بيروت عم تبكي..!! أمل زاهد
|
وحَّدني صوت تلك السيدات النازحات من الجنوب اللبناني ومن الضاحية الجنوبية مع معاناتهن وهن يتحدثن عن اضطرارهن للفرار بأنفسهن وبفلذات الأكباد بعيداً عن قصف القنابل وأزيز رعودها، واخترق صوتُ تلك الأم قلبي وهي تقول إنها شبعت من الدنيا وكل ما تريده هو توفير الحياة لأبنائها، وأن صوت رضيعها البالغ من العمر ثلاثة أشهر فقط كان يمزق نياط قلبها، وهو يبحث عن قطرات لبن في ثدي أمه الجاف الذي هرب اللبن من عروقه؛ خوفاً وفزعاً من الأهوال التي يشهدها ومن قسوة وبشاعة ما يلامسه من خبرات. وراحت لغة الصورة تقذف في وجهي بالمزيد والقنابل تنطلق في سماء بيروت وتتفجر في مداها وآفاقها، لتهبط فوق أديم أرضها فتنهش من قُدِّر له أن يكون في طريق مرورها، وكأن طفلاً عابثاً قرر في ذات لحظة ملل أن يلهو فاتخذ من القتل لعبة ومن الفناء والتدمير ملهاة، وكانت لبنان هي المسرح العاصف للعبه وعبثه وهو يحرك خيوط الدمى التي يعبث بها ويقودها رغماً عن أنفها إلى حيث ينتظرها حتفها!!
ثم تدفقت الصورُ تفجع بصري وتثكل وعيي.. صور العائلات المشردة في الحدائق والمدارس أو اللاجئة إلى بيوت الأقارب، ومشاهد الجرحى ودماؤهم تقطر، وأنين الثكالى وبكاؤهم المفجوع وصراخ الأطفال الخائفين والفزع يقفز من أحداقهم، ونظرات الرعب في عيون الأمهات والجدات وهن يستجدين لحظة أمان ليسكبنها في قلوب الأبناء والأحفاد، فيبددون خوفهم ويسكنون ذعرهم، بينما انطلق صوت من أغوار عقلي الباطن وكأن موكب أحزان اغتيال الرئيس الحريري لا يزال يسير نائحاً حزيناً وهو يمر بي لأتأبط ذراعه وأردد معه بحزن فاجع بيروت عم تبكي مكسور خاطرها. ولكن بيروت لا تبكي فقط ولكنها تئن وتولول في وسط دهشة أهلها وفزعهم، وفي وسط دهشتنا جميعاً نحن مَن نرقب لغة الصورة في حجرات معيشتنا غير مصدقين ما يحدث!! حتى ليخيل لي للحظات أن ما أراه كابوساً مفجعاً لن ألبث أن استيقظ منه وأنا أربت على كتف لبنان مطمئنة روعها قائلة لها: إن ما يحدث لا يعدو أن يكون حلماً بشعاً ستستيقظين منه وأنت تلفين ذراعيك حول أبنائك وحول عشاقك في كل أرجاء الوطن العربي، مهدهدة خوفهم محتوية رعبهم وقلقهم، مؤكدة لهم أن لبنان لا يزال بخير وأن نفحات الحياة لا تزال تملأ رئتيه!!
ولكن ما يحدث ليس كابوساً بل حقيقة بشعة تقول إن هناك أيدي مختلفة ولها مطامح متعددة، تتواطأ لتحطم هذا البلد الجميل وتدمر بُنَاه التحتية واقتصاده وإنجازاته، وتهدر عرق أهله وجهدهم في تعميره بعد أن استنزفته الحروب الأهلية واستهدفته القوى الإقليمية واجتاحته إسرائيل بقضها وقضيضها عام 1982، فتحول إلى ساحة للدمار ومسرحاً للصراعات إلى أن قُدِّر له أن يلتقط أنفاسه ويعاود مسيرته.
وما أشبه اليوم بالبارحة وكأني بمن شهد ما مر به لبنان آنذاك يفرك عينيه اليوم ليتأكد أن ذاكرته لا تنقله إلى أعتاب الماضي وويلاته بل تعيش معه الحاضر بنكباته!! وكأن هذا البلد الصغير الصامد في وجه الحروب والمتلظي بنير حرائقها والمتطلع بشوق وتوق لنفحات الحرية ونسمات الديموقراطية وإلى تحقيق سيادته وحريته يستفز الأحقاد ويؤجج الغيرة ويحرك المخاوف من انتقال عدوى الحرية إلى مسارب الجيران ومنافذهم!! فلا بد أن يقضى على أحلامه في مهدها وأن يقصص ريشها قبل أن ترى النور!!
