العلم الطبيعي والإيمان بالله 1-2 العقيدة في العلم الطبيعي د. صلاح كنه
|
العقيدة كلمة مزعجة للذين لا يؤمنون لاتصالها الوثيق بالدين، وكم يودون لو زالت واختفت كالحيوانات المنقرضة. لكن هيهات، فقد يستطيع الملحد أن يزيل (الدين) من قاموسه؛ لأنه يمثل عقيدة بمواصفات محددة هي مواصفات الدين. أما (العقيدة) كمبدأ و(اقتناع راسخ مؤثر في السلوك بصحة مفاهيم متماسكة مترابطة في أمر شامل جامع) (1)، فإنها تفرض نفسها حتى على الملحدين، لأن الإنسان - مؤمناً كان أو ملحداً - لا تستقيم حياته دون عقيدة، فحياة الإنسان لا تقوم على أكوام من الحقائق، وإنما تقوم على مبادئ تربط سلسلة الوقائع والظواهر التي تحاصر الإنسان.
واتخاذ العقائد مما يفرق الإنسان من الآلة، فالآلة قد تكشف حقيقة علمية، لكنها لا تستطيع أن تقيم نظرية أو قانوناً، أو تعتنق عقيدة، لأنها تفتقر إلى وعي، وهو القدرة على إرجاع الرموز إلى ما يقابلها في الواقع. بل إن الإلحاد نفسه يقوم على عقيدة وليس على منطق موضوعي يبرره؛ لأن أحداً لم يجرؤ حتى الآن ليزعم أن لديه دليلاً على عدم وجود الله، إن جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير الخاطئ منطقياً، وأقصى ما يستطيع الملحد أن يزعمه تبريراً لإلحاده هو قول: (لا أدري).
لا يمكن لبشر أن يعيش أو لعلم أن يقوم دون عقيدة، فلا غرابة أن اكتظ العلم الطبيعي بعنصر العقيدة ولا سيما في الأسس الرئيسة التي يقوم عليها هذا العلم، وفي النظريات العلمية، ومواقف العلماء، وهذه المحاور الرئيسة التي سنتحدث عنها.
* * *
يقوم بناء العلم الطبيعي على عقيدة أساسية لهذا العلم تقرر أن سلوك المادة والجسيمات سلوك منتظم تحكمه قوانين، وأننا نعيش في عالم يتسم بالمعقولية... عالم منطقي، متماسك، قابل للفهم، تحكمه قوانين ثابتة واحدة، حتى إن القوانين الطبيعية في الأرض هي القوانين نفسها في المجرات التي تبعد بملايين السنين الضوئية. وعلى الرغم من أن أحداً لم يذهب إلى هناك ليتحقق من صحة هذه الحقيقة، إلا أننا لا نشك فيها، لأنها حقيقة نابعة من عقيدة تمثل الأساس الرئيس لبناء العلم الطبيعي، وهي قاعدة {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍٍ} (30) سورة الملك، التي يتفق عليها العلم والدين.
بل إن الحيوانات أيضاً تتخذ هذه العقيدة التي تقرر ثبات القوانين الطبيعية، فنجدها تبتعد عما قد يؤذيها دون خبرة شخصية سابقة في كثير من الأحيان، وليس هناك سبب منطقي لتظل صفات الأشياء وليظل القانون باقياً، لكن الحيوانات تفترض هذا البقاء، لأن الذي خلقها وضع هذه العقيدة غريزة فيها، وهي العقيدة نفسها التي لولاها لما قام العلم الطبيعي. بل إن العلم الطبيعي بحث في الواقع لاكتساب بعض جوانب المعقولية التي تحيط بالوجود والتماسك الذي يربط أجزاءه.
هكذا يقوم العلم الطبيعي على عقيدة تقول بوجود وحدة منطقية في الكون يسعى العلم فيها باحثاً عن أشكالها المختلفة، لذا نجد الحقيقة العلمية رقيقة إن لم تتصل بحقيقة أخرى أكثر شمولية؛ ولأن العلم الطبيعي (يعتقد) أن الحقائق كلها تنتمي إلى حقيقة واحدة، والأشياء كلها تعود إلى شيء واحد، اتصل أهم الإنجازات العلمية بحشد أكبر عدد من المظاهر والحقائق في أقل عدد من المبادئ والقوانين، مع قناعة بأنهما مهما تعددت فإنها تعود إلى أصل واحد، وقانون واحد تنبع منه القوانين كلها.
هذه النزعة (التوحيدية) تمثل أهم عقائد العلم الطبيعي، وهي عقيدة تدفعه لتحقيق بعض هذا (التوحيد) الذي يمثل تحقيقه أهم أهداف وطموحات العلم الطبيعي. وكما قال محمد عبدالسلام الحائز على جائزة نوبل: (الوحدة التي تجمع قوى الطبيعة جزء من إيماننا كفيزيائيين، ومن إيماني كمسلم) (2).
***
إذا انتقلنا من أسس العلم الطبيعي إلى النظريات العلمية، فإننا نلاحظ أيضاً وجوداً كثيفاً لعنصر (العقيدة) حتى إننا نستطيع أن نعد هذه النظريات تحويلاً للحقائق إلى مبادئ وعقائد مثلما هي تحويل للمعرفة إلى علم وقوانين. وكما جاء في الحديث عن النظريات العلمية، فإننا لا نستطيع أن نجري التجارب التي تتطلبها نظرية علمية، وإنما نجري عدداً محدوداً منها كما يحدث لأسئلة الامتحان في مادة من المواد، فهي لا تتضمن الأسئلة الممكنة كلها. ومتى ما اتفق ما أجرينا من اختبار مع النظرية أخذنا بها كعقيدة، و(آمناً) بأن التجارب التي لم نجرها ستتفق مع النظرية لو أجريناها. لذا لا نسرف إذا قلنا إن النظريات العلمية هي تحويل للحقائق إلى عقائد، فالنظرية العلمية عقيدة تربط الظواهر، وإن كانت عقيدة تستمد جذوراً من الواقع.
وكما تكتسب الحقائق قيماً ومعاني جديدة حين تتحول إلى مبادئ وقوانين - وهو ما يحدث حين تتحول قائمة الملاحظات إلى علم - كذلك تكتسب المبادئ والقوانين أبعاداً وأعماقاً جديدة حين تتحول إلى عقائد. بل إن الرقي الفكري في النظريات العلمية يرتبط دائماً بالجانب العقدي فيها، ولا يقل ما يضيفه هذا الجانب عما تضيفه رشاقة وأناقة النظرية وبساطة معادلاتها في تحديد مكانتها. فلا عجب أن حمل كثير من النظريات العلمية - ولا سيما النظريات العلمية الكونية - ظلالاً عقدية لا تقتضيها التجارب التي ساقت إلى تلك النظريات، فمن شأن هذه الامتدادات الفكرية أن توسع وتعمق فهمنا للظواهر والوجود، واستيعابنا للحياة.
ولأن النظرية العلمية عقيدة تربط الظواهر، ولأنه في كثير من الأحيان يوجد أكثر من نظرية وأكثر من تصور لتفسير مجموعة من الظواهر، فإن العقيدة العلمية للعلم هي التي تجعله يتخذ نظرية دون أخرى بديلة، ويقدمها على الأخرى، على الرغم من أن التجارب لا تفرق بين النظريتين أو تقدم إحدى النظريات على الأخريات البديلات.
ونسوق هنا مثالين يكشفان أن النظريات العلمية كثيراً ما تتضمن امتدادات عقدية فلسفية لا تحتمها التجارب التي قامت عليها النظرية؛ المثال الأول هو القانون الثاني للتحريك الحراري Second Law of Thermodynamics، وتتلخص عناصر هذه النظرية فيما يأتي:
1- لم يستطع الإنسان صنع آلة تحول كل الطاقة الحرارية إلى عمل.
2- لا يمكن صنع آلة تحول كل الطاقة الحرارية إلى عمل.
3- لا توجد آلة تحول كل الطاقة الحرارية إلى عمل، أي لا توجد آلة كاملة الكفاءة في تحويل الطاقة إلى عمل.
4- ما دام الكون نظاماً مغلقاً معزولاً، فلا بد أن ينتهي إلى موت حراري.
(1) يمثل القاعدة التجريبية للنظرية، (2) و(3) يمثلان صياغتين للقانون، (4) يمثل الامتداد الفكري العقدي للنظرية.
القفزة الفكرية من قاعدة البيانات إلى صياغة القانون بينة ظاهرة، والقفزة الفلسفية الهائلة من قاعدة البيانات وعبر الصياغة القانونية إلى النتيجة العقدية أكثر تجلياً وظهوراً، فما أبعد المسافة بين عجز الإنسان عن صنع آلة تحول كل الطاقة إلى عمل، وبين الحكم على الكون بالفناء الحراري.
المثال الثاني نستمده من نظرية الكم، وهي نظرية تصف التركيب الذري وحركة جزئياتها. ومن الملامح الرئيسة لهذه النظرية مبدأ الارتياب الذي يصف ما يحدث حين تجتمع المقيسات غير المتوافقة في النظم الطبيعية. إن درجة الدقة في تحديد قيمة مقيس تكون على حساب درجة الدقة في قيمة المقيس الآخر. ومن المقيسات غير المتوافقة الموضع وسرعة الاندفاع. وإذا أردنا الدقة في تحديد موضع لمتسابق في سباق للعدو مثلاً، فيجب أن نفقد الدقة في تحديد قوة اندفاعه بقدر ما نكسبه في تحديد الموضع، ولا يمكن تحديد الموضع وقوة الاندفاع بدقة في آن واحد أو قل: في (الحالة المعنية).
ومن المقيسات غير المتوافقة الزمن والطاقة، فمتى ورد هذان المتغيران في نظام طبيعي، سرى عليهما ما سرى على الموضع وقوة الاندفاع. هكذا تقول التجارب العلمية عن المقيسات كلها غير المتوافقة حين تتلاقى في النظم الطبيعية.
