القرشي..الروح الظمأى .. وذاكرة الأحلام..! *عبد العزيز التميمي
|
الشاعرية ليست هي ترويض اللغة والقافية والتركيب وإعادة صياغة المعاني والصور القديمة .. وإنّما الشاعرية تبدأ بعد كلِّ ذلك وتستخدم كلّ ذلك في تحويل ذات صاحبها إلى قصيدة فيها تجربة الشاعر ولغته الخاصة وطريقته في التساؤل وحاجته إلى الإفضاء والمشاركة.
لا أدري لمَ طافت على مخيلتي هذه المقولة للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي وأنا اقرأ مقدمة ديوان شاعرنا الكبير الأستاذ المرحوم حسن عبدالله القرشي (زحام الأشواق) والتي يقول فيها: (ليست هذه الحزمة من الأشواق إلاّ نزيفاً من القلب الجريح ومزقاً من الروح الحائرة .. كما أنّها لا تمثِّل الشوق إلى المحبوب ولكنها تمثِّل معه ألوناً من الأشواق المتراكمة .. كالشوق إلى المجهول والشوق إلى الحقيقة .. والشوق إلى تغيير الواقع المرير الذي يعيشه العربي .. في معترك الحياة اليوم .. والشوق إلى المستقبل الأفضل في حياة الإنسان عامة .. نعم إنّها عصارة روح وذوب قلب خانع في متاهات الحب للحياة والأحياء وقصارى ما يستطيع أن يهديه الشاعر إلى البشر هو ذوب قلبه وعصارة روحه).
إنّني أمام شاعر يضعك منذ الوهلة الأولى للقائك معه أمام تصوُّره الشخصي لمعنى الشعر وقيمته ووظيفته .. بحيث يكون الشعر صوت الإنسان الذي يقاسمه الشاعر آلامه وآماله المشتركة. إنّ شعره هو تعبير عن أشواق الإنسان لعالم أكثر رحابة وإنسانية ومحبة تتسع له كلُّ قلوب الناس ومحاولة مستمرة من أجل تعاضد الإنسان مع أخيه الإنسان أينما كان والتعاطف معه في محنته وهمومه وأحلامه وآلامه وبحيث يكون الأدب بكلِّ فنونه وإبداعاته هو ذاكرة الإنسان في كلِّ مكان .. وهكذا أضحت هموم الشاعر الخاصة هي هموم أمته وهموم الإنسانية .. وهي محور أعماله.
وشاعرنا الكبير حسن عبدالله القرشي - رحمه الله - .. واحد من أغزر شعراء جيله عامة وواحد من أكثرهم بحثاً بعينه وعقله في دراسة الفكر الإنساني والبحث والاستفادة من تجارب العقول الإنسانية والتعرُّف على محاولاتها الجادة .. تشهد بذلك قراءاته الواسعة وكتاباته الرائدة لذا فهو قد تعرَّف منذ وقت مبكر من حياته الأدبية على شريحة واسعة من الشعراء والكتّاب الذين أثروا حياته الثقافية والفكرية .. بدءاً بالبحتري شاعره المفضّل لما يترقرق في شعره من الموسيقى الشعرية والذي يُعد في نظره أحد أساتذة الموسيقى الشعرية وأحد روّادها ومروراً بعمر بن أبي ربيعة وأبي تمام وابن الرومي وغيرهم من الشعراء القدامى وانتهاءً بالشعراء المحدثين أمثال البارودي وحافظ إبراهيم ومطران وشوقي وشعراء مدرسة أبولو الذين قرأ لهم وأعجب بشعرهم أمثال علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل.
وهكذا استطاع حسن قرشي أن يكوِّن لنفسه زاداً ثقافياً وأدبياً فساعده ذلك على تنمية الوعي بالإيقاع الشعري وقدراته على التعبير الواضح عن مواقف الحب والألم والدهشة والتساؤل وتعامله مع الحياة بكلِّ مشاغلها وهمومها.
وفي المقابل فقد نال الأستاذ القرشي محبة وتقدير الكثيرين من كبار الأدباء والنقاد في الوطن العربي، فكتب عنه طه حسين وعبد الوهاب عزام وأحمد حسن الزيات وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وحسين كامل الصرفي وعباس خضر وصالح جودت وجورج صيدح والدكتور عبد العزيز الدسوقي الذي أصدر عنه كتاباً بعنوان (القرشي شاعر الوجدان).
