التقويض الفرويدي (9) سعد البازعي
|
أشرتُ في نهاية المقالة الماضية من هذه السلسلة إلى رأي الباحثة البريطانية جاكلين روز التي ترى في كتاب فرويد (موسى والتوحيد) نوعاً من الاغتيال السياسي. وهذا الرأي هو ما تقترب منه باحثة أخرى هي الأمريكية - الإسرائيلية سوزان هاندلمان التي تنظر إلى مقتل موسى بوصفه فعلاً رمزياً يرتكبه فرويد على نحو موازٍ لقتل الأب الذي يرتكبه أوديب حسب التحليل الفرويدي الشهير الذي يراد منه تخليص الابن من الهيمنة الأبوية. تقول هاندلمان في كتابها (قتلة موسى - The Slayers of Moses): إن مقتل موسى ناتج عن عقدة موازية لعقدة أوديب هي ما يمكن أن يسمى (عقدة موسى)؛ أي أن فرويد يريد التخلص من انتمائه اليهودي كما يتمثل في شخص موسى. وفرويد ليس بدعاً في ذلك؛ لأن ما يفعله فعل يشترك معه فيه عدد من المفكرين المعاصرين، بينهم مفكرون ونقاد غربيون بارزون ذوو أصل يهودي؛ مثل المفكر الفرنسي جاك ديريدا، والناقد الأمريكي هارولد بلوم. تقول هاندلمان: (إن محاولته - أي فرويد - لإعادة صياغة موسى لكي يبدو مصرياً هي في العمق مسعى لإعادة كتابة هوية والد فرويد جاكوب؛ ليتسنى له من ذلك إعادة صياغة أصله). ذلك المسعى المهرطق، كما تصفه هاندلمان، يتخذ أبعاداً تتجاوز تناول فرويد لموسى لتصير تعبيراً مجازياً ينتشر على النظرية النقدية المعاصرة في علاقتها بأنماط التفسير التوراتية المعروفة بالمدراش وبالعلاقة التي تربط تلك الأنماط بما يقابلها في التفاسير المسيحية. وما تقوله هاندلمان حول هذه المسألة ليس في حقيقة الأمر جديداً؛ فقد أشار الكثيرون من قبل إلى المضمون الديني لنظريات فرويد، ولا سيما فيما يتعلق بالتحليل النفسي وقراءته للتاريخ اليهودي. كما أنه في حالة فرويد ليس مقصوراً على تناوله لموسى والتاريخ اليهودي، هناك أيضاً التحليل النفسي الذي تراه هاندلمان من هذه الزاوية التفسيرية المدراشية.
يشترك موقف فرويد من موسى والتاريخ اليهودي مع منهجه التحليلي في أنهما يصدران، كما ترى مارثي روبرت في كتاب حول (هوية فرويد اليهودية)، عن موقف متردد ومتعارض في الوقت نفسه إزاء يهودية الأب جاكوب فرويد. وترى روبرت أن ذلك هو المفتاح لفهم التحليل النفسي. أما هاندلمان، التي تستشهد برأي مارثي، فتعلِّق على هذا الموقف من زاوية مختلفة، فهي ترى التاريخ اليهودي حاضراً لدى فرويد لكنه حضور التواصل والاستمرار: (إن التحليل النفسي... يدين بشخصيته الهجينة في تاريخ الفكر الغربي إلى كونه يمثل استمراراً للتقاليد التفسيرية اليهودية في مقابل الهرمنيوطيقا البروتستانتية الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر). التفاسير اليهودية تقوم على مبدأ مخالف تماماً للمبدأ الذي تقوم عليه التفاسير المسيحية البروتستانتية، ففي التفاسير اليهودية تتعدد المعاني وتهيمن الكناية بدلاً من المجاز، ذلك أن المجاز يلعب دوراً مركزياً في الهرمنيوطيقا المسيحية نتيجة لمفهوم التجسد الذي جعل دلالة الكلمة واضحة؛ أي أن تجسد الإله في المسيح لم يترك مجالاً لتعدد التفاسير. بينما يرى اليهود عكس ذلك تماماً، فهم يفصلون النص عن التفسير أو الدلالة، ويرون أن تعدد الدلالة والبحث عن ذلك التعدد اللانهائي عمل مقدس بحد ذاته. غير أن المثير في هذا هو أن هاندلمان وهي تطرح قراءتها لآراء فرويد ومنهجه التحليلي لا تتردد في تقديمه على نحو يذكرنا بما يطرحه الباحث الأمريكي كيفن مكدونالد ضمن نقده للحضور اليهودي في الثقافة الغربية إجمالاً، فهي على الرغم من انتمائها اليهودي (إذ إنها تعمل أستاذة في جامعة بار إيلان الإسرائيلية بعد أن عملت على مدى عشرين عاماً في جامعة ماريلاند الأمريكية) تعرِّف التحليل النفسي على نحو يتجاوز مجرد صلته بالتفاسير اليهودية ليصير منهجاً يعبر عن موقف هادم أو تقويضي subversive إزاء الثقافة الغربية: (... كان التحليل النفسي نقداً مقوضاً للسلطة لثقافة الأغيار في عصر فرويد).
