بكيتُ.. ثم بكيت للشاعر الراحل د. عبده بدوي
|
قد قالوا في همس قبل الرحلة
لما وجهت الوجهة نحو القِبلة
ودخلتُ وعُمري مرتجف في قلب الصف
مكسور الأنف
(.. إن الإنسان الضيف
لن يدركه في غربته إلا الحيف
وجنون الصيف
وبكاء الحرف
وسؤال مقرور خانق
عن (أين؟) و(كيف؟)
فإذا ما استروح من تعب كان السيف
والسهم الآتي غدراً من خلف!)
ولقد قالوا فيما قالوا (.. إني بعت النهر الرفاف
والخضرة تومض في الصفصاف
والنخل يوشي كل الأطراف
.. حتى زهر اللوتس
لم أتركه من بين شغاف
حتى من كانت لعبة عمره
قد غادرها من غير طواف
.. حتى الزمن الحلو الشفاف
ما دار عليه، وناح، وخاف!)
3
ولقد ذكروا فيما ذكروا بعض الغرباء
ما أكثر من ذكروا منهم؟
قالوا: إن الشعراء الآباء
كل قد عانى في الغربة
وشكا في الليل الممتد العاتي كربه
وتحول في الأيام لنبع بكاء.!
1 هذا من عاش طويلا في بطن الزِّق الرَّجراج
قد فارق (كِندةَ) كيما يستبقى التاج الوهاج
لكن الريح تنازعه هذا التاج
وبعيدا يُسمع صوت للقلب المكسور المهتاج
ويموت بقبر منسي من غير رتاج!
2 والذّبياني في غربته يتقلب فوق (هراس) الهم
فالليل سيدركه مهما طال اليوم
.. لولا ما ترسله (المتجردة) النشوى في الحلم
وطريقتها في جذب نصيف لم تسقطه عن عمد
بينا عيناها في عينيه، وشيءٌ ما قد نم!
3 وبكفَّىْ عنترةٍ قعبٌ فيه لبن بائس
كيما يسقى كل النسوة إلا عبلة
فلقد خرجت كيما تبكي في أعلى التله
لما يئست من وعدٍ مخلوفٍ أبله
والعمر تولى وهي على خوف العانس!
4 وزهير قد أضحى وتداً من أوتاد الخيمة
لكن الحرب وإن سكتت مازالت تهدر في الأمة
ويعلّم كعباً كيف يقول الكلمة بعد الكلمة
قد قال: أجز، فانهلت أفراح الغيمة!
5 والأعشى لا يخطو إلا مسنوداً ما بين الكأس وبين الحرف
ويُساوم بالإبل الحمراءِ قُريشاً حتى لا يذهب
ليقول قصيدته الكبرى في (يثرب)
لكن ستباغته الناقة
في صحراء الموتِ المُجدب!
6 أما طرفة
فالسيف بِغُربته قطفه
وارتاعت في دنياه الرحفة
فمشى خطوات، بعضا يبعد عن بعض
ثم انهار الطول، ومال العرض
ومشت غربان سودٌ مؤتلفة
والصمت العاتي قد جرفه!
7 ولبيد قد سئم الدنيا، واشتاق القبر
.. لما طال العمر
استعصم بالصمت، وأغفى فوق القفر
واستنجدَ في حزنٍ بالابنة
كيما تنهل عليه ببعض القطر
فلقد مات الشعر!
3
لكن الشاعر لا يُصغي للأصوات الثكلى من أجداده
ويراها وهما
أو تخلبط الحمى
لكن يُصغى لنقاءٍ يبدو حلما
.. وبقلب ممتلئ عزما
يخطو.. يمشي مهموماً جهماً
في راحته ورق، ما أكثر ما يُرمى
في جبهته نورٌ قد أوشك أن يدمى
وبقايا من أملٍ مرسومٍ رسما
وجواز مرور قد أخذته الرعشة وهو يقدمه للشرطي العابس
من خلف جهاز التفتيش البائس
(.. ويدور بخاطره أن الوادي يبكي حوله
وستتبعه أنى سار النخلة
والأشجار الخضراء تفيءُ إليه
والأزهار الحمراء تشدّ يديْه
وبأن الطير حواليه شد الرقبة
وممثل نهر النيل توقف عند العتبة
هل كان كبيراً للأُمناء
قد جاء يودّع أيّامي قبْل الرِّحلة؟
بالياقة وهي منشّاة، وبأَوْسمةٍ فوق الحُلَّة
.. لكني لم أُبعد إلاَّ وَهْما
والدنيا قد ملئت غيما
والقادم سار، وما أوما!!)
4
أمّا الإنسانُ الآليّ الجالس
من خلف الطاولة الملأى بملفات، ووساوس
فتجهم.. لم ينظر في عينيه
لم يأبه للورق الممتد إليه
لم يعجبه شيء في تدوير الحرف
فتعمد وهو يدق عليه
أن يقلب في شفتيه
ويموء كمن يرجو نوماً
.. فيغادره قلقا لكن يبقى شيءٌ ما
وبعيداً عن أن يوقظه في داخله صوت هاجس
عن أن نُسيمات الحرية
ستهب على وجه الدنيا، وتلامس
يتجاوز باب الغرفة مُنفعلاً، في خطو قارس
.. لكن سيُرى مُرتطماً في جسم الحارس
فإذا ما جاوز معتذراً للوجْه المعروق اليابس
واستجمع في عينيه أحلامَ الفارس
سنراه يقُول:
يبدو أن الدنيا صارت غير الدنيا
والشاعر في هذي الأيام مُعافى
مادام سيبعد عن وطنه
مادام سيخرج من زمنه
وأدار الظهر، فلم يطرف جفنا، أو خافا
أو هزَّ الكفَ لمن حضروا، ورأوه يُزمِعُ إيلافا
أو خاف بأن يتهامسَ عنه الناس:
ها قد بدأ الإجحافا!
.. لما شاهدت أوائل رحلته في وادي الخوف
قد داهمني شيءٌ كالصمت
والرعشة قد ملأت قلبي
وبكيت.. بكيت!
5
في قرب القِمة
ولكل الأشياء دوىّ بعد دوىّ
كوَّرتُ فؤادي، ثم تدليت لأعماقي في ذعرٍ صحراويّ
لكنيّ أطفو في خوف من فوق الحزن المأساوي
بل من فوق الجدري
فلقد قالوا فيما قالوا
كلمات مختلطات كالنقش الأثري:
يا هذا المطرق في أقصى ذاته
اسبح في هذا النور الفرحان الوردي
يا هذا الشاعر
اسقط من ذاكرتك
ما ظلّ بها من إشراقٍ وطني
.. اذكُرْ.. لابد لهذي الرّحلة من حادٍ بدوي
نادمنا بالكاسات الصّداحة
وبما قد قيل لليْلى في أطراف الواحة
ما أحوجنا للشعر الذهبي
لم تبقَ سوى ساعات في هذا الزمن المسروق السريّ
ونعود ببطء للوجه القبلي
وإلى الإيقاع الغاضب من عَبسٍ ولُؤَى
وإلى الشّعر الطافي من غير رويّ
وأيائَل قد ضاعت في قلب الحيّ
وبقايا من أوهامٍ (لابن أبي)
.. يا هذا ذكّرنا بالمجد العربي
وبقايا من عصر رعوي
قُل: إنا حضرّنا العالم
قُل: إنّا نِعمْ الصُّحبة
لا تنكرنا، فستُعطى سلَّة عملات صعبة
في عصرٍ معروقٍ وشقيٌ!
.. لما أن أظلمت الدنيا في عينيّ
وذكرتُ بأني لم أتسلّق أشجار المدْح
وبأنيّ معروضٌ في خطافٍ للذبح
وبأن الخفقة قد ضاعت من جنبيّ
وبأني قد أصبحتُ بهذي الدنّيا.. لا شيءْ
.. استدعيتُ الحزن الباقي في قلب العالم
وذكرتُ بأني في الأيام شقيْت
وعلى نفسي في التيه بكيتْ
.. ثم بكيت..
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|