نقد نقد العقل العربي (5) العقل المستقيل في الاسلام: إقالة نفسه بنفسه أم إقالة الخارج؟ د.عبد الرزاق عيد
|
لعل الجزء الرابع والأخير (العقل المستقيل في الإسلام) من المشروع الموسوعي من سلسلة (نقد نقد العقل العربي) لجورج طرابيشي هو الذي يطرح السؤال الوظيفي الاجرائي الراهني لمشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وهو السؤال الذي لا يزال العرب يطرحونه على أنفسهم حتى اليوم ليس على المستوى الفكري والثقافي فحسب، بل وعلى المستوى الاقتصادي والتنموي والسياسي إن كان عالمنا العربي الإسلامي متخلفاً بذاته، أم مخلّفاً بالإكراه من خارجه؟!
هل هو (تخلف) تحل اشكالاته برامج التنمية الاقتصادية والتحديث التقني والاداري، أم هو (تأخر) يستدعي السؤال النهضوي الذي هو سؤال جذري متعدد المحاور والمستويات، يبدأ بالسؤال المعرفي الذي يجعل من العقلانية والحداثة والتنوير أسا ضرورياً لأي تحديث تكنولوجي، على اعتبار أن العلوم التطبيقية والتكنولوجية ليست إلا فرعاً تطبيقياً من شجرة حداثة المعرفة التاريخية الأوروبية، هذا السؤال المعرفي ينعطف عليه السؤال السياسي الذي يستدعي بالضرورة أن التطور التقني والتحديث الاقتصادي غير ممكن في بيئة الاستبداد السياسي، وهو يستدعي بالضرورة أيضاً الحداثة السياسية: الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان التي تستند إلى مجتمع مدني سياسي حديث منضد أفقياً سوسيولوجيا: طبقات شرائح نوادي، أي مجتمع يتخطى المجتمع الأهلي العمودي حيث روابط الدم والقرابة والعائلة والعشيرة والطائفة.
هذا السؤال المباطن لتاريخ خروج العرب من التاريخ والدخول في التراث، ظل يمارس ندبه الرثائي مع نداء لسان الكون بالخمول والانقباض بلسان ابن خلدون وحتى يومنا هذا والسؤال المطروح لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟
أي تحليل يسعى لمقاربة هذا السؤال لابد له من أن يلامس مسألة علاقة الخارج بالداخل (الأنا/ الآخر) في تعليل حالة الأفول التاريخي الذي آلت إليه الأمة.
وهنا تأتي مساءلة جورج حول مشروع الجابري في التصدي لهذا السؤال الاشكالي، وذلك لأن مشروع الجابري يؤسس مقاصده الراهنة في التصدي لهذا السؤال، من خلال سيادة ثقافة المؤامرة التي تحكم العقل العربي اليوم، أو في سياق مشروع الجابري: نظرية مؤامرة الخارج (حصان طروادة) الذي تسلل إلى ساحة العقل الاسلامي فزعزعه ودفعه إلى الاستقالة، وذلك من خلال اكتساح جحافل اللامعقول العرفاني من هرمسية وغنوصية وتصوف وتأويل باطني وفلسفة اشراقية وسائر تيارات (الموروث القديم) حيث تشكل كل هذه الروافد (حصان طراودة) الآخر، الذي تسلل مستتراً إلى ساحة العقل العربي الإسلامي ليجندله تحت سنابكه ويدخله في حالة من الغيبوبة التي لم يستفق منها حتى اليوم.
وهكذا يبدأ جورج كتابه بفصل مطول يتناول فيه ظاهرة (الابستمولوجيا الجغرافية) حيث عقلانية الغرب ولا معقولية المشرق، في صيغة علاقة اكتساح تبدأ من (حران) التي تقدم مصدراً مشرقياً غنوصياً لتعليل المآل الانحطاطي للثقافة العربية الاسلامية وتحويلها من (معقولها الديني البياني) إلى (اللامعقول العرفاني) بجميع ضروبه من هرمسية وغنوصية وأفلاطونية محدثة بصيغتها المشرقية، وعلى هذا النحو يكون (منبع اللامعقول خارجياً)، وعلى هذا النحو أيضاً تعطي براءة ذمة للعقل العربي الإسلامي، وبذلك فإن تآكل هذا العقل لا يتم من الداخل وجراء تطور عضوي سالب بل من الخارج...) ص 96
ليخلص جورج إلى أن الأساس في الابستمولوجيا الجغرافية الجابرية هي (تغريب العقل وتشريق اللاعقل) ص 99، وحيث عملية التفاعل بين العقلين هو غزو لا عقل الشرق لعقلانية الغرب بهدف دفعها إلى الاقالة من خارج بنيتها العضوية، حيث من (حران) ينطلق اكتساح العرفان، اذ تبدو حران كجزيرة معزولة عن محيطها، وكأنها مقر سري لهيئة أركان اللامعول الذي من سراديبه ستتسلل العناصر اللامنظورة للعرفان المشرقي لتعزز، كما الطابور الخامس، النظام البياني العربي من داخله، وفق الصياغة المجازية المتهكمة لجورج ص 109 الابستمولوجيا الجغرافية:
وهذه الابستمولوجية الجغرافية ستلحق جائحتها اخوان الصفا الذين يعقد لهم جورج فصلاً من أرقى وأعمق ما كتب عن هذه المجموعة التي استعادها لنا طرابيشي من عالم البرزخ العرفاني وملكوت الكواكب الهرمسية، من جغرافيا لا عقلانية الفلسفة المشرقية والمدرسة الحرانية الذين يتهمهم الجابري بزعامتها قبل أن تؤول هذه الزعامة إلى ابن سينا كما كنا قد توقفنا عند الجزء الثالث (وحدة العقل العربي الإسلامي)، وهكذا على مدى ما يقارب 120 صفحة يقوم ناقد النقد ببحث جدي ودؤوب وعميق وراء كل هذه البداهات المتوارثة والمتداولة عن اخوان الصفا، فاختار من بين كل هذه الركامات أن يصطحب أبا حيان التوحيدي أغرب الغرباء في غربته، بعد أن (أشكل الإنسان على الانسان) على حد تعبير التوحيدي، وأبو حيان التوحيدي هو الأقدر على معرفة مأساة الغرباء، فهو القائل: إن أغرب الغرباء من كان عن نفسه غريباً، فترافق غريبا الدرب أبو حيان وجورج طرابيشي بحثا عن رفاق الغربة، ليقوم جورج بعملية فك أسر أو افتداء هذه المجموعة الأريبة من التصنيفات السهلة والساذجة والبسيطة لاكراههم على الاندراج في تصانيف وانساق العادي والمألوف، ومن ثم ليكتشف دون اسقاط باستشفاف داخلي لعين حاذقة ترى بأن الاسلام الفقهي الذي شكله (فقهاء السوء) حسب تعبير الغزالي، يتكلكل فوق صدر لوعة الروح وهو يتطلع شوقاً إلى الانفتاح على الملكوت، ولعل من أوثق الأدلة وألطفها وأكثرها رهافة، ملاحظته، إن خمسمائة من الآيات الستمائة التي يسوّر بها الاخوان رسالتهم الجامعية هي من المكيات.
والحال أن مكيات القرآن تقوم للتشريع الروحي مقام المدنيات للتشريع المدني ص 385 (فالشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطببون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم، والفلسفة طب الأصحاء..) على حد تعبير اخوان الصفا.
هذه الخلاصة يصل طرابيشي وهو يفكك الابستمولوجيا الجغرافية المشرقية الغنوصية العرفانية التي يطوق بها الجابري لأخوان الصفا بعد أن استجلا من نصوصهم:
أ رؤية كونية تتحلل من خصوصية أحكام الزمان والمكان داخل الشريعة الواحدة.
ب الانفتاح على الشرائع الأخرى.
ج الانفتاح على جميع أشكال التعددية.
د التأكيد على وحدة الأديان حتى وان اختلفت الشرائع.
هـ معارضة التعصب الاطلاقي النزعة من موقع النسبية المتبادلة وقلب منطق الفرقة الناجية وتكريس شرعية الاختلاف.
هذه الخصائص التي يكتشفها جورج في نصوص اخوان الصفا تخولهم لصياغة نموذج ل (إنسان أعلى كوني) عابر للخصوصيات وجامع لتعدد من الهويات النسبية، ومجسد لمبدأ التنوع في الوحدة الذي كان ولا يزال علاقة فارقة للمذهب الانساني كما عرف ساحة مجده في الثقافة العربية الإسلامية في قرن اخوان الصفا والتوحيدي ومسكويه، وفق ما يخلص له جورج متفقا مع اطروحة محمد أركون عن النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري.
الموروث القديم: الفلاحة النبطية (نوذجا):
اذن استمرارا لسؤال علاقة الداخل بالخارج، الأنا الآخر، ومآل هذه العلاقة على مصائر العقلانية العربية، يقوم جورج بمعاورة سؤال، هل استقالة العقل جاءت بعامل خارجي والذي نعيش اليوم راهنيته ونتائجه بدرجة مؤرقة تفتح الفضاء العقلي والثقافي على سلسلة لا متناهية من الأسئلة عن علاقة الخارجي بالداخلي فيما تشهده المنطقة من زلازل وهزات، يفتح أقواسا للتحديد عن معنى الوطنية والديموقراطية، هل تمكن الواحدة بدون الأخرى، الخصوصية المحلية والعمومية الكونية.
هذا الشاغل الذي كان كامنا وراء الوظائف الاجرائية لنهاجية جورج وهو يدرس ويحلل ويتأمل نصوص اخوان الصفا، ليخلص الى اكتشاف تلك النزعة الانسانوية الكونية التي يمكن أن ترتقي بالروح العربي فوق كل هذا الخراب، هذا الشاغل يكمن وراء تفكيك أطروحة الجابري عن (الموروث القديم / اللاعقل)، وهذا هو مشجب الخارج الذي تسلل إلى ساحة الاسلام ليضعضع المعقول الديني ( البياني) الإسلامي لصالح لا معقول (عرفاني) غنوصي هرمسي دفع العقل الإسلامي إلى الاستقالة. وهنا يعثر جورج على كتاب (الفلاحة النبطية) اللقيا الذي كان الجابري قد وصفه بكتاب سحر وطلمسات لا يدرس النبات لذاته، بل من أجل وظائفه السحرية، وهو أي: (الكتاب) يصدر عن نفس التصور الهرمسي للكون المبني على قيادة التأثير بين النجوم والكائنات الأرضية، وفي مقدمتها النباتات، إنها (الفلاحة التنجيمية) بتعبير فيستوجيير الذي يعتمد على كتابه عن (هرمس مثلث العظمة)، هذا الكتاب كان لقيا حقيقية، وكم كنا نريد أن يقتصر عرضنا لهذا الكتاب الرابع من سلسلة موسوعة طرابيشي عن نقد نقد العقل العربي، بالتوقف عند عرض العرض الذي قام به ناقد النقد لهذا الكتاب (الفلاحة النبطية)، لكن حكاية هذا الكتاب التي يسردها جورج والأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب أعقد من أن يفيها أي عرض حقها بدون متابعة تشابكات حكاية وصوله إلينا، من حيث التحقق من هوية المترجم، وزمنه، واختلافات بل وخلافات الدارسين من المستشرقين حول تاريخ تأليفه، وتأويل سياقاته.. الخ.
فمن حسن الحظ أن الجابري قد أوغل بعيدا وهو يضع ترسيمة خطاطته عن العقل العربي في التعويل على مشجب الخارج (الموروث القديم) ودوره في جندلة العقل العربي من على صهوة حصان البيان والبرهان إلى القاع السفلي للعرفان، الذي لا يزال إلى اليوم يزداد تسفيلا!
نقول من حسن الحظ، أن فعل ذلك، وذلك ليحفز نزعة التحدي الكبرى عند جورج لكي يكتشف لنا هذا الأثر الهائل الذي يقول مؤلفه منذ بدايات القرن الميلادي الأول: (اني لا أسلم لاحد شيئا دون أن تقوم عندي الدلالة على صحة ما يقوم في عقلي السليم من التعصب والهوى) ص 219 .
إن من يقرأ هذه الجملة تذكره بالتأسيسات المنهجية الأولى لمقدمة كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، وهو يشرح منهجه الديكارتية عن أهمية التحرر من أي (تعصب قومي أو هوى ديني) عندما نقارب النصوص.
ولعلها من الاشارت السباقة حتى بالنسبة لفلسفة العصر الوسيط الإسلامية المسيحية، أن يكون قوثامي مؤلف (الفلاحة النبطية) قد توصل إلى فرضية مركزية الدماغ وتسفيهه لفرضية مركزية القلب، ففي الوقت الذي يؤكد فيه على أن (العقل مسكنه الدماغ) ويعيد القول على أنه (لما كان أفضل ما اعطيه الإنسان العقل (لذا) كان العقل من اجزاء بدنه في اعلاه ورأسه ودماغه).
وانطلاقا من ذلك يسخر من اعتقادات العامة بأن القلب هو مركز النفس، ويسخر بلوذعية أكثر من لغة العامة الأمر الذي يصدق على لغتنا نحن أبناء العصر الحاضر حينما يقولون: ( لقد فرّحت قلبي وغممت قلبي، وطرب قلبي وأوجع قلبي (فهم لا يقولون هذا القول إلا: ( لانهم يتوهمون ويظنون أن القلب مكان للطرب والسرور والغم والهم، وليس هذا الظن بصحيح ولا ما توهموه بحق) (ص 233).
ومن الطرافة أن لا يجد طرابيشي في كتاب (الفلاحة النبطية) المؤلف من 1500 صفحة سوى إشارة واحدة لهرمس، وهي اشارة تتصل بباب ( نبات الباقلي) وليس في سياق اية نبوة دينية، وذلك ردا على وصف الجابري لهذا الكتاب بأنه كتاب هرمسي، متابعا في هذه الأطروحة ماسينون في هذا الحكم.
ولعل مأثرة جورج لا تتأتى في اكتشاف هذا الكتاب بوصفه وثيقة، فقد تم اكتشافه من قبل الاستشراق منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر حسب توصيف جورج نفسه، ولا في اظهاره فقد نشره فؤاد سزكين التركي سنة 1984م، ومن ثم كانت الخطوة الثانية ويصفها جورج بالجبارة هو إقدام توفيق فهد على اصداره في جزئين من ألف وخمسمئة صفحة، واستغرق عمله في تحقيقه عشرين سنة، وصدر عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1993م وجزء الثاني 1995م، والثالث دمشق 1998م.
فمأثرة جورج إذن هي: في هذا العرض الوظيفي الكاشف عن حدوس سوسيولوجية يجدها في أسبقية قوثامي إلى وضع أسس النظرية (عمران ريفي أو عمران الضيعة) أو في صيغة حدوس بقانون التقدم عندما يتحدث الكتاب عن أن المعرفة تتقدم بخط سير زمن نحو المستقبل:( ولعله أن يحدث في الزمان المستقبل قوم يدركون بعقولهم واستخراجهم واستنباطهم أكثر مما أدركنا..) وهنا يلحظ ناقد النقد بأن هذا التصور التقدمي للمستقبل قلب المعادلة المحكومة بالإبستمية القروسطية عن العلاقة بين الأجيال، التي ترى في السيرورة افسادا وانحطاطا وإخلاء السلف الصالح مكانه لخلف طالح، بينما هي عند قوماثي: علاقة تراكمية يزداد فيها علم المتأخرين على علم المتقدمين.. الخ ص (224).
مما يشكل التقاء وتقاطعا مع ترسمية العلم الحديث، بوصفها ترسيمة خطية طردية متقدمة باستمرار، بالضد من ترسيمة العصور الوسطى، بوصفها ترسيمة دائرية مركزها الابستمية اللاهوتية، حيث ارتباط الدائرة بمركزها، التي أقصى حريتها هو توسع الدوائر حول نقطة المركز!
اذن مأثرة طرابيشي ليس في معرفة وجود هذا الكتاب أو نشره أو اصداره بل بادراك قيمته المعرفية تاريخيا وقد كنا قد عبرنا من قبل بأن هذا الكتاب لو أتيح لماركس أن يطلع عليه في حينه لترك اثرا على هيكلية بنائه لقارته التاريخية، من خلال ما يقدمه الكتاب من مادة ثرية عن بنية عمران (الضيعة) العمران الزراعي والريفي وما يتصل بهذا العمران من بنى ذهنية ومعرفية وثقافية: تصورات ثيولوجية وكسمولوجية للجماعة الحضارية.
إن اكتشاف (الفلاحة النبطية) بهذه الصيغة المعرفية التاريخية الثقافية المقارنة يعيد الاعتبار إلى عقلانية الموروث القديم، ويسقط (نظرية المشجب أو حصان طروادة) التي طالما تفننت الايديولوجيا القومية التي ينتمي اليها الجابري في إبراز أشكال (مؤامرات الخارج)، مما يفتح الباب إلى الحداثة النقدية التي تبدأ بالذات للكشف عن المكبوت والمسكوت عنه: عن عمق المأساة الكامنة في بنية عقل كان قدره أن يأكل نفسه بنفسه على طريق إقالة نفسه بنفسه، والبحث في هذا المستوى من الاشكالية يترك جورج الإجابة عليه إلى المجلد الخمس والأخير من نقد نقد العقل العربي.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|