مذكرات محروقة عقيل الفهيدي
|
أخطر الرحلات وأكثرها عذوبة وعذابا هي التي يرحل فيها الإنسان إلى دهاليز ذاته، وخفايا مشاعره. هي التي يكتشف فيها حجم (التشوهات) في داخله ومقدار الألم المركون في تجاويف قلبه ومكامن نفسه.
في الحقيقة ليس هناك أصعب من أن يكتشف المرء السعيد بأعينهم، المرح بنعتهم. ذلك الفراغ الهائل والقاسي الذي تعانيه خفقات قلبه.
عندما قمت بهذه الرحلة السابحة في الذات كنتُ أحدث نفسي بذلك الفرح الطفولي وتلك النشوة التي سأخرج بها من هذه التجربة ولكني وللحقيقة لم أكن أعرف أنه قبل ذلك سيكون هناك مشهد مخاض مؤلم، ولحظات مفزعة من التشتت والضياع والغربة. لم أكن أعلم أن هناك طوفانا سيجتاحني من (وهمي) وليس من جودي آوي إليه. ليس هناك ما هو أشد عبثية من ترتيب الأوراق المحترقة أصلا وهذا ما حاولته إنها غربة روح في زمن مهترئ بما فيه الكفاية.
سافرتُ بعيداً، احمل خارطة ضياعي وبقايا جنون أتكئ عليه في زمن العقلاء نائياً بنفسي عن كل من حولي وما حولي. مارست الغربة بكل أبعادها ربما تكون قد حدثت أشياء في ميلادي حتى اللحظة رتبتُ لها جيدا ولكن كل ما لم أرتب له قد أخذ مكانه في صحيفة قدري وقد عشت قدري بكل تفصيلاته
من سوء أو من حسن حظي (لست أدري) أنني اكتشفت مقدار (الوهم) الذي يحيطني، فنحن خلقنا أوهامنا من حولنا وصدقناها ونظل حولها طول عمرنا، هكذا نحن لا نريد أن نخترق أوهامنا ونقفز عليها (لماذا؟) ببساطة لأننا نحب أوهامنا لحد العشق.
(أن تعيش ذاتك معناه أن تتمرد على الوهم الذي يسيطر عليك) هذا ما حاولته.. وما أزال أحاوله في كل خيبة من خيبات عمري الكثيرة.
اليوم تكون قد مرت لي ثلاثة أسابيع في منفاي الاختياري. لم أهاتف أصدقاء ولا حتى الأهل، ألغيت سلطة الزمن عليّ، أنام عندما تنتهي طاقتي واستيقظ عندما يهدني النوم.
الوحدة تحيط بي من كل جانب وأنا سعيد بها، فمنذ سنين عديدة لم أعش حياتي بهذه السهولة المتعبة في نفس الوقت.
أتعرفون أن أجمل ما في الحياة مساحة الحلم التي نعيش على ضفافها. ما أكثر الأحلام التي بكيت من أجلها.
منذ عرفت (الحب) ولد (الحلم) في داخلي. هناك في زاوية صغيرة من قلبي اقترن الحب بالحلم وهناك.. نما.. ودرج..
وكبرت وكبر حلمي معي بدأ يرهقني ويلتصق بي كلما زادت أيامي يوما. بدأت بتجاهله وقتله كل صباح ولكن في المساء ويا
لخيبتي كنت أجمعه من جديد وأبكي في محرابه.. واعتذر لجبروتي وقسوتي معه.
بعد سنوات تمرد الحلم في داخلي أصبح لا يكتفي بزيارتي في المساء بل صار يمشي معي في السوق.. وفي البيت.. وفي كل مكان أذهب إليه.
صار حلمي جزءا مني وربما صرت أنا جزءا منه. يدخل عليّ متسللا من كل مكان، أهرب منه، يظل متمددا في داخلي، أحاول أن أعريه على الورق البريء، فيزداد تشبثا لأوردتي، أبحث عن مخرج، أوغل في حماقاتي الصغيرة والكبيرة ولكن سطوته عليّ عنيفة، مؤلمة، أسكن.. أتوقف.. أعلن استسلامي فينتشي بعربدته وضعفي
أمامه، يكدسني في جانب ثم ينقلني إلى جانب آخر، يعيد خيباتي خيبة.. ويزيدها واحدة من عنده.. يبتسم.. ينتشي لانتصاره عليّ.
أحس بالتآكل كقلعة قديمة لا يزيدها مرور الوقت إلا انهيارا دراميا حزينا، أصبحت تختلط عليّ الرؤى لا أدري من فرط احتلال ذلك الحلم لخارطتي تحديد الأماكن، أين يقبع الممكن، وأين حدود المستحيل، أين تقف أحلامي ومن أين يبتدئ واقعي.. هل أنا حالة.. مجرد وهم.. داعيات لكائن آخر؟
أتحسس جسدي.. أدور حول ذاتي أحدق في مرآتي المشوهة.. أحاول جاهدا تحديد معالمي، لا شيء يثير الدهشة.. بقايا حلم.. بقايا خيبات.. أمعن النظر في مرآتي كعادتي طوال عمري أرى وميضاً.. خافتاً.. قادماً من بعيد أعتقد أنه من مجرات بعيدة.. أو عوالم أخرى.. أو ربما بقايا أفراح مرت على جسدي في يوم ما.. في زمن ما.. لست أذكر.
في الأيام الأخيرة لاحظت تطورا في حالتي أعتقد أنه تطور إيجابي على كل حال. فقد بدأت أصحو باكياً من النوم، أصحو مغتسلاً بأوهامي، بعد أن ظلت سنوات تراوح في أوردتي.
كبر حزني عليّ، لم يعد جسمي الضيق يتسع له فقد قرر الهجرة كل ليلة إلى أنحاء جديدة في عالمي الصغير.
أستيقظ وإذا به يسري بتمهل.. وهدوء.. وحميمية.. إلى أركان غرفتي، وخزانة ملابسي، وبقايا طعامي قد أصبح يسكنني.. ويسكن معي.
في الحقيقة أعتقد أن ذلك أنفع لي على كل حال، فلقد كونت صداقات من نوع خاص، أصبحت قادرا الآن ويا للروعة في الدخول بنقاشات ليلية.. وطويلة مع قارورة عطري المفضل.. وبقايا طعام العشاء.. وأشيائي الخاصة.
أصبحت لا أعرف في الفترة الأخيرة هل أنا صامت أم أنني أتحدث بصوت مرتفع، عندما أخرج من غرفتي في الفندق أحس بالوحشة، والضياع، ما الذي يحدث لي بالضبط لست أدري؟
ليست لي الرغبة في الذهاب لأي مكان، ولا أن أعمل أي شيء، فقط الجلوس على سريري والتحديق عبر النافذة التي أمامي، شريط حياتي يمر أمامي بلا ألوان، ما الذي فعلته بنفسي طوال تلك السنوات أين أنا؟ وعلى أي هاوية أشارف؟ (خواء) هل هي الكلمة المناسبة لما حدث لي طوال عمري؟
الساعة الآن تشير إلى الثانية ليلا، أنظر إلى النافذة بدهشة. أتمتم في نفسي: الهواء بارد يجب أن أغلقها.. يجب أن أغلقها.. يجب أن أغلقها.. يجب أن أغلقها.. ولكن لم يحصل شيء لم تنغلق النافذة! لماذا؟ لماذا؟ النافذة تبتعد مني.. تقترب.. إنها تقترب.. مني.. تقترب.. تقترب.. تقترب.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|