عندما نحاكم التأريخ (مقالة القجيري أنموذجاً) أ.د. عبدالله ثقفان
|
في البداية ينبغي أن نؤكد على المقولة التي تنصّ على: (أن التأريخ حضارة وتراث) أمانة في عنق الأمة: مفكرين ودارسين وناقدين...) (1)، وأن له (حرمة) كما هي للموتى، ولأنه كذلك، فإن من المتوجب علينا قراءته بحذر وخوف شديدن كي لا نظهر العيوب ونكشف عن المستور، فديننا دين ستر وعقولنا تدرك (أنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام لا سيما الكثيرين منهم، وما يشغّبُ بهذا ويفرح به للتنقّص، إلا متعلم يريد أن يُطبّ زكاماً، فيحدث به جذاماً...) (2)، وأنه ينغي ألا يكون قلب الكاتب أو الناقد (كالسفنجة) تتلقى ما يرد إليها، وأن عليه اجتناب الشُّبه وإيرادها على نفسه أو غيره، فالشّبه خطّافة، والقلوب ضعيفة، وأكثر من يلقها حمالة الحطب المبتدعة..!! (3)
إن (رجال التأريخ) بمنزلة الذخائر المخبوءة (4)، ولأنهم كذلك، فما الفائدة من نبش ما له علاقة بتلك الذخائر، وإطلاق الكلام المعبّر عن (الحزبية) أو (العصبية) ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف والتي تعد من أعظم العوائق عن العلم والتفريق عن الجماعة؟؟، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.. (5)
إن الباحث الواعي لمدركات الأمور ينبغي أن يقرأ التاريخ ليضيف إلى عمره أعماراً أو كما قال الناظم:
من وعى التاريخ في صدره
أضاف أعماراً إلى عمره
لا لينقص من عمره أو من عمر أمته أعماراً، والطعن في التأريخ ورجاله من المنغصات، التي تصيب الأمة بالوهن والضعف، وتشتيت الأمور في الوقت الذي نحتاج وتحتاج أمتنا إلى البناء لا الهدم، فالتأريخ للأمة لا للأفراد، والحكم على تراث الأمة، لا تراث الفرد، إذ إن هذا الفرد قد أصبح تاريخاً ولم يعد حياً، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (134) سورة البقرة، وقال أحد العلماء: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلم ندنس فيها ألسنتنا..؟! (6) إنهم كما قال (ابن الخطيب):
بعدنا، وإن جاورتنا البيوت
وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفسنا سكتت دفعة
كجهر الصلاة تلاها القنوت
وكنا عظاماً، فصرنا عظاما
وكنا نقوت، فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العلى
غربن فناحت علينا السموت
إننا إن تكلمنا عن (رجال التأريخ)، فإنما نتكلم في أناس قد حطوا رحالهم (7)، وقاموا بأعمالهم التي تتماشى وواقع عصرهم، وبالتالي، فإن حُكمنا عليهم أو على تأريخهم يعد من الغيبة والبهتان، قال أحد الأئمة: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام.. (8)، وإذا كان هذا الإمام قد قطع على ذاته ألا تغتاب أحداً، فإن هناك الكثير ممن لا يأبه لهذا الأمر، فتجده ينقّب، ويحاول الكشف عن أشياء وما أكثرها تميل مع هواه، فينطق النّص بما يتفق وهدفه ويشبع هواه، ونتيجة لهذا الأمر، فقد تعرضت الكثير من الشخصيات الإسلامية الشهيرة لكثير من صور التشويه والتشهير بقصد الحط من قيمتها وشأنها ومن ثم إضعاف الرابطة التي تربطها بشباب المسلمين اليوم.. (9)
إن تشويه التأريخ الإسلامي قضية قديمة حرص عليها أعداء الإسلام لأهداف متعددة أهمها الطعن في تأريخ الأمة وتشويه صورة رجاله، أولئك الذين حملوا السيف، وجاهدوا في الله حق جهاده، ففتحوا الأصقاع ونشروا الدين تحت راية واحدة دون النظر إلى العرق واللون قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معناه: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى..).
أقول: إننا ندرك ذلك عن المسلمين الأول (من عرب وغيرهم) والتأريخ قد سجل كل ذلك إلا أننا نلحظ أن هناك من يفتش بدعوى العصبية، تلك التي نبذها الإسلام معتمداً في ذلك على أقوال تسوغ له رؤاه الخاصة (غير مدرك أن سلامة الإنسان عن الخطأ رأساً ليس بمطموع فيه، ولكن الطمع في أن يكثر صوابه، والفنية العقلية متى كانت نفيسة كثر الحساد عليها، وانبعثوا لإيقاع التلبيس فيها، وبحسب ذلك تختلط الأمور، وتصير عرضة للاختلاف:
والاختلاف داعية الى المماراة،
والمماراة فاتحة للتعادي،
والتعادي سلم الى العصبية،
والعصبية هي الداء العضال التي تستخف الأحلام الراجحة، وتستأصل النعم المتأصلة (10)
إن من أولئك الذين خرجوا علينا بمقولة من هذا النوع: (محمد القجيري)، إذ كتب مقالة تحت عنوان: (التأريخ الأسود للأمويين بالأندلس: من الغزو الأمازيغي إلى الإرهاب العربي)، وقد نُشرت في مجلة (الأندلس للأخبار)، وهي عربية إسلامية أندلسية مستقلة يديرها أحمد شكري من مدينة ماربيا اسبانيا .. (هكذا كتب)، وعنوانها الإلكتروني: arab andalucia @hotmail.com وهي مقالة حملت تهجماً شديداً على العرب، فقد وصف (موسى بن نصير) بالمكر والخبث والعنف، كما وصف العرب: بالأذيال والجشعين والماجنين، وأنهم أهل سطو ونهب وسبي، وأنهم أهل هوى، حيث أخذوا يغرقون في إشباع ملذاتهم وشهواتهم في الجنس والرقص مع النساء والفتيات الشقراوات بقرطبة وغيرها من المدن الآمنة من قبل الجدار الأمازيقي، كما وصفهم بالمحتلين حيث احتلوا الأراضي الأندليسية التي غزاها الأمازيغيون، ومن ثم أخذها العرب منهم واعتبروها جزءاً من الأرض العربية الكبرى، وقال أيضاً: وقام هؤلاء العرب أهل نهب وسبي بتأسيس دولة بني أمية بالأندلس على أساس مبدأ (وحدة عرقية قريشية) يحكمها العرب بالنسب، وحصرت الخلافة في قريش انطلاقاً من اسطورة (النسب الشريف)، واعتمادهم لسياسة الميز العنصري، وإذلال القوميات الأخرى بما فيهم الأمازيغ.
