كلما كانت لغة القصيدة جميلة وواضحة وتلقائية,, كان ذلك أدعى الى فهم مضامينها والى الإعجاب ببنائها الخارجي,
والعكس صحيح,, فكلما كانت تلك اللغة معقدة ومتكلفة ومغرقة في الرمزية,, كان ذلك أقوى الاسباب لسقوط القصيدة ونفور الناس منها وابتعادهم عنها,
لأن المتلقي يبحث عن نص جميل يفهم مفرداته وتفاصيله ويستطيع ان يفك رموزه بلاعناء أو مشقة ويتناغم مع إيقاعاته وإيحاءاته,
ولعلنا شهدنا - بكل اسف وحزن - سقوط بعض شعرائنا وتلاشيهم وانطفائهم بل واحتراقهم - فجأة - ومن ثم انصراف الناس عن إبداعاتهم وانسحابهم من الساحة,, بعد جدل طويل دار حول مشروعية تجاربهم,
لقد كان معظمهم من الشعراء المتميزين,, ولكن النقد المستورد حرفهم وطبّل لهم ونفخ في ابواقه خلفهم,, حتى ساقهم إلى هذه النهاية المحزنة,
ويبدو ان الكاتبة والقاصة/ بدرية البشر قد وضعت اصبعها على الجرح، وشخصت العلة التي أدت لهذا السقوط,, وذلك عندما كتبت على هامش مهرجان الجنادرية - 13 - مقالاً بعنوان: العامي يتفوق,, العامي يعم,, في زاويتها الاسبوعية بمجلة اليمامة,
المقالة - في هذه اللحظة - ليست أمامي,, ولكنني أتذكر أنها اشارت الى ان شعراء القصيدة الحديثة بالغوا في عملية التجريب، وتمادوا كثيرا في دهاليز الرمزية والغموض,, وكان ذلك سببا في فشلهم وفشل تجاربهم,
بينما شعراء العامية مالوا نحو الوضوح والعفوية واستطاعوا مخاطبة عقول الناس وتحريك وجداناتهم,, وبذلك كسبوا الجولة وصار لهم هذا الحضور الفاعل، وهذه الحظوة لدى المسؤولين، وهذا الإقبال من الجماهير,
لقد كان بودي ان مقالة الاخت الكريمة بين يدي الآن لكي استشهد ببعض نصوصها ولكنني اعتقد ان ما أشرت إليه لايخرج كثيرا عن تبريرها لذلك الانقلاب الذي حدث في ساحة الشعر السعودي,, وجاءت القصيدة الشعبية على حساب القصيدة الفصيحة,
إن التطبيل لشعراء القصيدة المعاصرة الشباب، وحث ركابهم نحو الإغراق في التغريب,, بحجة فتح مجالات التجريب أمامهم، وفتح بوابات الاحتمال في تفسير نصوصهم,, جعل شاعرا شابا يتوقد الذكاء من عينيه - كما يبدو في الصورة- هو الشاعر علي العمري، ينحدر في قصيدة نشرتها له مجلة اليمامة مؤخرا الى هاوية السقوط في مثل التعبيرات والجمل الآتية:
السهر عند وردة تبكي على فوهة القميص,
قرابة القسم الناهض من القطيفة,
السهر طوال رجفة الجذع,
إلى الحس فرَّ من اللحم,
السهر في يد الحبر, ,,تحت الأبيض
حين حلم يسهر على الجثة
السهر وراء المخلب
لصق فانوس
سهر الجدار على روحه
والماء على غفوة الحصى
جائع حذاء العين,
السهر يغرق في الشفة
أقلُّة الشاي,
سائل اللحظة الصامت في الكأس الشاي
أكثر السهر فوق الخشب النائم
السهر أسفل الكلام ,
كان هذا مقطعا بعنوان تحت الأبيض تليه ثلاثة مقاطع أخرى تحت عناوين:
نمل - غصن - مكتوب,
وأعتقد ان أخي الكريم علي العمري كان ضحية لتلك الموجة التي ألقاها مدُّ التغريب على شواطئنا,,
ثم انحسرت امام رفض الجماهير,,
وتركت ضحاياها على الشاطىء يعومون في أوحال الحداثة المتفلتة من كل القيود,
لقد حاولت تيارات التجديد تغيير ملامح القصيدة العربية الفصيحة,, التي احتفظت بها القصيدة الشعبية,
وكانت النتيجة هذا الضمور,,
وهذا الفشل الذريع,,
وهذا السقوط في أوحال التقليد الأعمى,
فهل من منقذ,,
وهل من علاج ناجع لآثار تلك الجناية؟!,