الأمة والأقليات (1 - 4)،
التعددية: ثمرة إسلامية
د, محمد عمارة
لا نغالي اذا قلنا ان التعددية هي ثمرة اسلامية ارتبطت برسالة الاسلام وتجسدت في حضارته,, لان التعددية هي معيار ارتقاء الانسان، عندما يقبل الآخر
فيتعايش معه، وعندما ينضج فيبصر، الى جانب عوامل وسمات الاختلاف عوامل وسمات الوحدة والاتفاق، وعندما يبلغ به النضج، الحد الذي يري فيه ضرورة الاختلاف،
كالاتفاق، لان التنوع والتعدد زينة للحياة واغناء للاحياء، فهو - كالاتفاق - فطرة انسانية وضرورة من ضرورات الحياة!,,
ولان هذا الطور من فكر البشر هو طور النضوج ولان الاسلام قد ختم رسالات السماء الى الانسان عندما بلغت الانسانية سن الرشد فلقد ارتبطت التعددية بشريعة
الاسلام وأمته وحضارته,
فقبل الاسلام ، وحتى في بلاد كمصر اشتهرت بالتسامح والانفتاح الحضاري والتعايش مع الآخرين والتأثر بهم وجدنا الديانة التوحيدية ل اخناتون (1369 - 1353
ق,م) تدمر معابد امون وتضطهد كهنتها وتطارد اتباعها في كل مكان,, فلما انتصرت الامونية على الاخناتونية بادلتها اضطهادا باضطهاد حتى اجتثتها وطوت صفحتها
من الوجود,
وعندما دخلت النصرانية الى مصر، شن اقباطها النصارى حملة ابادة ضد ديانتها القديمة، فهدموا معابدها، ودمروا هياكلها، واحرقوا مكتباتها، وسحلوا كهنتها
وفلاسفتها!,,
وكذلك صنعت مصر - الدولة الرومانية الوثنية - بنصارى المصريين,, بل لقد استمر الاضطهاد لهم حتى بعد تدين الدولة الرومانية بالنصرانية ذلك ان اختلاف المذهب
داخل النصرانية - كان مصدر اضطهاد وابادة من الملكانيين البيزنطيين لليعاقبة المصريين,, حتى ليؤرخ نصارى مصر حتى اليوم بعصر شهدائهم، الذين استشهدوا على
يد نصارى مثلهم لمجرد الاختلاف في المذهب!,, فلم يسع مذهب مذهبا آخر حتى داخل الدين الواحد,,!،
بل لقد صنع المصريون النصارى ذلك الاضطهاد مع بعضهم البعض فاضطهدت الارثوذكسة التي شكل اثناسيوس (295 - 373م) مذهبا - اضطهدت الآريوسية الموحدة نسبة الى
،(280 - 336م) - وطاردت انصارها، حتى ازالتها من الوجود!,,arius آريوس
فكان تاريخ الدين والتدين خاليا من سماحة التنوع ورحابة صدر التعددية حتى ارتفعت في مصر رايات الاسلام، فاعلن عمرو بن العاص (50 ق,ه 574 - 664م) الامان
الديني لكل المتدينين وامن المضطهدين من قبط مصر، فعاد الهاربون في الصحاري والمغارات، ورد اليهم الاسلام الحق في حرية الاختيار للدين وللمذهب بل ورد
اليهم كنائسهم المغتصبة، فكان الاسلام اول دين مؤسس ويحرر دور العبادة للمخالفين!,,
وكان قرآنه اول كتاب دين لايتحدث عن الحفاظ على المساجد وحدها بل يضع ترتيبها -وفق التاريخ - في نهاية دور عبادة الملل والشرائع ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا , 1
هذا عن مصر، التي يضرب المثل بشعبها في التسامح الديني والتعايش بين المختلفين, وفي الغرب الروماني، والولايات الشرقية الرومانية، كان الاستفراد ورفض
التعددية منهاجا متبعا,, فالوثنية الرومانية تضطهد النصارى، وتلقي بهم احياء الى الاسود طعاما!,, وعندما تدين الرومان بالنصرانية صنعوا نفس الاضطهاد مع
الوثنيين! بل ومع النصارى الذين اختلفوا معهم في المذهب!,, وفي كل عهودهم - الوثنية - والنصرانية - مارسوا الاضطهاد مع اليهود ابادة وتهجيرا، وهدما
للمعابد، وتحويل اماكنها الى مجمعات للنفايات والقاذورات!,,
ولقد استمر هذا الاكراه والقهر في ربوع الحضارة الغربية وامتداداتها، طوال تاريخها سنة سيئة مرعية ومتبعة الى حد كبير ويكفي ان نطالع مرجعا علميا واحدا
كتبه مستشرق منصف، هو سيرتوماس و, ارنولد (1864 - 1930م) لنرى هذه القسمة والخصوصية الحضارية الغربية تقابلها وتناقضها سماحة الاسلام - المؤسسة على
التعددية - ازاء الديانات الاخرى ومعتنقيها,