ثم يأتي الامتداد الفلسفي العقدي للنظرية ليقول: (ما دام الزمن والطاقة متغيرين غير متوافقين، وبحكم نظرية الكم ومبدأ اللا يقين، فإنه يمكن أن تظهر كمية من الطاقة، وتتلاشى دون أن نلحظها في أية فترة زمنية محددة في أي نظام طبيعي يضم هذين المتغيرين. والقفزة هائلة بين ما تقوله التجارب العملية ويقرره القانون الرياضي الذي يحدد مدى عدم التوافق في هذه الحالات (3)، وبين هذه النتيجة الفلسفية التي تأتي بطاقة مجهولة لا نستطيع تحديدها لأننا كنا منصرفين إلى - أو قل: كنا دقيقين في - تحديد المدة الزمنية. هذا الامتداد العقدي لنظرية الكم ومبدأ الارتياب استخدمه كثير من الملحدين لتفسير ظهور الكون من العدم، وسنكشف زيف هذا الادعاء حين نتحدث عن النظريات التي قدمها الملحدون تفسيراً لظهور الكون.
قد يتساءل أحد: كيف تكون النظريات العلمية عقائد والعقيدة من خصائصها الثبات والعلم من خصائصه التبديل والتطور؟ والجواب أن العقيدة العلمية تختلف عن العقيدة الدينية في تقبلها التعديل والتطوير، لأنها ليست حقيقة مطلقة كالحقيقة الدينية، لكنها تظل عقيدة ما ظلت قائمة، وحتى يصيبها التعديل أو التبديل، والدليل أننا نفترض أن التجارب التي لم نجرها لاختبار نظرية نتخذها ستتفق مع النظرية لو أجريناها.
قد تكون (العقيدة) كلمة مزعجة للذين لا يؤمنون، لكنها أفادت العلم الطبيعي كثيراً، والأمثلة عديدة، وكما جاء في فصل (العلم الطبيعي والغريب)، فقد أدت عقيدة مبدأ حفظ الطاقة إلى اكتشاف النيوترينو، كما أدت عقيدة وجود حاملات للقوى النووية الشديدة إلى اكتشاف ميزونات (يوكاوا). ومن هذه الأمثلة أن العلماء رفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية على الرغم من اتفاقها مع التجارب العلمية من منطلق عقدي بحت يرفض التأثير المتزامن على البعد دون وسيط، وهو التأثير الذي تقرره النظرية، وهذه العقيدة العلمية الرافضة للتأثير الفوري من البعد دون وسيط كانت من الحوافز لظهور نظرية (النسبية العامة) لآينشتاين التي تلغي التأثير المتزامن لتكون الجاذبية جزءاً من هندسة المكان، فتكون حركة الأجرام السماوية ناتجة عن تشوهات في الكائن الرباعي الأبعاد والمكون من الزمان والمكان، وليست ناتجة عن قوة جاذبة. و(النسبية العامة) تصور أرقى فكرياً، وأدق رياضياً من نظرية نيوتن، ولا سيما حين تمتد إلى الجاذبية بين المجرات وحول الثقوب السوداء.
ومن الأمثلة التي تعبر عما أفاد العلم الطبيعي من اتخاذ مبدأ العقيدة أننا لا نستطيع أن نجري تجربة لنرى إن كان للوجود هدف، ولا يوجد برهان تجريبي من هذا النوع. لكن (الاعتقاد) بوجود هدف هو الذي قاد علماء العلم الطبيعي إلى نتائج لم يكونوا ليصلوها لولا تلك العقيدة كتفسير دقة الثوابت الكونية بأن ظهور الحياة ثم الحياة الواعية كان هدفاً مبرمجاً منذ نشأة الكون وطفولته، وانطلاقاً من هذه العقيدة توصلوا إلى علاقات رياضية دقيقة بين هذه الثوابت.
لنأخذ مثالاً من عالمين، أحدهما يمتاز بعقيدة تقرر أن للكون وللحياة هدفاً، والآخر يراه كوناً عشوائياً لا هدف له. حين يواجه العالم الأول الثوابت الكونية يجدها متسقة مع عقيدته، ولا يجد تناقضاً بين عقيدته وبين الدقة المذهلة في هذه الثوابت. أما العالم الآخر فيجد نفسه في حيرة وضياع أمام تلك الدقة المدهشة لأنه لا يجد لها تفسيراً، فهذا العالم يعيش في عالم قد يعرفه لكنه لا يفهمه.
1- تعريف مستمد بتصرف وتعديل من محاضرة بعنوان: (منهج تفسير الظواهر العلمية) تناول فيها د. محجوب عبيد طه صلة الإيمان بالعلم الطبيعي، يمكن الحصول على المحاضرة من (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية)، الرياض.
2- د. أحمد فؤاد باشا: فلسفة العلوم بنظرة إسلامية، ص36.
3- انظر فصل: (قراءة إيمانية في نظريتي الكم والتحريك الحراري) للوقوف على مبدأ اللايقين.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|