ثم تعدّى الى وصف العرب باليهود، بعد أن ألصق الخرافة والأسطورة أو الكذب بالنسب الشريف، حيث نجده يقول: حيث أصبح المسلمون صنفين: صنف من الدرجة العليا والرفيعة ويمثله العرب، أي الشعب المختار، ويحظى بكل الامتيازات المادية والمعنوية، وصنف من الدرجة الثانية وهم غير العرب كما هو حال الأمازيغ..، وبعد ذلك توجه الى الأعلام من قواد، مثلما وصف (موسى بن نصير) بأنه ذلك الذي يستغل (الفرص) التي هيأها له غيره، كما وصف (ابن حيان) بالحقود و(ابن حزم) بالكذاب، وذلك عندما يتحدثان عن (البربر)، وأنهما قد وقفا مع العرب ضد الأمازيغ في أقوالهما وكتبهما، ثم عن: ياقوت الحموي حيث وصفه بالصفة التي وصف بها (ابن حيان)، كما قال عن بلج بن بشر انه: مجرم حرب، أما (الداخل) فقد وصفه بالسفاح، أما عبدالرحمن الثاني: فهو أمير الدمويين وعن عباد بن المعتمد، قال عنه: إنه الجزار الوحشي، وعن (سليمان الأموي المستعين بالله) قبل ابن عباد قال: إنه: زعيم العنصريين..
إن (القجيري) قد حاول ان يكشف عن أشياء وجدها تمضي مع رؤاه وأفكاره، وهي أشياء لا تقدم ولا تؤخر في واقع قد مضى، وحساب الكل على الله وبالتالي فإن من المنطق ألا نستغل مثل هذه الرؤى فنطوعها في سبيل الطعن في الآخر والنيل منه، خاصة في مثل هذا العصر الذي نعيشه وتعيشه أمتنا.
إن من المهم أن نبني واقع الأمة، وإذا كان لابد من نقده، فنقده بطريقة أمينة، فحمل القلم أمانة، والعلم مسؤولية.
إنني ادعو (القجيري) وأمثاله لتسخير الوقت والفكر في خدمة الأمة، والدعوة الى نهوضها، لا محاولة زرع الفرقة، وتفريق الشمل، وأن نأخذ المعلومة التاريخية عبر واقع مشرق، لا شك مظلم، وعندئذ نشك في كل شيء، قال الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته
وأصبح في ليل من الشك مظلم
قال أبو الحسن العامري (ت 381هـ) (11)
بالبحث تستخرج دفائن العلوم
ولولا الخطأ لما أشرق الصواب
ولا فرق بين إنسان يقلد وبهيمة تنقاد
وفساد الدين في ثلاثة: زلة العلماء، وميل الحكماء، وتأويل الرؤساء.
ومن لم يكن معه عقل مرصوص، لم ينتفع بالحديث المقصوص.
وقال في موضع آخر: (إن الحق متاح لمن أراده وأحبّ ان ينطق به، لكن للنفوس أوطاراً تؤثر على طلب الأجر، ولابد للفهم من قادح، وللمنطق من واع...) (12)
إحالات:
1 انظر: مجلة الدعوة، ع 1127، تاريخ 1361408هـ وقد حوت موضوعاً بعنوان (التأريخ: تراث وأمانة.
2 انظر: حلية طالب العلم، تأليف بكر بن عبدالله أبوزيد، ص 81
3 انظر: السابق، الصفحة نفسها
4 انظر: السابق، ص 86 .
5 انظر: السابق ص 85
6 انظر: أعمال الاعلام..، للسان الدين ابن الخطيب، ص 6.
7 انظر: مسائل نفسية في منهج كتابة التأريخ (خمس فتاوى لخمسة من كبار علماء القرن التاسع الهجري). دراسة وتحقيق محمد بن صامل السلمي، ص 40 .
8 انظر: السابق، ص 22
9 انظر: مجلة الدعوة، ع 1127 ، ص 16 وقبلها: انظر: المنهج في كتابات الغربيين عن التأريخ الإسلامي. د. عبدالعظيم الديب، ص 78 .
10 انظر: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام، لأبي الحسن العامري، بقلم أحمد غراب، ص 192 .
11 انظر: السابق ، ص 185
12 انظر: السابق، ص 121
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|