في مرحلة الاندفاع والتعصب الأعمى كنت من المنادين بإسقاط غرض المديح، لأنه في نظري عبارة عن مشاعر مزيفة مصبوبة في قوالب شعرية لغرض التكسب، بدليل أنه لا يوجه إلا للخلفاء والأمراء والموسرين,
وأتذكر أنني كتبت في يوم من الأيام مقالاً بعنوان دعوة لإسقاط غرض المديح تم نشره في مجلة الجيل الصادرة عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب,
وكنت أفاخر بذلك الموقف,, وأتعصب له,, إلى أن اكتشفت أن شعراء المديح أصبحوا يملأون الساحة، وأن عطاءاتهم لا تخلو من الإبداع والتميز,
عندها رأيت ضرورة مراجعة ذلك الموقف المتعصب,, خصوصاً حينما تذكرت أننا قرأنا في مقررات الأدب رأياً يقول: أعذبُ الشعر أكذبه ,
ولأن الحاجة أمّ الاختراع كما يقولون فقد تكون الحاجة الى أعطيات الممدوحين وصلاتهم دافعاً قوياً للمنافسة على إنتاج نماذج جيدة,
وهناك ناحية أخرى مهمة يقتضي الحديث عن شعر المديح الاشارة اليها,, وهي أن هذا النوع من الشعر لا يخلو في بعض نماذجه من المصداقية، فليس التكسب أو طلب الحظوة والتقرب للممدوح هي الدوافع الوحيدة لإنشاء قصائد المديح وكتابتها, وليس أدلّ على ذلك من المدائح النبوية التي كان وما يزال الدافع لكتابتها هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم والاعجاب بسيرته والتصديق برسالته,
أعود الى شعر المديح الذي أذكى جذوته الشعراء الشعبيون,, وطغت موجته على ساحة الشعر السعودي في الآونة الأخيرة، وتنافس على كتابته الشعراء وأبدعوا في ذلك، وأقول: إن هناك نماذج وعينات من هذا الشعر تشتمل على لغة شعرية جميلة,, لا تملك إلا أن تقف أمامها بإعجاب,
وعلى سبيل المثال فقد قرأت العديد من قصائد المديح بمناسبة عودة صاحب السمو الملكي الأمير/ سلطان بن عبدالعزيز إلى أرض الوطن بعد رحلته العلاجية في الخارج,
وكان من بين النصوص التي أعجبتني، ودعاني الإعجاب الى الاحتفاظ بها، نص للشاعر/ عبيد الأزمع بعنوان المجد,, سلطان ,
يقول عبيد:
والله,, انّي لاشعل الحرف وارقابه
لين احطه تاج رأسي واماري به
القصيد ان ما أعجبك ويش يبغى به
لعنبوه إن ما أعجبك عقب ها الغيبة
الشعر خلَّد مع الوقت كتّابه
وكل شاعر يرفعه قوَّ أساليبه
إن ذكرت المجد سلطان عيابه
ما خذه من دون شك ولا ريبه
وان ذكرت العز سلطان عدّابه
اعتلا به فوق عالي مراقبيه
سلم راسك يا ستر نجد وثيابه
لو تعرّى الشعب تستر عذاريبه
بكَّر الوسمي مطر ما فرحنا به
الفرح لا جيت والعشب تمشيه به:
ورغم ما في القصيدة من خصوصية تتمثل في:
جيت باسم سبيع ورماح واللا به
حمّلوني لك سلام وعاني به
إلا أنها تظل قصيدة متميزة توحي لك بأن الشاعر فرغ في مفرداتها شحنة عاطفيةتناسب الموقف وتليق بالرجل الممدوح,
ولعل من ابرز نصوص المديح التي اطلعت عليها مؤخراً قصيدة للشاعر المعروف/ أحمد الناصر الأحمد وهي موجهة لصاحب السمو الملكي الأمير/ متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز,, يقول أحمد:
متعب,, يفزّ الشعر,, تعشوشب أوراق
تطرح ثمر,, والظل هاجس ورقها
متعب,, اصيل اجداد وأمجاد وأخلاق
حاش الفضايل,, حبَّها، واعتنقها
متعب,, وله بالعز موعد وميثاق
وإلى جت الشدات,, متعب تفقها
متعب,, مطر,, واحيان رعّاد براق
له بندقٍ ما هو بيخطي فشقها
متعب,, ومنك الشعر والشعر بك لاق
جتك القصيدة,, عطرها مع عرقها
يا سلام,,
هل رأيتم أجمل وأكثر تلقائية وبساطة من هذا التعبير,,؟!
إنها لغة القصيدة,