إلى جانب هذه القراءة التي لا تخلو من التقويض في تفسير التحليل النفسي وموقف فرويد بشكل عام من انتمائيه اليهودي والأوروبي - الغربي نجد قراءات أخرى أكثر اعتذارية ولطفاً في تصوير المنجز الفرويدي. الباحث جون كديهي، مثلاً، في قراءة بعنوان (محنة التحضر) تناول فيها ثلاثة من المفكرين ذوي الانتماء اليهودي، هم: فرويد، وماركس، وكلود ليفي ستراوس، يرى أن المحرك الأساسي لمنجز أولئك وغيرهم من المفكرين والمثقفين اليهود بشكل عام هو السعي إلى تحقيق أكبر قدر من الموائمة بينهم وبين ثقافة مغايرة - ثقافة أغيار - ينتمون ولا ينتمون إليها في الوقت نفسه. ويرى كديهي أن الخطاب الاعتذاري أو التبريري هو ما تتسم به الأيديولوجيات التي أنتجها أو تبناها أولئك اليهود المثقفون؛ مثل الماركسية والتحليل النفسي وغيرها. ويرى كديهي أن التمسك بمقولة (العلم)؛ أي دعوى (العلمية) بين المثقفين والمفكرين اليهود في مرحلة ما بعد الخلاص من أمثال فرويد وماركس، تشبه تمسُّك آباء الكنيسة في العصور الوسطى باللغة اليونانية، وأنه في كلتا الحالتين كان هناك مسعى لاكتساب الاحترام؛ أي أن الهدف لم يكن التقويض وإنما تحقيق التعايش.
لكنَّ الزاويتين المتغايرتين في تفسير مشروعات أو نظريات يهودية المنشأ والتطور تلتقي على الرغم من اختلافها عند الإقرار بوجود أزمة، فالكل يكاد يجمع على أن ثمة أزمة في العلاقة بين اليهودي، سواء كان مفكراً أو مبدعاً، والمجتمعات المحيطة بإرثها الثقافي وتوجهاتها على مختلف الأصعدة، وأن هذه الأزمة أزمة انتماء وهوية في المقام الأول. من أولئك الباحث يوسف حاييم ياروشالمي، ففي كتاب بعنوان (موسى كما رآه فرويد) يقف ياروشالمي عند كتاب (موسى والتوحيد) ليقرأ فيه أزمة هوية وانتماء: (إن اهتمامي ب موسى والتوحيد ينبع من اهتمام عميق بالأنماط المتنوعة التي اتخذتها التاريخانية اليهودية، بأنماط البحث عن معنى في الدين اليهودي وفي الهوية اليهودية). ويرى ياروشالمي أن هذا البحث عن معنى، لدى فرويد وآخرين من مفكري اليهود ومثقفيهم، جاء على (مثال غير مسبوق من إعادة التفحص في الماضي اليهودي الذي جاء هو نفسه نتيجة انقطاع عن ذلك الماضي). وفي تقديره أن كتاب فرويد حول موسى (حالة مثالية وفريدة من نوعها في الوقت نفسه).
إن فرويد بالفعل حالة مثالية في كثير من جوانب علاقته بموروثيه اليهودي والأوروبي المسيحي، مثلما أنه حالة فريدة أيضاً. وهذا ما يمكن أن يقال عن نماذج أخرى كثيرة في تاريخ الجماعات اليهودية في الغرب. فحين نقرأ نقد فرويد للتاريخ اليهودي ودور الدين في ذلك التاريخ وموقف اليهود من دينهم ومن تاريخهم نجد أن من الصعب ألا نتذكر موقفاً سابقاً وشهيراً، هو موقف سبينوزا في تعليقاته المدمرة على التوراة والتلمود. فتأكيد سبينوزا في القرن السابع عشر على نزعة اليهود إلى الكذب، في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة)، وما يلقيه ذلك من شك على صدقية النصوص التي تركوها وما يتصل بذلك من معتقدات غيبية؛ يتكرَّر وإن بصورة أكثر تطوراً وعلمية في نقد فرويد الجذري للتصورات الدينية اليهودية وموقفه غير الموقِّر للعقيدة:
إننا لا ننتظر من الأساطير الدينية أن تحسب حساباً دقيقاً للتلاحم المنطقي، وإلا فإن الوجدان الشعبي سيستاء بحق من مسلك إله يعقد مع الآباء حلفاً ملزماً للطرفين، ثم يمتنع طوال قرون عن الاهتمام بشركائه البشريين، إلى أن يعنَّ له على حين غرة أن يتجلى من جديد لذريتهم. وإنه لمما يبعث على دهشة أكبر أيضاً أن نرى هذا الإله (يختار) لنفسه على حين بغتة شعباً من الشعوب ليجعل منه شعب (ه) ويعلن أنه إلهه (موسى والتوحيد، ص61).
