قراءة في (خارطة الجسد الجريح)
|
النص
(لا).. مطلوبة..!
الزمان: شباط 1982م.
المكان: مدينة على خارطة الجسد الجريح.
ضجيج الآليات يملأ سمع المكان.. الموت ينتشر في الأرجاء.. الدمار نبت في كل زاوية.. همهمة الجنود اختلطت بالغبار الناتج من أنقاض المنازل، التي دكها القصف..
كل اللغات محاصرة.. إلا لغة الموت. الموت يتكلم، ويحيل كلامه إلى تواقيع على جماجم الأطفال.
الدبابات اتخذت لها ميادين من بطون الحوامل.. الأجنة (مذنبة)، فبقرت البطون لإيقاع (العقاب) اللازم..! الدم يتنفس.. الدم يسيل.. الدم يجري.. يتجمد من الهول.. يموت.. وأصوات الأوامر: ابحثوا عن (لا) في كل رأس. كل ال(لاءات) مطلوبة، يا سيدي؟! هاتوا كل (لا).. كل شيء ما عدا (نعم)..!
انهالت الأعقاب على الرؤوس، دون النظر إلى خانة الجنس أو العمر. يا سيدي، لم نجد أي (لا).. لعلها انسحبت قبل وصولنا!! مستحيل أن تنسحب.. المكان محاصر تماماً بجيش الشعب، وبالأجهزة الأمنية الوطنية.. ثم.. (الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله).
صاح: هاتوا تلك ال(لا).. إلي بها! ولكن، يا سيدي.. إنها ليست ككل ال(لاءات) التي سحقت! أيها الحقير.. (لا) .. الزعيم القائد فقط.. هي التي ليست ككل ال(لاءات) .. لا أحد غيره.. لا أحد. يا سيدي، ها أنت تقول: (لا) أحد.. فهل هذه أيضاً للرئيس؟! نعم إن (الأحد) هو الرئيس القائد.. وهذه ال(لا) تخصه هو..!
مرة أخرى: (لا إله إلا الله) ماذا تنتظرون، يا كلام؟!
انهالت الحمم.. وتدفق الموت.. وخيم الدمار.. كل شيء صار بلا حراك.. إلا الدخان الذي بدأ ينسحب بذهول.. ورائحة الدم التي تهرول في أنحاء المكان كالمجنون..
المئذنة سويت بالأرض.. الصوت اختفى، يا سيدي..! احضروا لي تلك ال(لا).. أفي ظل عدالة الزعيم القائد هناك مكان ل(لا)؟!
(نسي الطين ساعة أنه طين فناه وعربد)
الجرح يكبر.. صار طوله يوماً.. يومين.. اسبوعين.. شهراً.. عاماً..
تحامل الجرح على نفسه.. نهض.. نادى مجموعة من الأشباح
لم يكن هناك أحد.. (كان) هناك أحد.. تمدد الجرح.. تمدد واستحال لعنة.. غمس إبهامه في بحيرة كبيرة من الدم تمتد من الكرامة إلى حقوق الإنسان. ركعت الأشباح..
الإبهام الكبيرة.. طبعت على جبين كل (شبح): (عار إلى الأبد).
البصمة ثقيلة.. لكن الأشباح استمرت ترقص على الجراح..
حمل الجرح نفسه.. زحف.. ألقى بنفسه على خشبة التاريخ..
أغلقت الأشباح الستارة.. والجرح يرفض الحراك..
أزيحت الستارة.. ظل الجرح واقفاً.. تراكضت الأشباح..
علت.. هبطت.. تباكت.. صرخت.. أعولت.. وبقي الجرح واقفاً يشير إلى كل الأشباح:
هذا التاريخ لا يغفر.. ولا ينسى.. (د. محمد الحضيف // غوانتانامو (مجموعة قصصية).
القراءة
محمد الحضيف قصاص واقعي، يملك أدواته الفنية، وخبراته، ومعاناته الشخصية التي تعينه على تنفيذ واقعيته من خلال قناعاته الإيمانية وما ينبض في نسيج حياته اليومي من معاناة، وظلم، وآلام. إن نبض القصة التي بين أيدينا رصد للواقع المرير القائم على مفاهيم معوجة، يمثلها عينات بشرية مطحونة العقول، داست عليهم مواضعات العصر وتحولاته.. إنهم مسحوقون في دنيا تزيد الغني غنى، والفقير تعاسة وفقرا، فالحدث القصصي ينبثق من واقع جريح برصد الأحداث ذلك الواقع المأسور بالظلم، والتسلط، والقهر، واستعباد الإنسان بتشريعات صارمة لا ترحم في بيئة يموت فيها المترفون تخمة، والفقراء مسغبة.
إن حياة قلب الشاعر، وحياة إحساسه بالمسؤولية الأدبية، بوصفه أديباً مسلماً قادت القاص إلى الالحاح في متابعة التفاصيل، والجزئيات، وإشباع المواقف إشباعاً دل على قدرة الأديب على صنع القوالب الأدبية. ورغم ذلك، فالقصة يظهر صدقها الفني من خلال تصوير مدروس لحال شعب مسلم مضطهد بدعوى مقاومة الإرهاب والدفاع عن حقوق الإنسان.