ولا أظن أن تاريخنا العربي قد مر بفترة أكثر ادلهماماً وسواداً وظلمة وحيرة من التي نتلظى بجمر نارها في هذه الفترة.. فالعراق يحترق وفلسطين يتمزق ولبنان يقصف والاخوة يتصارعون وأبناء العمومة يتقاتلون، والتطرف والإرهاب يجثم بأنفاسه الثقيلة فوق صدورنا، والأنظمة المتسلِّطة تزيد من إحكام قبضتها حول عنق الإنسان العربي وهو يدور حول نفسه غير قادر على قشع الصورة ولا على رؤية ملامحها وتفاصيلها!! ورغم قسوة النكبات التي مررنا بها ورغم بشاعة تفاصيلها من قبل، إلا أنني أجد أن لُجَّة الظلمات التي تحيط بنا من كل جانب في وقتنا الحالي لم يسبق لها مثيل في تاريخنا الحافل بالمصائب، وكأني بالحيرة وعدم القدرة على استيعاب ما يحدث تلف مجتمعاتنا من رأسها حتى أخمص قدميها، ولا تفرق بين مثقفينا وبين رجل الشارع البسيط، فالجميع يقفون فاغري الأفواه غير قادرين على إجلاء الصورة!!
وبينما ترتفع أصوات المزايدة على العروبة والدين والمحتفية بسماع قتل جندي إسرائيلي هنا أو أسر آخر هناك، وبينما ترتفع أصوات التهليل والتكبير عند سماع نبأ سقوط صواريخ على حيفا أو إحدى المدن الإسرائيلية، يخفت صوت الإنسان اللبناني المنكوب وأخيه الفلسطيني المكلوم وتتلاشى نبراتهم، وكأني بتلك الأصوات المشلوحة وقد كممت والتصقت بحناجر أصحابها الشائخة، فصمتت عن الكلام المباح والأنين المجروح تاركة الميدان لعبث المزايدين وصراخ المتحمسين.. وأمجاد يا عرب أمجاد!!
وهنا لا نستطيع إلا أن ندير أصابع الاتهام نحو المسؤول الحقيقي عن رمينا في براثن هذه الظلمات، وهو سياسة أمريكا - ومن تبع تبعها - المجحفة والظالمة التي تسهم بوضعنا بين خيارين أحلاهما مر في كل القضايا الجوهرية في حياتنا، فعلينا أن نختار بين الاحتلال الغاشم أو الأنظمة القمعية؟ الأحزاب المؤدلجة أم العدو الإسرائيلي؟ الدفاع عن الديكتاتورية والمنافحة عن المستبدين أم الانبطاح لأمريكا والغرب والارتماء في أحضانهم!!
وأنا أتساءل مع القراء الكرام ألا يمكن اجتراح طريق وسط ينتهجه من يرى أن صوت الإنسان هو الصوت الأهم في هذه المعزوفة العبثية، وأنه يتحتم أن ننظر إلى معاناته وعذاباته قبل أن ننظر إلى أي أمر آخر؟! وألا يوجد طريق نرفض به الظلم الواقع سواء كان من العدو البعيد أم من الأخ القريب؟! أو ليست الهوة التي بيننا وبين عدونا الإسرائيلي هوة حضارية قبل كل شيء، يتحتم علينا ردمها بالحداثة والعلم والمعرفة ومراكز الأبحاث والتنمية والاستثمار في الإنسان؟! أو ليس الإنسان هو الأهم التي جاءت الأفكار المقدسة لخدمته والسعي إلى تحقيق حياة أفضل له؟!
بيروت عم تبكي وأهلها محاصرون في عقر دارهم دون غذاء أو أدوية أو محروقات، وقريباً سينفد مخزونهم والمجتمع الدولي يدير كتفيه لهم غير عابئ بمعاناتهم ولا في مد يد المساعدة للمنكوبين، وهناك شبه تجاهل لكل ما يحدث وتواطؤ على السكوت والصمت البهيم!!
وأمريكا تقول إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها وأن تأخذ لبنان بأسره بجريرة حزب الله، دون أن تهتم بالضحايا الأبرياء ولا بوطنهم وهو يتمزق أمام أعينهم.. ويهلل المزايدون على العروبة والدين ويفرحون بسقوط صاروخ على إسرائيل أو بأسر جندي هنا أو قتل جندي هناك!! وبينما يحكم منطق القوة والعنجهية ويعلو صوت أمجاد يا عرب أمجاد على الضفة المقابلة، يخفت صوت الإنسان ويعبث العابثون ويلهو اللاهون والقيامة لا تقوم!!
Amal_zahid@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|