فشارلمان (742 - 814م) فرض النصرانية علي السكسونيين بحد السيف,, وفي الدانمرك استأصل الملك كنوت الديانات غير المسيحية من بلاده بالقوة والارهاب,, وفي
النصرانية على الشعب فرضا,, وفي drdo farumm militine christ بروسيا فرضت جماعة اخوان السيف المسيحية على الناس بالسيف والنار,, وفي ليفونيا، فرض فرسان
جنوب النرويج ذبح الملك اولاف ترايجفيسون كل من ابى اعتناق المسيحية، او قطع ايديهم وارجلهم ونفاهم وشردهم، حتى انفردت النصرانية بالبلاد,, وفي روسيا فرض
عام 988م النصرانية على كل الروس، سادة وعبيدا، اغنياء وفقراء، غداة اعتناقه لها!,, ولم يعترف فيها بامكانية تعدد الاديان الا في مرسوم vladimir فلاديمير
عملية ذبح غير المسيحيين على التنصير او النفي من البلاد d. petrvich صدر عام 1905م!,, وفي الجبل الاسود - بالبلقان - قاد الاسقف الحاكم دانيال بتروفتش
عام 1340م,, وفي اسبانيا - قبل الفتح العربي - كان المجمع السادس، في طليطلة، قد حرم المذاهب غير المذهب الكاثوليكي، واقسم الملوك على تنفيذ هذا القانون
بالقوة ,
وحينما امتد نفوذ ونهج الحضارة الغربية هذا, شهد التاريخ هذا القهر والاضطهاد والاكراه فاليعاقبة في مصر والشرق، اضطهدهم الاثوذكس الملكانيون، بالقتل
والنفي والتشريد,, وقتل جستنيان الاول (527 - 565م) مائتي الف من القبط في مدينة الاسكندرية وحدها، حتىاضطر من نجا من القتل الى الهرب في الصحراء,, وفي
انطاكية حدث نفس القهر والاضطهاد لغير المسيحيين ولمعتنقي غير مذهب الدولة الرومانية من المسيحيين!,, وفي الحبشة قضى الملك سيف ارعد (1342 - 1370م) باعدام
كل من ابى الدخول في المسيحية،بنفيهم من البلاد,, وصنع ذلك الملك جون في الربع الاخير من القرن التاسع عشر الميلادي!,, ناهيك عن مأساة مسلمي الاندلس على
يد فرديناند وايزابيلا!,,
لقد سنت الحضارة الغربية سنة الاكراه في الدين، واتخذت القهر - في ابشع صورة- سبيلا لانفراد المسيحية بساحة التدين بل انفراد مذهب واحد من مذاهبها بعقائد
الذين اكرهوا على الايمان وكان شعارها كلمات الوصية المنسوبة الى القديس لويس (1214 - 1270م) والتي تقول عندما يسمع الرجل العامي ان الشريعة المسيحية قد
أسيء الى سمعتها فإنه ينبغى الا يذود عن تلك الشريعة الا بسيفه، الذي يجب ان يطعن به الكافر في احشائه طعنة نجلاء!,, 2
فنحن اذن امام خصوصية غربية اعتمدت سبل القهر والاكراه لتوحيد المعتقد والمذهب الديني حتى لقد حلت مواطنها المسيحية من الاقليات الدينية التي هي شهادة
التسامح والتعايش بين الديانات,,,
فالاستقرار الديني - بل المذهبي - كان هو المنهج السائد - ولم تعرف التعددية طريقها الى تلك المجتمعات الا بعد ان تعلمتها من نظام الملل العثماني في
العصر الحديث!,,
اما الاسلام فمنذ ان ارتفعت راياته على هذه الولايات وجدنا امير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل القدس (15ه -
،636م) وعقد لاهلها العهد العمري الذي قنن حرية التدين وحق الاختيار الديني، ونهج التعددية,, وجدناهم يفرشون ارديتهم ويحملون عليها النفايات والقاذورات
التي وضعها الرومان في مواطن العبادة، ويعيدون لها طهرها وقدسيتها، بل يتتبعون هذه الاماكن التي سبق وعبد فيها الله، وفق مختلف الشرائع، فيقيمون فوقها
المساجد والمحاريب التي تتلى فيها آيات الله آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين احد من رسله وقالوا
سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير 3
لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي 4 وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر 5 لكم دينكم ولي دين 6 ,
فبالإسلام بدأ فجر التعددية في تاريخ الانسان,, لأنه الشريعة التي علقت ايمان المؤمن بها على الايمان بكل الرسل والرسالات!,, ولم يقف الاسلام بالتعددية
والتنوع والاختلاف عند حدود الحق الانساني - الذي يجوز التنازل عنه!,, وانما ارتفع بها الى مقام السنة الالهية والقانون الرباني الذي لاتبديل به ولا
تحويل,, فهي القاعدة والسنة الكونية والنهج الحضاري الذي اراده الله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (7) ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف السنتكم
والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين (8) يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عندالله اتقاكم (9) , وصدق
الحديث النبوي على هذه الآيات القرآنية: ف الانبياء اخوة لعلات -(امهات متعددات)- دينهم واحد وامهاتهم شتى (10) ,
وقنن الدستور الاول للدولة الاسلامية الاولى: وان يهود امة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وبينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم (11) ,
وجسدتها الحضارة الاسلامية واقعاً معيشا,, فعاشت وتعايشت، وشاركت في الابداع الحضاري كل الوان النوع والتعددية,
ففي الاطار الاسلامي الاوسع عاشت التمايزات القومية تحدد اللغات دوائرها وتعايشت التمايزات الدينية - سماوية ووضعية - تحدد الشرائع دوائرها وانتماءاتها,,,
وفي الإطار العربي الاسلامي وجدنا ونجد خارطة التعددية في الاقوام يتجاور فيها - مع العرب - الاكراد والبربر، والأرمن، والآراميون، والسوريان، والتركمان،
والشركس، والاتراك، والايرانيون، والنوبيون، والزنوج، واليهود الغربيون,, الخ,
وعلى خارطة التعددية في الملل والشرائع والمذاهب الدينية وجدنا ونجد: اليونان، الروم ، الارتوذكس، والناطرة الآشوريون، والاقباط الأرثوذكس، واليعاقبة
الارثوذكس، والأرمن الارثوذكس، واليونان الروم الكاثوليك، والسريان الروم الكاثوليك،والأرمن الروم الكاثوليك والاقباط الروم الكاثوليك والكلدان الروم
الكاثوليك ،والموارنة الروم الكاثوليك، والبروتستانت، والانجيليون,, واليهود الربانيون الارثوذكس واليهود القراؤون، واليهود السامريون والصابئة واليزيدية
والشوابك، والبهائية والديانات القبلية الزنجية الارواحية,,, الخ,
وعلى خارطة التعددية في المذاهب الاسلامية: الكلامية والفقهية - السنة بمذاهبها والشيعة بمذاهبها,, فهناك: الأحناف، والمالكية, والشافعية، والحنابلة،
والجعفرية، والزيدية، والاباضية، والظاهرية، والاسماعيلية، والدروز، والعلويون (النصيرية),,, الخ,
هكذا تجسدت في خارطة الحياة الانسانية بالحضارة الاسلامية: امة واحدة ضمت كل الوان التنوع والتعدد والاختلاف في الفروع - التي تكون لبنات البناء الواحد
لامة الاسلام- المتحدة في العقيدة والشريعة والحضارة ودار الاسلام, والمتنوعة فيما عدا ذلك من السمات والقسمات!,,
تلك هي قصة الاقتران بين التعددية والاسلامية كأمة حضارية,, كما عرضت لها وقائع التاريخ (12) ,
،(1)الحج: 40,
،(2)ارنولد (الدعوة الى الاسلام) ص 30 -32-72-12-124-135- 136 - 141 - 143- 154 - 156- 230 - 266- 274- 276 - ترجمة د, حسن ابراهيم حسن ، د,عبدالمجيد
عابدين، اسماعيل النحراوي, طبعة القاهرة سنة 1970م,
،(3) البقرة: 285
،(4)البقرة: 256,
،(5) الكهف: 29,
،(6) الكافرون: 6,
،(7) المائدة :48,
،(8) الروم:22
،(9)الحجرات:130,
،(10) رواه البخاري ومسلم وابو داود والامام الاحمد,
،(11) (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) ص19، 20 جمع وتحقيق: د, محمد حميد الله, طبعة القاهرة 1956م,
،(12) انظر تفصيل ذلك بكتابنا ( الاسلام والتعددية) طبعة دار الرشاد, القاهرة 1997م,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved