والكتاب العزيز كان - وما يزال- مقصد كثيرين من الباحثين الذين يبحثون عن المعرفة السامية الإلهية، ويطلبون الأجر والثواب من الباري سبحانه وتعالى عن طريق عملهم في خدمة كتابه العزيز وسنة رسوله المطهرة
كان ذلك منذ بدأ حركة التأليف عند المسلمين وظل متصلا- وما يزال- وكل باحث يجد جديدا يضيفه الى ما قدمه اسلافه لأن ما يأمونه جميعا أرحب من ان تحيط به الافهام وان تستوعب كل ما يدل عليه العقول لكونه كلام الحي القيوم الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وكل ذلك يجري على ما قدره له وقضى به فيه
ومعنا اليوم واحد من تلك المؤلفات التي أمّت بعضا من آيات الكتاب العزيز وقف فيه مؤلفه تسعا وثلاثين ومائة وقفة كانت له فيها أحاديث طيبة
ذلك هو ·نظرات لغوية في القرآن الكريم الذي الفه الدكتور صالح بن حسين العايد ونشره سنة 1417ه في 214 صفحة من القطع المتوسط
والدكتور صالح من ابناء مدينة الرس التي ولد بها سنة 1374ه وبها كانت دراسته الأولى في الابتدائية والمعهد العلمي
والتحق بكلية اللغة العربية بالرياض التابعة لجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، فتخرج بها سنة 1397ه ليلحق بالدراسات العليا في قسم النحو والصرف واللغة، ومنه حصل على الماجستير سنة 1403ه في موضوع ·تحقيق شرح كتاب الحدود النحوية ل عبدالله بن احمد القالهي المتوفى سنة 972ه
ومن القسم نفسه حصل على الدكتوراه في موضوع ·تحقيق كتاب البديع في علم العربية ل مجد الدين المبارك بن محمد الأثير المحدث المتوفى سنة 606ه وعمل في كلية اللغة العربية وكيلا ثم مديرا لمعهد العلوم الاسلامية العربية في جاكرتا بأندونيسيا ثم مديرا لمعهد العلوم الاسلامية والعربية بالولايات المتحدة الأمريكية ثم عميدا لشوؤن المعاهد في الخارج
ولم يصدر المؤلف مقدمته بالتصدير التقليدي بل قال ·الحمد لله الذي انزل أعظم المعجزات على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فخصه بكتاب انزله بأفصح لسان وادخر في آيه غُرر البلاغة ودُرر البيان، تحدى قوما ملكوا ناصية الفصاحة وفنون الكلام أن يأتوا بآية من مثله، فآبوا بالخيبة والخسران، بهرتهم سلاسة الفاظه، وإحكام اساليبه، واتساق ايجازه واطنابه، وما فيه من حجة وبرهان، حتى قال قائلهم، ·والله ان لقوله لحلاوة، وان اصله لعذق، وان فرعه لجناة وحق للوليد بن المغيرة ان يقول ذاك، فهو امام ·حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الاهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الاتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه ، ·ولا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده الا محبة، ولا يزال غضا طريا وغيره من الكلام- ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه- يمل مع الترديد، ويعادى اذا أعيد، لان اعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد كما قال السيوطي -رحمه الله-
وهذا الافتتاح حسن جدا يوحي بالموضوع الذي يعالجه الكتاب، بل يدل عليه دلالة صريحة
وما قلنا في صدر الحديث يؤكده المؤلف بقوله: ·وسيظل كتاب الله تعالى غضا طريا، وبحرا زاخرا باللؤلؤ والدر والمرجان، لكنه مُشرع الأبواب مهما قرأه القارىء، واعاده، فسيظفر في كل مرة منه بعجائب من عجائبه التي لا تنقضي، كما قال سهل بن عبدالله: ·لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما ان ليس له نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وانما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه، وكلام الله غير مخلوق، ولا يبلغ الى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة
وينحي المؤلف باللوم على أولئك الذين جهلوا قدر اللغة العربية وسهمها في فهم الكتاب العزيز والذين تنكروا لهذه اللغة وصاروا يطعنون فيها وأهلها ويستخفون بها وبالعاكفين عليها ثم يقول: ·ولكن القلب ليحزن وان العين لتدمع من قوم قد تزيوا بزي الدين والعقل، بل ربما تسربلوا بسربال الدعوة، ومع ذلك كله لم يدلهم شيء من ذلك على اتقان ما يقوّم السنتهم من علوم العربية، فكم من خطيب لم يتهيب صعود المنابر التي شيبت رأس عبدالملك بن مروان، فصار الخطيب يخبط أمام القوم خبط عشواء، ف·يحرك ما يشاء بما يشاء لا يضيره ان يرفع منصوبا أو مجرورا، أو ان يفعل عكس ذلك فيفسد ما جمعه من معان شريفة بلحنه الممجوج ثم يشير الى ما أصاب بعض حفاظ الكتاب العزيز من فقدان التأثر به والتفاعل معه وان ذلك لم يكن الا نتيجة لجهلهم بلغة الكتاب العزيز والسنة المطهرة
وهذا صحيح لأن من لم يفقه لغة العرب ويدرك طرقها في الدلالة على المقاصد لا يمكن ان يدرك الدلالات الصحيحة لألفاظ الكتاب العزيز، ذلك الذي أعجز أساطين البلاغة من العرب
وهذا يعني ان الادراك الكامل لما اشتمل عليه الكتاب العزيز في لفظه ومعناه مما لا يمكن ان تحيط به افهام البشر احاطة كاملة
غير ان من يجتهد في اسباب المعرفة، وأهمها احسان اللغة العربية وعلومها سوف ينال من ذلك ما يفتح الله به عليه وذلك بقدر استعداده وواقعه النفسي والعملي، لأن ما يفتح الله به على الصالحين ليس كمثل ما يدركه سواهم
وتحدث المؤلف عن الضعف الذي اجتاح ألسن كثيرين من أهل العصر الأمر الذي أزعج الغيورين على لغة الكتاب العزيز فتحدثوا وبحثوا وألفوا ولكن الداء لم يبرح وذلك ما دعاه الى البحث عما يمكن ان يكون منهجا ومذكرا وفي ذلك يقول: ·وإني حين انعمت النظر في هذه المشكلة، ودرست أسبابها، وجدت ان أبرز الاسباب هو ان هناك شعورا لدى كثير من الناس بالقدرة على التعبير دون الحاجة الى تعلم علوم اللغة العربية، بدعوى ان المستمعين فقدوا الاحساس باللحن، وان الفكرة عندهم أولى من صحة الأسلوب وجودته
ومن أجل نقض هذه الفرية الباطلة بدأت منذ سنوات في انعام النظر في كتاب الله -عزوجل- وفي كتب التفسير، وخلصت من تأمل أقوال العلماء الى الخروج ب·نظرات لغوية في القرآن الكريم تبرز الروعة الأسلوبية في كلام الله تعالى التي لا يمكن الظفر بها والوقوف على بدائعها إلا بزاد غير قليل من دراسة مكنونات اللغة العربية
وهذا التعليل للتأليف وان كان جيدا حسنا إلا انه محتاج الى ما يتمه وهو بيان سبب هذا التخصيص للآيات التي تحدث عنها
ذلك ان القرآن الكريم كله خيار فلا يمكن ان يقال انه تخير، فإذا أم الباحث بعضا من الآيات الكريمة فلا بد من ان يكون هنالك سبب للحديث عنها دون سواها، وهذا ما لم يذكره المؤلف الفاضل اثابه الله
لقد شغلتنا هذه المقدمة عن مادة الكتاب نفسه، وذلك شأن كل عمل جيد، أي جزئية منه يمكن ان تستولي على مادة الحديث وزمنه، فلعلنا نقبس شيئا نمثل به الاسلوب الباحث الفاضل في معالجة الحديث عن الآيات الكريمة
على انه قد مهد لهذه الأحاديث بتمهيد عنون له بقوله:·سبيل تدبر كتاب الله وبنى ذلك على ثلاثة، الأول: فهم علوم اللغة، والثاني: الاخلاص، والثالث: الذوق السليم، أفاض بعد ذلك في الحديث بما لا يتسع المقام للحديث عنه فلنخلص الى ايراد الانموذج الذي وعدنا بقبسه وهو حديثه عن ·كنتم خير أمة الآية 110 من سورة آل عمران بقوله: ·قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون 110 آل عمران
عدَّ بعض المفسرين والنحاة ·كان ههنا زائدة وجعل المعنى: أنتم خير أمة أخرجت للناس، وبعضهم جعلها بمعنى ·صار أي صرتم خير أمة أخرجت للناس
وهذان القولان غير حسنين، فادعاء زيادتها خطأ واضح، لأن كان لا تزاد في أول الكلام، وأما جعلها بمعنى ·صار فمعناها: أنهم لم يكونوا خير أمة للناس، ولكنهم صاروا فيما بعد، وهو صحيح لو أريد بهذه الأمة العرب، أما المراد بها المسلمون فالمعنى غير مستقيم
ولعل الصحيح -والله اعلم- ان ·كان على معناها الأصلي مع افادة معنى الدوام، أي: كنتم في سابق علم الله، أو يوم أخذ الله المواثيق على الذرية، خير أمة أخرجت للناس، ولا تزالون كذلك فتفيد ·كان هنا ان خيريتهم على الناس صفة أصيلة فيهم، لا عارضة متجددة
على ان المؤلف اثابه الله عندما يتحدث عن آيتين متباعدتين يجعل العنوان حينا للآية الثانية، والأولى ان يكون للأولى ومثال ذلك تقديم ذكر آية الأعراف على آية البقرة ·وإذ استسقى موسى ولهذا أكثر من مثالوعلى أي حال فإن هذا الكتاب اسهام جليل في المكتبة القرآنية، أثاب الله مؤلفه واشركنا معه في الثواب