رواية (جُرف الخفايا) لعبد الحفيظ الشمري إقصاءٌ (حزين) للمباهج المغمورة في المدينة.. تلك! محمد الفوز
|
عتبةٌ مائلة
رواية (جُرفُ الخفايا) لا تدخل في متاهات الحياة برؤية مستقرة لواقع يضاهي أحلامنا؛ بل تتغلغل لافتضاح المسكوت عنه خلف أقنعة حديدية تتلبس هذا المجتمع المأزوم في هيئته. وهي محاولة جادة للانفتاح على مشاهد الحياة وألقها المخذول بالممنوعات الظاهرة فقط فكل شيء يمكن تأويله حتى الممنوعات لكن في الخفاء الذي يُلبسه الراوي حياداً غامضاً مؤهلاً للعبث أحياناً.
فالمدينة التي غيَّبت (صقر المعنّى) شاعرها العازف وترياته حنيناً للندامى في شقة أسموها (عرين السباع)؛ بها يذرعُ الغرباء مناكب الأرض بحثاً عن الرغد الذي ردّ أبناءه كما يحلل الراوي (الجرف يغني ولعه بتعذيب أهله، والناس يعذبون ذواتهم بالجهل في حقيقة وجودهم) ألا عجباً، أنها مدينة مأهولةٌ ترقد على جسر العولمة والخوفُ يكابر في منعرجات قلوبهم التي تنبض وكأنها لا تنبض.... لم يخلق الراوي معارضة جادة أو غير جادة سواء تنشط في الخفاء أو العلن، لو فعلها لانفتحت ثغرات كثيرة في الأربع الجهات التي يخنقها الذعر العتمة، فهاجس الحرية بأشكالها المتنوعة ظلّ محدوداً بنزوات لا تتعدى شفاه (فاتنة) التي توزع قبلاتها الفياضة بغنج أسطوري ولذلك أزعم أن (عرين السباع) بإمكانه أن يحدث شرخاً في ذاكرة (جرف الخفايا) كردة الفعل التي أحدثوها جميعاً لما خرجوا بحثاً عن (صقر المعنّى) وشهروا الملصقات التي تقاسمت صوره مما أثار حفيظة (حرس الفضيلة) و(فرقة طمس الأرواح) ومن سلك نهجهم، كما أن فكرة طباعة الديوان التي عرضها صاحب المطبعة لو تمت الموافقة عليها ستحدث انعطافاً مفاجئاً في رغبة أبناء المدينة في الاستزادة من هذه الفنون والدليل رواج الأشرطة والبوسترات التي تستعيد (صقر المعنّى) للحضور مشدوهاً بإبداعه الذي تحفز له تجار المناسبات أيضاً.
حضور الغياب
إنه (صقر المعنّى) شاعر الوجدان المتدفق بحنين لم يكتمل، ففقده أتعب الناس حتى (فاتنة) التي أغوت أنوثتها نسيم الليلة الأخاذة تلك التي (ألجمتها لتظل صامتة لدقائق) فور سماعها قصة غيابه أو تغيّبه لكنها عللت بشكل مثير أدرك الراوي أهميته لكنه لم يستفد منه في تحليل مزاج (صقر) بدلاً من إدمانه وسائل البحث عنه؛ قالت: (قد يكون مجرد نزوة غياب منه) ففي هذه العبارة من اللامقول أكثر من المقول فهي تخبئ سيرة إنسان يتشظى بآلام الدراويش الذين يتلحفون الخفاء سكناً لهم.
لقد شدني ايها الراوي (فأنت في نظرهم لا تزال تمارس طيشك في الهرب والابتعاد حينما تجرح كرامتك أو تهان كبرياؤك في هذه المدينة التعيسة) لماذا صقر المعنّى؟! هل توجد كرامة أصلاً في المدينة، لِمَ لا يتخذ الهرب شكل الإنسان المخدوع في وجوده؟! إذن.. هناك علة خفية لدى صقر، الا يمكن أن يكون (صقر المعنّى) هو (عرين السباع) ووجوده رمز فرضه الراوي ليدخلنا في مزالق مصنوعة كي ندرك أثر الخفاء في بلورة إنسان هو شبه إنسان، عندما يعيش بلا كرامة.... كيف يعيش بلا كرامة؟!
ألا يُمثل (صقر المعنّى) في غيابه سؤالاً ضخماً يطوفُ بحيرة مملوءة، تشي أن النهاية أياً كان غموضها فإنها تشير إلى مصير حاقد يحوط كلَّ فنان أو صاحب رأي أو متمرد على واقع مخذول أو حتى ممارسة العبث أحياناً يفهمها الآخر أنها ضد الأخلاق... ولذلك فالراوي أتخم نصه السردي بتساؤلات الغياب كما في جاء نهايتها: (أتراه فنانا ظل يجاهر بالغناء وحما عوده (أصيل) من مكان إلى آخر حتى يتم تغييبه عن الوجود. أم نفترض أن عدوه حرس الفضيلة أو جماعة لحيان؛ أم تراه معارضاً فيتهم السيد باخفائه كواحد من خصومه؛ أم تحكم بأنه درويش متسكع سكير؛ دهس وفر داهسه. أم تؤكد كونه بدوياً يحمل على عاتقه ثأرا قديماً ولحق به من يقتص منه. أم نرجح زعماً بأنه ارتكب جنحة وفرية فجاءه القصاص عاجلاً غير آجل من بيت المداوي الأب) لم تخل مراحل الرواية من الاستفهام المفترض بطرائق مختلفة ولكنها ذات أبعاد مشابهة ولكن هذه التساؤلات الصعبة هي رهانٌ حقيقي يضع المشكوك بهم على منصة العداء الإنساني الذي لا يبرره سوى جهل الإنسان لذاته مما يفوضه استباحة حقوق الآخرين كما أشار المؤلف في أكثر من موضع.
طقوس العزلة
ثمة مساحة عابرة أوجز الراوي ذكرها، وهي استعراضه (حي السراويل) الذي يقطنه الوافدون ولا ندري ما مدى اللهجات أو السلوكيات أو العبث في مسار (جرف الخفايا) الذي سوف يرتكبه هؤلاء مما سيعد طفرة اجتماعية ربما تخلخل بنية العلاقات والتصرفات العامة حتى لو اعتادوا الخفاء فإن طبائعهم لا يمكن أن تتخفى كلها.... الخفاء تدريب على محو الذات وإعلان موارب لتنصيص الحياة بالبؤس إنها استكانة شقية للروح التي تتودد العزف على أوتار قوس قزح في موسم الأمطار بدلا من العزف على أضلاع مبهمة تدعى نشيج إنسانها المبهم في عزلة الروح والجسد فالغرباء أيضا مؤهلون للخفاء والهمس البليد.
كل خفاء له طبعه، وكل طبع لا يجيدُ الخفاء سوف تصادره (حرس الفضيلة) لذلك إن (حي السراويل) مهدد بالقمع والإرهاب وتعتيم للمبادئ التي تمثل أعرافاً مغايرة.. حتى (صقر المعنّى) عاش العزلة في غرفة حقيرة بحي السراويل ورغم اختلاف طبيعتها لوجود الوافدين إلا أن حالة الخفاء والنكد و(رقابة الظل) تؤدي مناسكها في كل جهة بالمدينة وهذا يؤكد أن الراوي أراد خطاً مستقيماً لأحداث الرواية ربما لاستيعاب الخفاء بجميع حالاته!
عرين السباع.. وطنٌ للوطن!
من لا يؤمن بالخفاء لا يحيا؛ هذه أفياءٌ تهيمنُ على (جرف الخفايا) وفي (عرين السباع) تستحوذ فكرة التمرد على الأصدقاء لكن الخفاء لباس مفروض عليهم.. الخفاء حارس أيضاً لحالات كثيرة جذرها التمرد وجذعها المكابرة وأغصانها اللامبالاة بقوانين (جرف الخفايا) التي تقسو على أهلها.. إذا تعرفنا أكثر على هوية كل واحد من أفراد شقة (عرين السباع) سوف نحلل أبعاد هذه الشخصيات جمعها : (صقر المعنّى) (شاعر وعازف أصيل) دحام المداوي (صحفي وشاعر) خليل المهبد (تاجر وروائي) العزي فرقنا (طبيب فاشل وفنان بارع) خويلد الأمس (مدرس وشاعر) ضاحي الأبرق (كاتب ومفكر) رويان بن يفداك (تاجر خضار) حمد المزين (ضابط وصاحب الموقف المحايد) مبار الوليعي (عازف الربابة) التوأمان وحيد وفريد (ابنا التاجر فادي الأبيض) فاتنة (عاملة مشغل وملهمة العرين) جوجة (............) لولو (شاعرة موهوبة).
هذه الشخصيات يكاد يجمعها رابط شفاف هو الفن والخيال والرؤى النقدية؛ لكن ألا توجد شخصية ضاحكة تأخذ الجو إلى فرفشة وتهور يخفف وطأة المدينة التي (تحقد على الرمل، وتلعن المزامير، في ناموسها المعدل وراثياً، ذلك الذي يجعل الديك حماراً والثور يحلب) إنها حقاً مدينة التعب الدفين وأسطورة الخفاء الموحش التي تناصب أهلها المكائد والفتاوى الجهنمة التي تكفر كل من ينتهك سترها.
مهما يكن ففي (عرين السباع) رقص وماء معتق ومزامير وأوتار مصقولة ونساء حسناوات ومماطلة بالوقت وتحريض على قوانين المدينة وفتاوى حرس الفضيلة؛ كيف يحدث هذا في مدينة مفوهة تدعى أنها منبع الفضيلة والحكمة وتصدير النوايا الحسنة؟! ليس عجباً، فكل هذا ممكن في الخفاء الذي استطاع الراوي أن يعيد إنتاجه بصياغة جديدة تعلمنا أن الخفاء سيد المكان!!
هنا.. قلقٌ مبكّر
كل من يدخل (جرف الخفايا) ينسى اسمه ويغيّر طبائعه كما فعلت (فاتنة وجوجة) فالمرأة كائن غريب في هذه المدينة.. الكل يطمع بهنَّ ويتمنى وعداً بمقابلة بلا فضيلة وبلا مكارم أخلاق وبلا إنسانية أيضاً يريدونها ميدان اللذة كي تتبارى الشهوات بلا خاسر ولكن في الخفاء الذي يمنحهم حق نسيان القانون.
الراوي اقتصد في حضور المرأة بالرواية وكرس جهده في نبش الغياب الذي طال (صقر المعنّى) فالإغواء المتجسد في (فاتنة وجوجة) والممانعة لدى (لولو) والضغينة المواربة لدى (العنود والمها) والحنان عند (الخادمة) التي عطفت على (المداوي) أثناء مرضه، وبؤس (أم صقر). الحضور النسوي لم يشكل صدمة مكتملة في تضاعيف (جرف الخفايا) باستثناء (فاتنة وجوجة) اللتين أعادتا أهازيج الحياة في عرين السباع برقصة ووعود متكررة للارتواء من بئر الغواية التي اراده الراوي لهاثاً حقيقياً لجنون شخصياته لكن الحذر خالج وعي المؤلف حتى آخر شبق.
تحريك الساكن
هل توشك المدينة على مسخ جديد؛ أم أن الخفاء كائن له وجوه عديدة؟!! فالتغيرات هائلة حيث تحول (عرين السباع) إلى مرسم ومستشفى صغير وغياب مستفحل يخطف أهل الفن وانتشار قوي لحرس الفضيلة وتوقعات مثيرة حول اعتقالات بتهم باطلة وتسيد للمناصب وزيادة الأكاذيب حول الوباء لسرقة أموال المدينة (لجرف الخفايا حالة محيرة وشاقة؛ فبقدر ما ينشد أهلها الخلاص من منغصاتهم توجه لهم الطعنة تلو الأخرى...) فالخفاء يبني مجده، ومستقبل غاضب يعلو ملامح الغد الذي سيشرق على المدينة فالساكن لم يعد ساكناً ما دام الإحساس بالوجود أخذ يتحرك في المدينة.
وبهذا استطاع الروائي عبدالحفيظ الشمري أن يجعل من ثنائية أظاليل طلح المنتهى عملاً روائياً يضيف للساحة الإبداعية مزيداً من الألق فاستبطان الهم الإنساني أول معايير المنتج الإبداعي الذي يتماهى مع الحياة بوصفها أثر الوجود وحقيقته التي نؤطرها بالفن المبدع.
m_alfooz@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|