كما نشر الأستاذ القرشي العديد من إنتاجه الشعري والأدبي في كبرى المجلات الثقافية في الوطن العربي مثل الهلال والرسالة ومجلة الثقافة ومجلة الآداب البيروتية .. وله مشاركات أدبية في العديد من المهرجانات العالمية والعربية وهو عضو في العديد من الاتحادات الأدبية العربية .. كما اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة عضواً به تقديراً لجهوده الأدبية والثقافية وخلال مسيرته الطويلة في عالم الفكر والأدب والشعر أصدر الأستاذ القرشي نتاجاً زاخراً متميّزاً .. ومن بين ذلك الإنتاج عدد من الدواوين الشعرية منها: البسمات الملونة ومواكب الذكريات والأمس الضائع وسوزان وألحان منتحرة ونداء الدماء والنغم الأزرق وبحيرة العطش ولن يضيع الغد وفلسطين وكبرياء الجرح وزحام الأشواق وإضافة إلى مجموعة من المؤلّفات الأخرى التي ضمّت إنتاجه النثري والقصصي ومن بينها شوك وورد وأنات الساقية وأنا والناس وفارس بني عبس.
وشاعر هذه محصلته الثقافية وعلاقاته الأدبية وتواصله الفكري مع الثقافات المختلفة ينبئ عن نتاج أدبي وشعري متميِّز تتنوَّع أغراضه وموضوعاته وتتوهّج صوره وتنبض قصائده بكلِّ رائع وجميل من معزوفات القلب وإشعاعات الأحاسيس التي يبثها عاشق للغة الفصحى محب لها .. مدافع عنها.
إنّ أشعار حسن عبدالله قرشي هي صورة لطبيعته .. وحوار مع خلجات النفس وتعبير دافق بالحركة تشخص همومه واغترابه وفلسفته ورومانسيته ورؤيته الفكرية لواقعة .. وفي كل قصيدة من قصائده يطرح حسن عبدالله القرشي فيها إنسانية بطريقة سلسلة غير مباشرة وبأسلوب شعري يتسم بالبساطة والوضوح والعمق في تناول القضايا التي تسهم في إعلاء وجدان وعقل القارئ باعتبار أنّ الشعر روح الفرد .. وصوت العصر والمعنى الحقيقي للحضارات المختلفة ورحلة سفر دائمة نحو الحقيقة والمجهول معاً.
واسمع إلى هذه الأبيات من قلب قصيدة وتأمّل ما في الكلمات من صور ساحرة:
على وجهي ووجهك طابع المأساة يا وطني
على وجهي ظلال الأمس كالطوفان تسحقني
ينابيع الأسى في خافقي .. ومطارق المحن
وجيش من طيوف الذل يأكلني يمزقني
أنا الميت الذي يمشي بلا نعش ولا كفن
ويزرع في الدروب لظاه يسقي الأرض بالحزن
وهكذا هو الشاعر دوماً يخترق حجب المجهول ويغترف من المنهل العذب ليصبه في النهائية نهراً رقراقاً وحلماً ساطعاً كالشمس تضيء ما حولها .. فهو صاحب رؤيا ومحرك النفوس ورائد في مجتمعه لا يكذب ولا يتجمّل ..
وأنت حين تقرأ أشعار القرشي تشعر أنه يصوغ الموافق أياً كانت .. يصوغها بلا افتعال عملاً درامياً بالانفعالات والنفحات الإنسانية .. فهو كما يقول كوليدرج عن الشاعر: أنّه الذي يطلق روح الإنسان جميعها إلى النشاط الحي ويشع نغماً وروحاً يمزج الكلمات بعضها ببعض بتلك القوة السحرية التي لا تسمى إلاّ الخيال وحده .. وهذه القوة تكشف نفسها في توازن الصفات وإشاعة الانسجام بها في حالة عاطفية غير عادية وتنسيق فائق العادة، ولنقرأ معاً هذه الأبيات المنمّقة بإطارها الرائع وعمقها الشفاف من ديوان ألحان منتحرة:
من أنا؟ لحن في ضمير الدنى
من أنا؟ وهم في ظلال الغيوب
روحي ظمأى ليس من منهل
يشفي صداها ليس من عندليب
لن يسكب السحر بآفاقها
الا حبيب أين مني الحبيب
لا يزهر الحب بصباره
تعيش في قفر سحيق جديب
وأشعار حسن القرشي بحث جاد وباهر في التعبير عن الروح العربية بشكل عام والروح الوطنية السعودية بشكل خاص .. وهو شاعر تشكيلي عميق الرؤيا مشحون بالصدق والخصوصية وجدية البحث لا عن أشكال ولكن البحث عن ذات الإنسان وروحه فهو مشغول بالإنسان داخله وخارجه علاقاته بالأشياء ومن حوله:
يا وطني العاتب يا غصن الأحزان
يا فجرا أصفر من عهد حزيران
يا جرحا لم تضمده حكايات الأزمان
أو قصص الشجعان
يا عصفورا يطلع في كهف الظلمات
ورقص الأوزان
وشجا الكلمات
يا قنديلا أطفأه السجان
ما عادت تنطلق الآهات
الرؤية يحجبها ظل ودخان
والدجال الأعور نشوان
قد هزلت بالثغر البسمات
يا وطني العاتب قد ينفجر البركان
ويفيق من الغشية أموات الأموات
ويعود الترتيل إلى الأجواء
وتعود إلى المحراب الصلوات
وأنت حين تقرأ أشعار القرشي تحس تلقائياً أن جذورك انغرست في قلب الجزيرة العربية وتمدّدت داخل ربوعها فهو يغرف من نبع صاف يداعب خريره الآذان وتقتنص خرير مائة وإيقاعاته وهتافاته العميقة من أصداء أشعار الصحراء وتردُّدات العشاق .. ويظل موضوع الحب وهو مفتاح للقاء المليء بالشفافية والشجن ومع إشكالية الحزن تستدعي المناداة والاستفهام والمخاطبة ونبرة النشيد.
يا حسنائي
ينبهر على شفتيك
تجنحه منك الخيلاء
يصفق أصداء أصداء
أكاد أحسك في الصوصاء
أكاد أترجم شوق الصمت إلى لقياك
أكاد أرى قطرات الحب
تدحرج من عينيك رؤى الأشياء
وعالم حسن القرشي متكامل كما أن شعره متكامل وأبرز ما في شعره تعدُّد الجوانب وخصوبة هذا التعدُّد فهو متجاس ومتنوّع في آن واحد .. وشعره لا حدود له فهو ذو أبعاد كثيرة .. تمكننا أن ندرسها معاً متكاملة أو ندرسها منفصلة، وتمكننا أن ندرس كلَّ أعماله على أنّها واحدة فلغته جذلة وسطور قصائده لا تجيء لمجرّد تواردها في لحظة ما، بل هي تأتي نتيجة تمسُّك كاتبها بخيوط صناعة الكلمة ونسيج حروفها بحنكة وبساطة مستعيناً بالومضات التي تشع من خلال شعره حيث يمضي إلى عمق الماضي ويحلم بالمستقبل ويحاول أن يتجاوز الواقع وكأنّما هو مصوِّر محترف يطلق فلاش كاميرته حيث يضئ ما حوله فييسر لكاميرته تسجيل كل شيء تقع عليه نقطة الضوء .. وتنقلنا هذه الومضات الصغيرة السريعة إلى عوالم داخلية أشد اتساعاً وأرحب مساحة وتنفذ بنا إلى نسيج المشاعر والأحاسيس الإنسانية لتمنحنا دفء العاطفة ودفق المحبة:
يا فارسي الصغير
أكاد - لو علمت - أن أطير
أود أن ألقاك رقية لمستجير
لأحضن الهواء حين تنفث العبير
من فمك الصغير
وتومض الدموع في عيني تشرق العصور
إذا تذكرت كليمه وهمسة أو عربدات
صبحك المطير
أعيش في ذاك المحيا الباسم الصغير
وللحزن والألم في حياة شاعرنا مساحة كبيرة تجذّرت في العمق ولكن شاعرنا يترجم هذا الألم والحزن إلى طاقة تفجِّر في داخله عوالم رائعة الإبداع الذي يعبِّر به عن حالة الحزن والشفاف الذي يعيشه وما تختزنه ذاكرته .. كلُّ ذلك في لغة صادقة مشتقة من زمان الحزن وزمان الألم وفي كلِّ بيت بل في كلِّ كلمة وحرف نلتقي بأسلوب القرشي الومضي السريع والطلعة المتفجرة.
إن نهلت من عصارة الألم
نهلت حتى عقني الندم
لم أعد
استشعر الوجود
ولفني في ركبه الفراغ والعدم
وجف في قيثارتي اللحن والنشيد
فلا تقولوا .. أين أنت
إني شهيد
لا تسألوا ضحية الألم ..
ولا يتردّد حسن القرشي في لحظات أن يكشف عن خبايا نفسه دون خجل، وهو يكشف عن هذه الخبايا حتى يكاد يلمس الإنسان جرحه ويتجرّد من معاناة الشخصية ليتوحّد مع معاناة غيره من الناس.
تشاجيت حتى ألفت الأسى
وأنكرت لحن الهوى والمرح
فلست أبالي أناح الهزار
على روضة للمنى أم صدح
ولست أبالي نعيق الغراب
ولست أوالي أليفا نزح
إنّ لغته هنا ليست مضموناً معنوياً فقط بل هي شحنة من الصور المتوالدة بالطريقة الكتابية وبالتفاعل الضوئي الذي تحدثه الحروف وهو لا يتردّد عن خوض مغامرة الوضوح بكلَِّ إشراقاتها .. كما لا يتردّد في خوض مغامرة الرمز تمرُّداً على كثير من الصور ونبذ المعاني والألفاظ المستهلكة والانتقال من المظهر إلى الجوهر.
ماذا يحدث لو إنا مزقنا الأستار ..
لو أشعلنا يا جوهرتي في أحشاء الصمت وقود النار
لو عدنا في فوضى التيار غريبي دار
ونسينا الأهل نسينا شارعنا المعروف
وفتحنا في صفحات الليل مع الأشواق سطور شروق
ماذا يحدث في ذاكرة الأمس وفي ذهن الأيام
لو فجرنا عطر الحب وألغينا عبث الأوهام
وحسن عبدالله القرشي لم يشغل نفسه كثيراً بموضوع فك الاشتباك بين القصيدة الحديثة والقصيدة التقليدية بما تتطلّبه من أدوات إبداعية وجمالية ودلالية وبكلِّ عنفوانها: لأنّه أخذ على عاتقه ومنذ البداية أن يكتب بأسلوب هو دون أن يجعل من عملية الكتابة مغامرة تحمل مفارقة كاملة بين شعر الحداثة بما تحمله من عناوين إلى حد الصدمة .. بل هو يكتب النص الجميل على أرضية قوية صلبة مليئة بالتجارب غير منفصلة عن الواقع الاجتماعي واللحظة التاريخية .. ذلك حسن قرشي يؤمن إيماناً كبيرا بأنّ الموروث الشعري القديم هو الزاد الأساسي لكلِّ شاعر مخلص لنفسه وللغته، مهمته أن يضيف إلى هذا الموروث رؤيته الخاصة وإبداعه الشخصي دون أن يمزِّق النسيج العام لهذا التراث الذي هو سجل لتاريخ الأُمّة بل سجل لتاريخ الذات المبدعة التي هي في نفس الوقت جزء من تاريخ الإنسان كله.
... ... ... رحم الله الأستاذ الكبير حسن بن عبدالله القرشي الذي فقدته الساحة الثقافية والفكرية يوم الثلاثاء 13-4- 1425هـ عن عمر يناهز الثمانين عاماً .. ظلّ خلال فترة طويلة منها يمد الساحة الثقافية بإبداعه الشعري والنثري منذ بداية النهضة الأدبية في المملكة العربية السعودية، حيث صدرت له العديد من الأعمال الإبداعية في الشعر والنثر نشرتها له دور النشر العربية المعروفة منها:
* دواوينه الشعرية: البسمات الملونة 1949م - مواكب الذكريات - 1951 - الأمس الضائع 1957 - سوزان 1963 - ألحان منتحرة 1964 - نداء البعاد 1964 - النغم الأزرق 1966 - بحيرة العطش 1967 - لن يضيع الغد 1968 - فلسطين وكبرياء الجرح 1970 - زحام الأشواق 1972 - عندما تحترق القناديل 1973 - زخارف فوق أطلال عصر المجون 1979 - رحيل القوافل القتالة 1983 - أطياف من رماد القرية 1989 - * ومن أعماله الإبداعية الأخرى: أنات (أقاصيص) 1956 - حب في الظلام (قصص) 1982م.
* مؤلفاته: فارس بني عبس - أنا والناس - تجربتي الشعرية.
كما حصل على جائزة جريدة (البلاد) السعودية، ومنح الدكتوراه الفخرية من أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية، وترجم شعره إلى كثير من اللغات.
وهو حاصل على ليسانس تاريخ من جامعة الملك سعود وقد شغل طوال حياته العملية العديد من المناصب المرموقة بوزارة المالية والإذاعة ووزارة الخارجية، واختير عضواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة وعمان، ومثّل المملكة العربية السعودية في عدّة مهرجانات أدبية وشعرية ومن أهمها مهرجان الشابي في تونس 1965، ومؤتمر الأدباء السابع، ومهرجان الشعر التاسع (بغداد 1969).
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|