ذرف
محمد المشيقيح
الكلمات: صراع وصداع
أتكلم كما أفكر وافكر كما اتكلم, هكذا خبروني, ربما لأتأمل: كم انا مسير داخل ازقة لغتي، وكم هو شاق ان اتجاوز - بحرية - قدرا من اقدارها, فهي كأية لغة
ترسم الحدود ، وتخط المحيط لكل معرفة بشرية 1 افكر واتكلم اسير حدودها ومعاييرها امَا مِن تحدٍّ لسلطتها؟! بالصمت او بالصراخ, أو بأي وجع آخر,
،(الصمت) رحلة في عروق (الصراخ) ليس الا, والكلمات وسيلتهما معا، اتساءل هل انا حقا اعيش داخل الحروف والكلمات، واللغة! آخذ ممحاة وأمرِّرها على اسمي, اين
انا ماذا تبقى مني؟ هيولى حركة,, حس ,, تفكير تفكير؟! اعود للكلمة افكر فيها من جديد, اتداخل معها, وسدى احاول تنقية افكاري من الكلمات,
الكلمات ايضا متداخلة، كل واحدة تتعلق بالاخرى, متشابكة ، في صراع تصاعدي، كل حرف يسابق اخر لرسم جسد الكلمة, فجأة اجدني مرتبكا في فوضى من الصراع,
لاماركس ولا تلاميذه يختبئون وراءها، فوضى اشبه ما تكون بكوابيس السكارى، بالهوسة البصرية والسمعية، بالصداع ايضا: المعايير والخيوط الملموسة للفوضى اننا
نلمس الافكار/فالافكار اجساد واعداد/ وفيما أتفوَّه بما اريد قوله,, يهوي الفضاء والزمن,, في دوامات دوار/ يسقطان في قرارة القلق,, 2
ورغم كل فوضى، فالصداع نشاط فعال ومشير يجعلني ابحث واتنتج بل ابحث واستهلك، كأن افتش عن قرص اسبرين، او كأس شاي اسود، او اتلمس ألذ واسرع الممرات الى
السرير, قد احتاج الى قرص منوم، وقد لا احتاج, ليس كل منوم يتغلغل داخل الحلم، لذا ليس كل منوم يخفف صداعي، ايا كان اتجاه تفكيري يتلحف الصداع كلماتي،
ايقاعها وهدوؤها، صراخها وصمتها يحتد تارة ويسالم تارة اخرى,وحين يحتد صداع الكلمات يريني الأشياء لا كالأشياء، فالسموات تبدو بحرا كثيف الدمع والجبال
هزات ارضية ثابتة، حتى النجوم يصيرها احاجي خرافية ومواويل مضيئة والحدائق - بخداع حانق - يصيرها شوكا اخضر,
الشوك الاخضر وحده يستطيع خداعي، يعلق بثوبي، باقدامي، بيدي: هكذا خداع الكلمات والالوان يحاصرنا, وهكذا نحن نسلمه عيوننا وآذاننا,
،(2)،
المعايير - ساعة الصداع - قيم مؤلمة، نوافير صامتة، حمائم تعجز عن التحليق في الفضاء، وتعجز حتى عن ان تحط فوق الاشياء الارضية, والمعايير المضادة تبدو
جدرانا ثقيلة، ابوابا مقفلة، ونوافذ لا تريد ان تنفتح, صراع المعايير وانعكاس المفاهيم: ايكون الجمود الفكري ابدا لا يتنفس، ابدا لا يصير سوى الصداع,
الصراع فالصدع، ام الصداع فالصراع؟ اكثر من تشابه الكلمتين لفظيا، تتراءى امامي وجوه اخرى للتشابه، والتشابك في آن, صراع الدور - مثلا - يحيل الواحد منا
الى مهمات متعارضة وقتيا، متناقضة منهجيا, في الحالين لابد من التضحية باحدى المهمات، وفي الحالين لابد من استقبال موجات الصداع مع قلق التضحية، وصعوبة
الاختيار وحيرته، لا انسى هنا مغازلة القانون النضالي إما لاشيء او كل شيء الضارب ارضا بالواقع، المتكىء على ارائك الحلم، ولكن سيكون الصراع والصداع معا
علي انا وحدي، لأنني سأكون ببساطة اختزلت كل شيء في لاشيء,
هروبا من المعايير الحادة، هروبا من صراع الحمائم والجدران، هروبا من أي شيء؟ ألمحني نائبا متشبثا باطياف اللامعيارية, هذه ايضا - اللامعيارية - لها
ممراتها لصداع الكلمات فالرؤية مشوشة، والحروف اشبه ماتكون بنرد: ارقامه انمحت في ضباب الاصابع, هروبا من اي شيء اذن؟ ربما هروبا من رتابة الكلمات
المنزلقة على وتر وحيد,
رتابة، سآمة، هروب, اوتار مملة لايمكن ان تكون مثل قيثارات لوركا، تلك القيثارات المضمومة الى اصابع النحاس كعصافير ميتة من العطش!! ,
،-3-
لاتتكسر الكلمات احيانا على الورقة، لاتنداح في بركة من الشك والحيرة, تأتي جافة لاحياة فيها، عديمة الحيوية والتحاور، لامع العالم الذي يغلفها فحسب، بل
ايضا مع ذاتها, ولذا فهي ميتة، مقتولة من قبل ان تكتب ومن قبل ان تلون بالحبر الداكن الذي -ربما - يزيد الاشلاء اشلاء، والركود الذهني ركوداً مادياً آخر,
وحتى لوتكسرت الكلمات ففي مقابل صلادتها هناك حركتها وذوبانها وقبولها للتمدد والانكماش، والانفتاح والانفتاح المعاكس, صراع لامثيل له للاتجاهات! كل كلمة
قد تتحرك انما بثقة (عنيفة) لاتبحث عن (المعنى) ولا عن (المبنى) بقدر ماتبحث عن ذاتها داخل اي معنى، واي مبنى,
لامرونة للكلمات في افق كهذا، افق يمارس الحجب والتعمية, كيف ارى؟ أسأل نفسي, اغمض عيني لأرى بوضوح كلمات الناس وهي تهاجر للطبيعة والاشياء المحايدة, اغمض
عيني - من جديد - غافيا في ظلام الصحو ، وافتحهما مصطدما بضجيج المصابيح، اجدني أسأل عن كلمات غريبة, أسأل مرات ومرات - أواه اما من مجيب!! وما من مجيب,
فقط أرى واسمع صوت ذلك الشاعر ينشج بهدوء: سمعت ان من يعرفون لن يخبرونا ابدا/ وسمعت ان من يخبروننا لن يعرفوا ابدا/ الكلمات خاطئة,, التراكيب خاطئة/ حتى
الاسئلة عبارة عن تسوية (3)
لامفر اذن من مهادنة الكلمة واغوائها، قد تتأبى وتصمت، ترتفع الى شرفات شاهقة، تصمد امام تيار الاستعطاف، وتعبث بفرشاة قوس قزح بعيدا حيث لا انامل تلمسها،
ولا عيون جارحة تسترف جمالها, لايهم, ألاحقها، أتعب وأتصدع وأنتظر، ولتتبعد اكثر ، كشجرة لاغصون لها, اسرح هباءها وأتأمل مهما تقرحت يداي من حلاوة الثمر
،(4) ,
وخلفها اسافر حتى يتصاعد الدخان من البوصلة (5) ,
،1 - د, محمد عايد الجابري في تكوين العقل العربي عن المفكر الألماني هردد ص 77,
،2 - اوكتافيوبات، من اخر قصيدة كتبها بعنوان (استجابة ومصالحة) نشرت في الشرق الاوسط بالعدد 7132 ترجمة نويل عبدالاله,
،3 - تشار لزرايت شاعر امريكي معاصر: مقطع ضمن ثلاث قصائد نشرت في الحياة بعدد 12900 ترجمة فوزي محيدلي,
،4 - محمد عفيفي مطر - من قصيدة الليل رؤى وخرافات ,
،5 - من قصيدة كسركوديولص,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved