في السبعينيات نشأت في مصر حركات شعرية تجديدية تبلورت في جماعات تهدف الى طرح رؤية جمالية مغايرة على المستوى النظري وعلى مستوى الممارسة الشعرية وكان
الشاعر محمد سليمان احد المؤسسين لجماعة اصوات الشعرية، التي ركزت في طرحها الجمالي على اللغة الشاعرية، وضرورة دمجها بلغة الحياة اليومية المعاشة,, ولقد
تفرق اعضاء هذه الجماعات شيعا واصبح لكل منهم صوته الخاص، الذي يختلف عن الاخر، ولعل الشاعر محمد سليمان هو اكثر من ينطبق عليه هذه الحالة فاعماله تعكس
خصوصية الصوت وتفرده، فهو يحافظ في كل قصائده على الايقاع التفعيلي، لكنه يتجاوز هذا الايقاع عندما يفجر في قصائده لغة شعرية تحتفي بطزاجة الصور، ودهشة
المفارقة، فضلا عن استخدامه للتدوير، والمزج بين اكثر من بحر شعري، داخل القصيدة الواحدة,,,
وفي هذا الحوار يرصد محمد سليمان المشهد الشعري، ويكتشف عناصر الفوضى التي تهيمن عليه، في اللحظة الراهنة واسبابها، ويقارن سليمان بين قصيدة الريادة التي
احتفت بالسياسي, وقصائد الموجة الجديدة بداية من منتصف السبعينات التي ترتكز على الذات ولا تحفل بالهم الجماعي، ويرى ان قصيدة النثر في طريقها للانقراض،
وان المستقبل يحمل في جوانحه حركة شعرية جديدة مازالت في طور التشكل, وان هذه الحركة سوف تعود للاصول التي اصابتها ضربات الحداثة بشروخ لا مبرر لها,
حالة الانهيار
،* هل نحن نعيش الآن في حالة انهيار شعري؟ ولو كان الامر كذلك فما هي الاسباب؟
،- علينا ان لا ننسى ان التحولات التي حدثت منذ السبعينيات في العالم العربي، ادت الى انحسار الشعراء الرواد، الذين طوروا القصيدة العربية بعد الحرب
العالمية الثانية، لقد دخل معظمهم الى منطقة الظل، فأدونيس ليس هو النجم الساطع الذي كان في التسينيات والسبعينيات,
والمدرسة الادونيسية اختفت، وكذلك البياتي وسعدي ونازك وحجازي لحقهم الكثير من التعتيم والوضع الذي نعيشه الآن انعكس على الحركة الشعرية، ففي العالم
العربي سقطت كل الاحلام وكل منظومات القيم, فاذا اضفنا الى ذلك المفاهيم المتضاربة للحداثة وما بعدها والتأويلات المتعددة والفضفاضة لها، كل ذلك ادى الى
ما نحن فيه الآن من انهيار شعري، ولم يعد هناك ما يميز الشعر ولا الشاعر، فالقاص وكاتب الخواطر اصبح يدرج نفسه في عداد الشعراء,
،* هل ساهم النقد في الانهيار الشعري؟
،- نعم ساهم النقاد بجهد كبير في الوصول الى ما نحن فيه، فمعظمهم ساند كل شيء وتحمس للجيد والرديء، ولان الجيد بطبيعته قليل ساد الرديء ولقد كانت الحركة
النقدية في الخمسينيات والستينيات بخلاف ذلك، ولهذا حدثت عملية غربلة حقيقية للحركة الشعرية وساهم النقد في ابراز الجيد, وبالتالي نجح في تصدير عدد من
الرموز الشعرية في العالم العربي, وسقطت جيوش المدعين، حدث هذا في الخمسينيات والستينيات، ولكن الكارثة هي ما حدث بعد ذلك,
فالحركة الشعرية منذ السبعينيات، لم يقم احد بفرزها او غربلتها، ومعظم شعراء السبعينيات لم ينشروا دواوينهم الا في التسعينيات وبالتالي تم حجبهم طويلا عن
المتلقي,
،* عندما نقارن بموضوعية بين سمات المشروع الشعري للرواد، وبين الموجة الشعرية التي بدأت منذ منتصف السبعينيات وحتى الآن فماذا تقول؟
،- مشاريع الرواد او بعضهم على الاقل عندما نفحصها سنجد ان العنصر السياسي يتصدر المشروع، وسنجد ان التصميم العام والرغبة في التغيير والطموح كل ذلك مبثوث
في قصائدهم، لكن المشاريع الجديدة توارت فيها الى حد بعيد العناصر السياسية, بما تحمله من تقريرية وخطابية ومباشرة وهي العناصر التي تعد اهم عناصر الربط
بين الشاعر والجمهور، لقد اتكأ الشاعر في ربع القرن الاخير على الذات بالدرجة الاولى وبمفهومها الواسع والشامل,
اعني الذات التي تتمركز في دائرة مكانية وثقافية في نفس الوقت الذي ينعكس عليها الواقع بكل تحولاته، ويلاحظ ايضا عند هؤلاء الشعراء تواري الحس السياسي
والقصيدة السياسية التي تكاد تكون مختفية؟
القصيدة السياسية
،* لماذا اختفت القصيدة السياسية من شعر الاجيال الجديدة؟
،- لم يأت هذا من فراغ، فبعد انهيار معظم الفلسفات الكبرى واهتزاز الثوابت وتراجع الاحلام التي كان ينطلق منها وحولها المبدع اصبح الثابت الوحيد هو الذات
واختفت القصيدة السياسية وكثر في الشعر الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والحياة اليومية بكل مفرداتها، ولم يعد الشاعر مشغولا بالهموم الكبرى، كما كان في
الخمسينيات والستينيات ، وكل ذلك وضع حواجز بينه وبين جمهوره واصبح الشاعر اكثر تواضعا، فلم يعد عرافا او متكلما باسم غيره، لقد اصبح مجرد شاعر,,! وهذا
الوجه هو نقيض وجه الشاعر الخمسيني والستيني,
عصر الشعر أم الرواية؟
،* هل سينحسر الشعر طالما نحن في عصر ازدهار الرواية؟
،- انا ارى ان الرواية ليست مزدهرة كما يذهب البعض لان ازدهارها ما هو الا ازدهار شكلي، واي قارىء منصف سيرى ان الرواية تعاني من انحسار التجريب بعكس الشعر
الذي دخل الى مراحل الفوضى بسبب المغالاة في التجريب, وسنجد ان نسبة عالية من الروايات تتكىء على السيرة الذاتية، سيرة المكان او سيرة الذات بالمفهوم
البسيط للسيرة, وسنجد ان معظم الروائيين يرتبطون او يضعون اعينهم على الجمهور وهم يكتبون من خلال السينما والتليفزيون الذي اصبح الاداة الموصلة للجمهور،
بدلا عن الكتاب, وبالطبع هذه وسيلة حرم منها الشاعر تماما, وقدر عليه ان يظل يتأمل مع عدد محدود من المتلقين,
،* لكن الشاعر يستطيع ان يكتب الاغنية ولها جمهور واسع؟
،- الشاعر الذي يكتب قصيدة لكي تغنى، هو شاعر منذ البداية حدد جمهوره وحدد لغته، وحدد عمق القصيدة؛ ومستوى الاداء الفني، وبالتالي لا استطيع ان اضعه كنموذج
او كمثال يجب ان يحتذى, فالمفروض في الكتابة الشعرية ان تكتب بحرية كاملة, وان يصبح الجمهور كامنا في داخلك، وليس قفصا او زنزانة تسجنك او تكبلك,
،* في السبعينيات ظهرت جماعات شعرية، كنت من المؤسسين لواحدة منها، هل يمكن ان تعود الجماعات الشعرية الآن؟
،- من الممكن في اي لحظة ان تتشكل جماعات شعرية تبدأ من تصور بعينه للكتابة الشعرية, وانا في رأيي الخاص اتوقع ظهور حركة شعرية جديدة في المستقبل سيكون من
اهم خصائصها العودة الى الكثير من الجماليات، التي تخلى عنها الشعر والشعراء في الوقت الحالي, والعودة الى بعض الاشكال الشعرية الاكثر صرامة وتحديدا, وذلك
لمواجهة وغياب الحد الفاصل بين الشعر واللاشعر,
،* ماذا تعني بالعودة الى جماليات تخلى عنها الشعر والعودة الى اشكال شعرية اكثر صرامة وتحديدا؟
،- اعني انه ستعود قصائد تهتم بالنغمية البارزة, فالخليل بن احمد رصد عددا محددا من اشكال التعامل الشعري اسماه بالبحور, لكن اللغة مسكونة بالنغمية واتصور
ان تتولد نغمات خاصة من مزج البحور، وانا افعل ذلك في قصائدي, اما المقصود بالاشكال الاكثر صرامة، اي الاشكال الشعرية التي تتمسك بقواعد وتقاليد، من
الممكن ان تكون جديدة وذلك في مواجهة انهيار القواعد وتداعي التقاليد,
المستقبل الشعري
،* ما هي الاسس التي بنيت عليها توقعاتك لحركة الشعر في المستقبل؟ ما هي سمات التيار الجديد الذي تتحدث عنه؟
،- من قراءتي للشعراء الجدد، ومن خلال وجودي في لجان القراءة لسلسلة ادبية, اكتشفت ان عددا غفيرا منهم بدأ يهتم بالقصيدة التفعيلية ويحاول خلق نوع خاص من
النغمات الخاصة به، واكتشفت ان عددا منهم يكتب قصيدة سياسية جميلة تعكس ما يحدث في الواقع، على الساحة السياسية والقومية,
وما يحدث من تقلبات في المجتمع، انهم شعراء يعيشون حياة مجتمعهم ولا يعتمدون بالدرجة الاولى على تقليد المترجم، والجري خلف التقاليع والموضات الاجنبية,
،* على اي شيء يدل هذا التيار؟
،- هذا يشير الى ملل الشعراء وضجرهم بقصيدة النثر، التي ظلت تتخلى عن كل شيء الى ان وصلت الى الخواطر, وابتعدت عن الشعر ولم تنجح بعد مرور ربع قرن في ايجاد
بعض التقاليد والخصائص التي تصبح علامة عليها، وتميزها، وتفصل بينها وبين الكتابة النثرية, واظن ان تيار قصيدة النثر الذي لم ينجح في اي شيء بعد مرور 25
سنة هو تيار مهدد بالانقراض من الحركة الشعرية,