شرفة
سعد البازعي
التلوُّث البصري وحاجتنا إلى النقد السينمائي
قبل سنوات قال لي زميل عربي انه توصل الى ان الرياض ربما تكون أكبر عاصمة لأفلام الفيديو في العالم, وبدا لي حينها ان تلك كانت مبالغة، بل إنني ما زلت
أراها كذلك,, مبالغة ولكن من النوع البليغ أو الغني بالدلالة, ومع انني لا أملك أرقاما احصائية عن عدد محلات الفيديو في المملكة، فإني أجزم بأنها كثيرة،
وان الفضائيات لم تستطع ان تسلب الكثير من المشاهدين من سوق استئجار الأفلام، ناهيك عن ان تقضي على ذلك السوق, لكن الأهم من الاحصائيات في ذلك المجال
المعروف والواضح هي الاحصائيات عن المجال غير المعروف وغير الواضح، الافلام التي لا يراقبها رقيب ولا يدري عنها إلا زبائنها, وهذه الأشرطة الممنوعة التي
تتداول حتى في البلاد الضعيفة الرقابة كالولايات المتحدة وبريطانيا وما إليها ففي مقابل كل قيد يوجد نوع من الأشرطة، وكلما زادت القيود زادت الأشرطة وهكذا
، تلك الأشرطة تشكل سوقا خفيا وهائلا، في بلد كالمملكة يحرص المسؤولون فيه على سلامة ما يشاهده الناس,
وبالطبع فإن واقع التحايل على القوانين من تهريب وغيره قد استعصى على أكبر الدول صرامة ودقة في المنع والرقابة, ومن هنا فإن السؤال ينشأ عما يمكن عمله
ازاء هذا الكم الهائل من المادة المشاهدة، التي تجعل ويا للمفارقة بلدا يخلو من دور السينما من اكثر البلدان مشاهدة لها؟, ما الذي يمكن عمله، إذا علمنا
بأن اجراءات المكافحة والرقابة لن تجدي - إن هي وفقت- إلا في التقليل من حدة المشكلة لا في التخلص منها؟
الحل في تقديري يكمن في سبيلين: الأول مواجهة المشكلة على المستوى الرسمي بالتحدث عنها ومناقشة اسباب تجاوزها أو التخفيف منها، والثاني في ان ينشط نقد
سينمائي يمارس دور التوجيه لما يشاهد بتحليله وتقويمه, فالناس يشاهدون الآلاف ، إن لم يكن مئات الآلاف من الافلام يوميا، سواء عن طريق الفيديو أو عن طريق
الفضائيات، وتحرص الصحف عادة على نشر قوائم البرامج اليومية لاجتذاب المشاهدين, لكن ماذا ينشر من نقد مصاحب لذلك الكم من المادة المشاهدة؟ انه ضئيل ان لم
يكن معدوما في معظم الحالات,خطر هذا الموضوع ببالي بعد ان تأملت في ما أنشره بين الحين والآخر في حلقات هذه الزاوية عن السينما الأوروبية والأمريكية, هل
القارىء بحاجة الى ذلك النقد، ولاسيما وبلادنا تخلو من دور السينما، بل وتخلو من أية ثقافة سينمائية يعول عليها؟ ثم تذكرت مقولة ذلك الزميل، وان ما يحدث
في بلادنا هو الاستعاضة عن الدور بالمشاهدة الخاصة، سواء كانت عائلية محترمة أو جماعية صاخبة في المقاهي وما إليها، أو فردية تمارس فيها احيانا مشاهدات
غير محترمة تماما! ومن هنا بدا لي ان مثل هذه الكتابات، التي سبقني اليها عدد من الكتاب المهتمين منهم الأستاذ جارالله الحميد في زاوية له بعنوان
سينمائيات بجريدة الجزيرة لا تخلو من أهمية بحد ذاتها، أي بغض النظر عن المستوى التخصصي للكتابة نفسها، وان نوعا من النقد، ولنسمه السينمائي أو
المشاهدي أو الفيديوي أو ما الى ذلك ضروري وملح, فالبديل هو فوضى تضرب اطنابها واجتهادات فردية في المشاهدة غير مؤسسة على معرفة كافية بالسينما أو
بأسواق الفيديو العالمية,
يزيد من أهمية مثل ذلك النقد هو ان الرقابة التي تتركز على الجوانب الاخلاقية وما اليها، ليست مسؤولة عن المستوى الفني لما يعرض، وهذا بالطبع ليس من مهام
الرقابة، وانما هو من مهام النقد الذي يتجه للسينما ضمن منتجات الثقافة عموما، كالأدب والمسرح والتشكيل وغيرها, وفي اعتقادي ان تأثير السينما، سواء كانت
مسجلة على فيديو أو مبثوثة في فضائية,
اخطر بكثير من تأثير كثير من الكتب, فالسينما يشاهدها المتعلم والأمي، وتغرس تأثيرها بأحاسيس كثيرة تجعلها ملء السمع والبصر، بالمعنى الحرفي للعبارة,
والنقد الذي اشير اليه هو ما ينتجه مختصون مؤهلون، لأن السينما اليوم مجال رئيس من مجالات التخصص، وفيه ا ركام معرفي هائل عمره يقارب المائة سنة ان لم يزد
عليها, لذا فإني لا أعد كتاباتي حول هذا الموضوع اكثر من اجتهادات قرائية لا يعول عليها كثيرا, ومن يذهب الى الغرب سيلاحظ ان مكتبات بيع الكتب مليئة
بعناوين كثيرة حول السينما والفيديو، منها كتب تحوي قوائم بعناوين الافلام المنتجة حتى الآن تبلغ صفحات الكتاب الواحد ما يقارب الألفي صفحة، وهي كتب تطبع
كل عام، لتضم احدث العناوين، ولكن الأهم من ذلك هو احتواؤها على وصف مختصر للفيلم وتقويم له بوضع عدد من النجوم التي تحدد مستوى الفيلم,
ان الفرق بيننا وبين الغرب في هذا المضمار هو أنهم اخترعوا السينما وما زالوا ينتجونها ويشاهدونها باستمرار، مع ايجاد الآليات الثقافية والفكرية لتمحيص
ذلك النتاج وترشيده طبعا بالمعايير التي يرتضوها أو يختلفون عليها ، لكننا بالمقابل نستهلك - كما نحن في كل شيء يأتينا من الغرب- دون آليات كافية، أو
مؤهلة, أليس مما يدل على ذلك أننا على الرغم من كثرة ما نشاهد من أفلام لم تفكر اقسام جامعاتنا بعد في ادخال النقد السينمائي الى تخصصاتها، كما يحدث في
البلاد الاخرى التي تنتشر فيها السينما على نحو أو آخر، ولاسيما البلاد الغربية؟ لا اريد ان ارسم صورة وردية لتلك البلاد في هذا المجال أو غيره، فهم
يعانون مشاكل لا حصر لها من هذا القبيل، لعل أوضحها اقبال الناس على افلام الاثارة من كل نوع، مما يعني ان آليات النقد لا تكفي، لكني ازعم ان تلك الآليات
تسهم بشكل طيب في نشر الوعي والرؤية السليمة لمنتجات الثقافة، ولاسيما في مجتمعات تضعف فيها الرقابة الاخلاقية والسياسية، حتى لتكاد تنعدم,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved