله محرضاً الناس على الانغماس في مهرجان باخوسي صاخب.
واضاف الناقد احمد القول في تحليل شخصية غرنوي بطل الرواية:
** يدخل قارىء رواية العطر ومنذ صفحتها الاولى في سياق مقارنة بين - جان باتيست غرنوي - (وهو الشخصية التي تنعقد عليها الرواية بأكملها) وبين شخصيات تاريخية شهيرة كبونابرت، دوساد سان جوست، او فوشيه، ومقارنة كهذه، وان لم تكن تامة الدلالة على غرائبية هذا الشخص وتفرّده المستمد من موهبة غير سوية بكل المعايير، الا انها (أي المقارنة) كانت ضرورية لجهة تحديد الحقل الذي استطاع ان يمارس فيه غرنوي هذه الغرائبية وذلك السحر، فغرنوي هذا لايقل عن تلك الشخصيات تعالياً ولا اخلاقية، الا ان عبقريته، وطموحه قد انحصرا في ميدان لا يخلف وراءه اثراً في التاريخ اي في ملكوت الروائح الزائل .
شخصية غرنوي اذاً - وبالتالي مجمل الرواية - محكومة بهذه الفرادة المزدوجة، فرادة الملكة العجائبية - حاسة شمه الخارقة - التي املت على التدوين الروائي اداء مزيداً هو الآخر يتمثل في محاثية الكتابة للعطر وتآلف السرد وانسجامه مع فعل الشم، حتى كأنما الرواية تطرح خيار قراءتها بالنفس الذي يزيح جانباً الحالات والرؤى التي تراكمها في اذهاننا - الأزمنة والأمكنة - بل سائر الملموسات والمرئيات, لتضعنا في النهاية بازاء مشهد تناوب على رسمه الروائح والعطور فحسب إنها - اي الرواية - فن كتابة الرائحة وقراءتها, ففي معرض وصف باتريك زوسكيند - مؤلف الرواية - للقرن الثامن عشر، وهو زمن وقائع الرواية، نجد جهداً تاريخياً، يتخذ من الرائحة - مادة اساسية له - حيث لم يكن هناك اي تفتح على الحياة او اندثار لها دون ان ترافقه رائحة .
واخيراً يصف الناقد احمد عبد الحسين رواية العطر بانها كتابة بسياقات تاريخية فيقول:
** نحن امام كتابة بسياقات تاريخية لكنها ترصد ماهو غير تاريخي بامتياز اذ ليس ثمة ما يصدق عليه كلمة زائل اكثر من العطر,, وما من شيء اشد استعصاء على الوصف منه، ذلك الالتباس جعل من الرواية تدوينا جريئاً لما لايدون، لائحة الأشياء مساوقة لهويتها، هذا ما يترشح ببطء، وبعمق منذ اولى صفحات الرواية حتى نهايتها، تلك النهاية التي يكون للعطر فيها مفعول الحب القاتل, فشخصية غرنوي المنطوي على ذاته الضئيل المصفوع دائما بنظرات الازدراء والمقت، بل القرف احياناً كثيرة، لم تكن كذلك إلا لأن هذا الشخص كان ببساطة متناهية لا يملك اية رائحة، لم يكن كالآخرين الذي ينضح جسد كل منهم برائحة تميزه عن سواه، كان غرنوي هو واللاشيء سواء وهكذا انتهى - مثلما ولد - بلا رائحة او اثر, ومابين الولادة والموت سرد روائي فذ لسيرة الروائح التي هي سيرة حياة غرنوي واتي قد تكون بمعنى ما، هي سيرتنا جميعاً نحن البشر,,.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
الركن الخامس
عزيزتي
المزهرية
الرياضية
تحقيق
شرفات
العالم اليوم
مئوية التأسيس
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved