الزيارة عبد الرحمن المحسن
|
حملته السيارة إلى الموعد الذي انتظره طويلا ، تاركا خلفه زمنا من الألم وبعضا من قصاصات الذاكرة ، وسار عبر المدينة التي تمنى لو أنها خالية من الزحام ذلك اليوم .. توقف بجانب الرصيف ، نزل وهو ينظر إلى المبنى نظرة أجبرته على الابتسام ، أغلق الباب بقوة محدثا صوتا بدا كنداء أخير من دموع ماضيه وأحزانه ، ذاك الماضي الذي سيزول عند دخوله.
صعد الدرج الذي بدأ بلا نهاية ليقوده إلى الدور الثالث الذي توجد به العيادة ، استجمع ما لديه من جرأة وتقدم إلى غرفة الاستقبال التي أمامه ، كانت هناك وجوه كثيرة كلها تشترك في الأنوثة ، والكل مشغول بما لديه من أوراق ومكالمات ، جال بنظره في أرجاء الغرفة ، إنها ليست هنا ، تقدم إلى إحداهن وانتظر بصمت أمامها إلى أن أنهت مكالمتها ثم وقفت وهي تسأله :
أي خدمة سيدي ؟ .. فرد أهي موجودة ؟
من هي ؟
الدكتورة
وهل عندك موعد ؟
لا .. أجل .. لا بد أن أقابلها للضرورة
وهل تعرفك .. اقصد اسمك ؟
أجابها وهو يحس بنشوة تجري في جسمه : نعم تعرفني
حسنا انتظر هناك ..
واتجه نحو غرفة الانتظار وذهبت هي بدورها لمكتب الدكتورة ، اسند ظهره إلى الكرسي الذي بدا مشابها لمثيله الذي في المنزل واطلق العنان لأفكاره ، ترى هل ستنزعج من زيارته ؟ أم ستجامله كغيره من زائري العيادة ؟ أم ستغلق جرحا قديما بداخله تقودها غريزتها لذلك ؟
قطعت الممرضة أفكاره وهي تسأله بابتسامة متعبة مللت من ترديدها.
عفوا هل أنت محمد ؟
نعم نعم .. أنا
تفضل .. ذلك الباب
شكرها واتجه نحو الباب الذي بدا مفتوحا فرآها وهي تتحدث إلى المريض الأخير في قائمتها ، التفتت إليه ، رمقته بنظرة اتبعتها بابتسامة ، حاولت أن تكسر بها البداية الخجولة لهذه المقابلة.
تقدم نحوها ومد يده لها وهو يتمنى من أعماقه أن لا تخذله ، وقال في لهجة حاول فيها إخفاء توتره :
مساء الخير دكتورة ..
ابتسمت وردت بلباقة اعتادت عليها وأشارت إلى الكرسي بجانب الجدار ، جلس وهو يبادلها عبارات المجاملة ، لكن داخله كان يعصف بالأسئلة !
لماذا يبدو وجهها مألوفا لديه ؟ لماذا يشعر أنه يعرفها منذ زمن بعيد ؟
لماذا تحاول أن توقظ فيه حلما تركه نائما في ذاكرته ؟ أهي الصديقة التي لم يعرفها ؟ أم هي حبيبته التي نسج صورتها في أحلامه الماضية ؟ .. لا يدري كل ما يعرفه انه يرى في عينيها نبوءات لم تكتمل ، وأحلاما لم يسعفه تفكيره في فهمها.
قطعت أفكاره بسؤالها : ما رأيك في عيادتي ؟ .. فأجاب : انها جميلة .. جميلة ، فردت عليه مجاملة : شكرا لك .. وتابعت بابتسامة لم تخفها : لقد طلبت رؤيتي وها أنا ذي أمامك كما طلبت ، قام من على الكرسي واتجه نحوها وهو يقول في لهفة استغربها : نعم واشكرك على ذلك ، نظر إليها وهو يعلم أن وقت الدوام في العيادة قد أوشك على نهايته ، وخيل إليه أن زمنا طويلا قد انقضى لكنه استمر في نظره الذي لم يقطعه إلا رنين الهاتف ، فاستدرك قائلا :
معذرة عن زيارتي في هذا الوقت غير المناسب ، يجب أن ارحل ولم ينتظر ردها بل مد يده لها مودعا ، فمدت يدها معلنة قبولها وهي تشكره على الزيارة.
هبط الدرج إلى أسفل العمارة وهو يلوم نفسه ، لماذا لم أبق مدة أطول ؟ لماذا لم أستطع أن أكلمها ؟ لماذا أنا هكذا دائما ؟ .. اتجه نحو سيارته وادار محركها .. وقبل أن يتحرك نظر لوجهه في المرآة ، فرأى في عينيه نظرة حزن ودموعا بقيت من الزمن القادم.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|