لقد أتقن المؤلف الحبكة، فهو يحمل موقفاً بمواجهة القهر الاجتماعي في إدانته للقهر، معتمداً على عنصر شد الانتباه لحالة الواقع المتصل والتأثير على القارىء من لا بداية حتى النهاية، وتظهر قدرته على زرع العقدة في سياق الحدث القصصي، وهذا ليس دليلاً على قدرة القاص على الإتقان وحسب، بل إنه موضع محل لتمكنه من أدواته الفنية.
إنه يختار شخوصه ومعطياته القصصية من إيقاع الحياة المنظور: من البيت، والشارع، والسجن، وساحات القتال، وقد صور أبطال القصة من الجنود، والشعب، والأجنة بدقة مؤثرة، حتى الدم كاد يكون بطلاً بتجمده وموته، وتلك البطون التي وقع عليها العقاب اللازم من رئيس العدالة المزعوم.
تظهر الشخصيات ممزقة بين قلة تأمر وتنفي، وبين كثرة أسرى وأموات، فالقاص يعرف كيف يرسم شخوصه بخبرة أديب متمرس وبالتكثيف الذي تتطلبه القصة القصيرة، إذ إن تشخصيه يتراوح بين البعد الاجتماعي والبعد النفسي، حيث نرى أن جميع الشخوص يعانون كالحوامل، والأجنة، وناطق الشهادة، التي يبلغ صراعها وفدائيتها حد عشق الشهادة، مما يعكس نفسية المسلم الفدائي الواثق من رسالته في هذه الحياة الدنيا.
في عرض القصة، استخدم القاص أسلوب السرد المباشر بضمير الغائب العالم بكل ما يحدث، وقد وظف الحوار الذي يقطع السرد حيثما اقتضى الموقف، الأمر الذي يزيد الحوار قيمة فنية، وإن طغى على معظم نسيج القصة، وذلك قد يعد من جوانب الضعف، إلا أن القاص أضاف للحوار قدراً من اللمسات الفنية التي أبعدته عن ذلك المأخذ. أيضاً، يظهر تألق القاص في سوقه لسلسلة الأفعال والأقوال وردودها الحية المشدودة بين الشخوص من بداية القصة إلى نهايتها المؤثرة بصدق حين اختفاء ال(لا)، وفي هذا دلالة على المستوى الفني الرائع الذي انتظم النص به.
بما أن المساحة التي تنبض بالشعر بمفهوم النظم في نسيج القصة معدومة إلا أن هناك لمسات شاعرية مستمدة من التراث اخترقت القصة، ومنحتها شيئاً من الشفافية باستدعاء الفن الشعري (نسي الطين أنه طين فتاه وعربد).
وهناك عبارات مرسومة بعناية في السياق صورت رؤية القاص لمعاناة كرامة الإنسان من خلال نهوض الجرح، ونموه، ووقوفه، وكذلك في تنفس الدم، وإحساس الأجنة بالخطر، وقد تفنن في رسم الصورة المستمدة من مفردات الواقعة القصصية، فزادها غنى فنياً، واعتمد على الصور، والتشبيهات، والاستعارات، وبثها في حنايا القصة لتجسيد المعنى، ولمنح جمال للقصة (فالموت يتكلم، وينتشر في الأرجاء، ويوقع)، و(الدمار كأنه نبات ينبت في كل زاوية)، و(جعل من بطون الحوامل ميادين للقتال)، و(الدم كأنه إنسان ويتجمد من الهول)، (و(الجرح يتمدد وينمو). بالرغم من أن المساحة المتاحة للقصة القصيرة ضيقة إلا أن القاص يدقق في التصوير، ويسعى لالتقاط كل التفاصيل مما أتاح إشباع اللحظة الفنية بما يحفز تفكير القارىء فيها وتحسس أبعادها. كذلك، اعتمد القاص على الجمل القصيرة المتقطعة المتلاحقة متجاوزاً ما يصيب العرض بالترهل، فنمط القصة القصيرة بأمس الحاجة للتركيز، وهذا التقطع له إيقاع عذب، فهو يجسد قيمة الجمل القصيرة، وليس فقط في ملاحقة نبض اللحظة السريع المتهدج بجهاد الألم، وإنما أيضاً في دفع القارىء إلى محاولة استباق استشراف القرار الذي ستؤول إليه الخطوات السريعة.
لقد سعى القاص لتوظيف التقنيات السريعة كرسم المشهد والحوار مما يعين على مزيد من التركيز النفسي والفكري، ويمنح الحدث القصصي حضوراً رائعاً، كما تألقت لغته المنحوتة بعناية، فهي واضحة سهلة لولا النهاية المحاطة بغلالة رقيقة من الغموض تشف عما في ذهن المؤلف من معنى يكاد يكون مفهوماً.
في النهاية، يتضح أنه حقق حضوراً إسلامياً ملتزماً في اختياره للواقع ساحة لانتقاء موضوعاته القصصية وبنائها، فالإحساس الذي تتركه القصة في النفوس مرير الطعم، ولقسوته البالغة يدفع إلى نوع من الشعور بالمعاناة الثقيلة التي تجثم على الأنفاس وينتهي المر ببصمة الجرح ذات اللون القاتم الذي يرفض الانحناء للظلم. وربما استطيع القول: إن القصة تكاد تغدو تصويراً فوتوغرافياً مثيراً.
وأخيراً.. ترى الناقدة.. أن هذا النقد المتواضع لن يكون بحال من الأحوال حكماً فاصلاً أخيراً لا يقبل استئنافاً ونقداً آخر أكثر خصوبة وكشفاً للقصة.
نورة بنت عبد الرحمن الحربي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|