شاعرٌ عاشَ يشكو قلبَه الدامي حسين بن أحمد الزيداني
|
الزمزمي شاعر المعاناة والأنين والشكوى، شاعر يشكو قلبه، هذه الفكرة التي ترتسم للمطلع على ديواني الشاعر
الراحل عبد الله الزمزمي، فيشعر أنه أمام معاناة (قلبية) سيطرت على نتاجه, صرَّح بها حينما عنونَ ديوانَه الأول
بـ(مواجع قلب) واكتفى بالإشارة إليها حينما اختار صورة القلب الممزق الدامي صورة لغلاف ديوانه الثاني (هذا أنا)
مع أنه إلى وقت ما قبل طباعة الديوان كان قد عنونه بـ(نبضات قلب) ثم عدل إلى الاسم الذي خرج به الديوان، إذاً
نحن أمام ديوانين يشيران بوضوح إلى شاعرٍ مسكونٍ بمعانة قلبية، وذلك قبل الشروع إلى ما بداخلهما من الشكاية,
وتصوير ذلك القلب الذي شرده طائعاً مختاراً خلف أطياف من لم يعره اهتماماً، ولم يلقِ له بالاً، معللاً ذلك بخطيئته (قلبه)
التي لم يجد منها مناصاً:
دعني أشرد قلبي خلف من رحلوا
كم سال دمعي لذكراهم وما سألوا
خطيئتي أن لي قلباً إذا خطرت
بذكرهم نسمات الحب يشتعلُ
هذا هو قلب الزمزمي المتمرد عليه، الذي لم يعد يملك قيادَه، بل يندُّ به في ميادين المعاناة، ولا أحد يعيره اهتماماً، حتى
الذين يعاني من أجلهم، ولكن هناك قلباً آخر وحيداً، يحنو على قلب شاعرنا، ويحاول أن يحول بينه وبين أصناف المعاناة،
إنه قلب أمه التي جعلت من نفسها ترساً لحماية هذا القلب الذي تتخاطفه الأوجاع من كل الجهات:
يا صفاء الحياة لي فيكِ أنسُ
وابتسامٌ مع الوجود وهمسُ
أنتِ صفو الحياة في كل معنىً
ولقلبي من المعاناة ترسُ
لقد أصبحتْ المرارة والحزن والشجن واللوعة هي ذاته فقد ألفها وألفته, فصار يعزفها نغما طالما أشجاه:
سأظل أعزف لوعتي وأصوغها نغما شجياً
شأنه في ذلك شأن غيره من الشعراء فهذا المتنبي يألف ما يؤول إليه وإن كان مخالفاً في ذلك طبيعة البشر ونظرتهم، حينما
يتألم لفراق شيبه إلى صباه وأنى له ذلك, وفيه تسلية للنفس من الواقع الذي ليس عنه محيد:
خلقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا
لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيا
ها هو قلب الزمزمي الذي أصبح ملكاً مشاعاً يستنكر على من قسا عليه وهجره حيناً, ويستعطفه حينا آخر فلم يعد
يملكُ قلبَه ليتصرف فيه:
يا متلفاً قلبي بقسوته
رفقاً. فهذا القلب كان لنا
ما كان لي وحدي أعيشُ به
بل كنتُ فيه وكان مرتهنا
حتى غدا للثراء تعريفٌ آخر, وللكرم وجهٌ جديدٌ لا يدركهما إلا من امتلك قلباً كقلبِ شاعرنا:
أنا أثرى الأنام لكن بحزني
أنا أسخى الأنام بالدمع جودا
ولا شك أن هذه المعاناة والحرقة التي جعلتنا نتقلب مع شاعرنا على جمره، ونكتوي بناره, ونشاركه أحزانه وآلامه التي
لـم تكن إلا نتاج تجارب مريرة سال بها قلمه إبداعاً نصفق له حينما يلامس الجراح، فلا تكاد تخلو مجالس سمرنا من
إبداع نتفيأ ظلاله وسط لهيب المشاعر وهجير المعاناة, حتى لبى نداء ربه إثر (معاناة) لا نبرئ منها (قلبَه)، الذي وإن حفر
قبره فقد فتح له بوابة إلى سجل الخالدين الذين كتبَ الإبداع تاريخَهم, وسطَّرَ مجدَهم أفقاً تتبارى في مداراته الأقلام،
وفي خيالاته الأفكار، وتركنا ولسان حالنا ما قاله الشاعر العربي:
يا نائماً والموت ملء جفونه
أعلمتَ من خلفتَ كيف ينامُ؟
| | |
|