كل عشاق بيروت ولبنان الذين تركوها في سنوات الحرب الأهلية ثم عادوا إليها بعد أن أطفأت نار الفتنة الطائفية,
كل أولئك عبَّروا عن خيبة أملهم في عشيقتهم التي شوهتها الحرب، وتحدثوا عن الآثار السيئة التي تركتها على معالم المدينة وعلى أخلاقيات أهلها وأساليب
تعاملهم مع عشاقها,
لبنان,, تلك الفاتنة العربية التي كانت تتربع على عرش الجمال، وعلى قلوب العشاق، على قصائد الشعراء,
لبنان التي قال عنها الراحل /نزار قباني:
كان لبنان لكم مروحةً
تنشر الألوان والظل الظليلا
كم هربتم من صحاراكم إليه
تطلبون الماء,, والوجه الجميلا
كل ما يطلبه لبنان منكم
أن تحبوه,, تحبوه قليلا
وبيروت,, تلك المدينة الحالمة التي ضربت الرقم القياسي في كثرة العاشقين والمريدين,, والتي ولدت على سفوحها قصص الحب,, وقصائد الحب منذ ان هدأت أوضاعها
هرول إليها عشاقها من أنحاء الوطن العربي بأدواتهم القديمة، وأحلامهم القديمة التي تحطمت على صخرة الواقع المؤلم,
وكان الدكتور الشاعر غازي القصيبي احد المهرولين إليها,, فقد عاد إلى بيروت بعد غياب عنها دام خمسة وعشرين عاماً,, وجسد ذكرياته عن المدينة ومشاهداته بنص
جميل قرأته على صفحات جريدة (الحياة) العدد 12839 الصادر يوم الاربعاء 29 ابريل 1998م,
عنوان النص (آه,,, بيروت) وهو نص جديد كتبه الشاعر في شهر أبريل من هذا العام الميلادي,
وقد أبدع معاليه في هندسة هذا النص,, كعادته عندما يمتطي صهوة القصيدة العمودية, فهي بالنسبة له كالخيل النافرة، وهو الفارس الذي يجيد ترويضها,
,, في المحور الأول من القصيدة يصور الشاعر فجيعته في بيروت التي أفسدتها الحرب، وفي شبابه الذي أفسدته سنوات العمر:
ربع قرنٍ,, وما التقينا,, فقولي
أين ماكان في الزمان الجميل,,؟1
آه,, بيروت,, ما لوجهك يبدو
،- مثل وجهي - مبرقعاً بالذبول,,؟
كيف ضاع الشباب منك ومني
فقنعنا بذكريات الكهول,,؟
,, ثم يستمر الشاعر في عزف هذا اللحن الحزين - متكئاً على صيغة السؤال للتعبير عن لوعته بذلك الواقع المرير الذي آلت إليه المدينة,, والذي آل إليه شبابه,
،***
ثم ينتقل في المحور الثاني إلى الحديث عن الماضي الجميل لبيروت، وعن ماضيه الجميل معها، عن طريق عقد مقارنات بينه وبين المدينة، في صور شعرية تتنافس في
درجة الجمال ودقة التصوير:
كنتِ حلماً,, مجنِّحاً,, مستحيلاً
وأنا كنتُ شاعرَ المستحيلِ
كنت ليلى,, وكنتُ مجنون ليلى
يالَما يفعل الهوى بالعقول,,!!
كنتِ بحراً,, وكنتُ فيه شراعاً
هام يبغي شواطىء المجهولِ
،***
,, وفي المحور الثالث يستنطق الشاعر مدينته (بيروت) كي تحدثه عن تفاصيل الحرب وتروي له أهوالها وأحداثها الدامية:
اسندي الرأس فوق صدري,, واحكي
قصة الهول,, في سواد الفصول
كيف سالت دماءُ أمي وأختي
بيدي صاحبي,, وسيف خليلي,,؟!
كيف راح القناص يحرق عرسي
برصاصي,, وفرحتي بفتيلي,,؟!
،***
ثم يعود في المحور الرابع إلى الحديث عن لوعته بفقد شبابه، شاكياً تلك اللوعة إلى حبيبته (بيروت):،
لكِ اشكو,, بيروت,, فَقدَ جنوني
واندفاعي,, وفورتي,, وفضولي
فرَّ مني طفل لَعَوبٌ شقي
وأتى الشيخ بالوقار الثقيلِ
,, ويختم النص بآهةٍ مجروحةٍ ألقاها في لحظة الوداع:
آه,, بيروت,, ودَّعيني,, فإنَّي
ضقتُ ذَرعاً,, بوقفتي في الطلولِ
قد تعودين أنتَ بنتاً,, ولكن
عودتي للصِّبا,, سرابُ أصيلِ