في هذا النص ليس هدف فرويد إثبات هشاشة المعتقد اليهودي فحسب، فهذه مسألة منتهية أو معطى أساسي لكتابه كما لكتبه السابقة، وإنما ليثبت صدقية الظروف التاريخية وراء ولادة الدين اليهودي بعيداً عن دعاوى الوحي والغيبيات. غير أن اللافت أن فرويد على الرغم من موقفه النقدي التقويضي تجاه معتقدات اليهودي لا يتردَّد في موضع تالٍ من كتابه في التعبير عن موقف متوحد مع تطلعات الجماعة اليهودية ووجوه معاناتها.
في توطئة كتبها للفصل الثالث من كتابه (موسى والتوحيد) يشير فرويد إلى أنه ألغى قراراً سابقاً بالتوقف عن الاستمرار في كتابه، وهو قرار كان اتخذه كما يقول نتيجة (أفول الملكات المبدعة بفعل التقدم في السن). ولكنه الآن وقد قرَّر العودة لكتابة خاتمة للكتاب يشير إلى أن توقُّفه لم يكن بسبب التقدم في السن فحسب، وإنما لأن (الفكر كان يذهب بي أيضاً إلى عقبات أخرى)، تلك العقبات تتمثل في التطورات السياسية أثناء تلك الفترة (وكان فرويد يكتب عام 1938م) التي يلاحظ فيها أننا (نحيا في عصر غريب فعلاً، ونلاحظ بدهشة أن التقدم مواكب للبربرية)، في إشارة واضحة إلى النازية وما مثَّلته من تهديد للجماعات اليهودية بشكل خاص وفرويد نفسه تحديداً. وما يسترعي الانتباه بشكل خاص هو الأسلوب الذي يتخذه فرويد في التعبير عن المأزق اليهودي في تلك الفترة، فضمير المتكلم في العبارة السابقة (نحن نحيا في عصر غريب) تشمل كل الشعوب الغربية ممن استهدفتها النازية؛ أي الجميع ومنهم اليهود، أو جميع القراء (العقلاء) الذين يرفضون النازية والفاشية وما كانا يفعلانه في أوروبا. لكن الضمير ما يلبث أن يتغير في الفقرة التالية: (إننا نعيش هنا في بلد كاثوليكي، تحت حماية هذه الكنيسة، غير متأكدين من الزمن الذي ستظل فيه هذه الحماية موفورة لنا).
الذين يحيون تحت حماية الكنيسة الكاثوليكية ليسوا الأوروبيين جميعاً بالطبع، وإنما اليهود الذين كانوا من قبل، كما يشير فرويد في السياق نفسه، أعداء للكنيسة التي تحميهم الآن. ويتضح الخطاب الفئوي بحرصه على المصالح اليهودية حين ينسى فرويد أنه يخاطب القارئ العام وليس اليهودي حصرياً ويبدأ يحدد ما ينبغي لليهود أن يفعلوه في تلك الظروف: (وطبيعي أنها - أي الكنيسة - ما دامت قائمة فسنتردد في الإقدام على أي عمل قد يجرُّ علينا بغضاء الكنيسة. وليس هذا جبناً، وإنما تبصُّر وحصافة. فالعدو الجديد، الذي سنحترس من أن نخدم مصالحه، أعظم خطراً من العدو القديم الذي تعلَّمنا كيف نعيش معه في سلام). ثم يمضي في توضيح الظروف القائمة ليؤكد أنه بات من الصعب عليه أن يعيد الآن قول ما سبق أن قاله من قبل حول الأديان؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى مشكلات، منها: الحيلولة دون ممارسة التحليل النفسي على الرغم من أن فرويد، كما يقول، رأى التحليل (ينتشر ويعم الأمصار قاطبة على امتداد حياتي الطويلة)، (يقول بول روبنسون في كتاب بعنوان (فرويد ومنتقدوه): إنه حين إعداد الكتاب؛ أي عام 1993م، كان في الولايات المتحدة وحدها نحو أربعة آلاف محلل نفسي كلهم ينظرون إلى فرويد بوصفه مرجعهم).
هذا الموقف المزدوج؛ أي نقد اليهودية والتضامن مع اليهود، يجد تفسيرات عدة استعرضنا بعضها هنا، كما في مفهوم (محنة التحضر) لدى كديهي، أو في مفهوم (اليهودي النفسي) لدى ياروشالمي، وهما مفهومان يلتقيان مع غيرهما في أن اليهودي مضطر لاتخاذ الترتيبات التي تمكِّنه من التعايش على نحو ما مع الظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها وتترك أثرها ليس على السلوك أو الممارسات المهنية وإنما على النتاج الفكري والإبداعي أيضاً. والظروف لا تعني بالضرورة تقديم التنازلات، وإنما قد تعني النقد بغرض التأثير في البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث يمكن لأفراد الجماعة أن يجدوا مكاناً في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها حتى حين يجابهون بالقمع، كما يقول الباحث الأمريكي كيفن مكدونالد، كما مر بنا. فالقمع، كما يقول فرويد نفسه في (موسى والتوحيد) (ص127)، لا يؤدي إلى إبادتهم، وإنما إلى أوضاع من خلالها (يتوصلون إلى فرض أنفسهم في المهن كافة ويرفدون الحضارة، حيثما أمكن لهم أن يتغلغلوا، بثمين العطاء).
انتهت
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|