أحياناً نموت واقفين الرياح تحرك كل ساكن! محمد علي قدس
|
تهتز الأشياء.. كل الأشياء في وجهه. يغوص في حلم كئيب. مثقل بهواجس غريبة. ليلة مقمرة. البدر يتلألأ فيها محزوناً. تتمدد في عينيه خيالات يتطامن لها قلبه. يحس بانقباض يوقظ في نفسه المخاوف. وحشة القبور لا تثيره! عبرة الموت تمثُل بين عينيه كل يوم.. فقد تعايش مع الموت.. وفي صحبة الموتى! لماذا هو خائف الآن؟ تشعشعت أنفاسه برائحة الطين اللزج.. والسدر والكافور! كيف يدهم الخوف مشاعره فجأة؟
يستغرب ذلك الإحساس.. فهو إحساس غريب يغلبه! بدنه مقشعر.. قلبه لا يكف عن خفقانه.!! إحساس غريب.. كأنها النهاية.. يساوره حزن اليائسين.. وكآبة الخائفين يغتال مشاعره أحس.. بأنه سيكون بين الموتى الذين واراهم التراب! إحساس بأنه ميت قبل طلوع الشمس!
الجو رطب رطوبة لزجة.. الأشياء تتنافس في وجهه بأنفاس خانقة! أزيز الريح المتخبطة بالأعشاب الجافة والأوراق المتدحرجة بين أحجار القبور، كأنه زحف ثعبان أو حية رقطاء على التراب. توشك أن تتربص به لتلدغه أو لتقتله.
جلس على الأريكة.. أسند رأسه على ركبة قدمه المنتصبة. انتفض فزعاً وانكمش في نفسه!! يتوهم كل شيء.. حمى داخلية تسري في جسده وتسكن عظامه!
لم يجد عند الأطباء ما ينهي مشكلته، ما يخفف من معاناته بعض المسكنات التي يتعاطاها أخذت تفقد مفعولها. مفاصله متآكلة، وخطواته ثقيلة كهمومه.
يجوس ببصره في كل الأنحاء! قلب تفسير كل هاجس على عدة وجوه..! يخشى حتى مجرد التفكير فيها! وخز يصيب كل شبر في جسده وعظامه!! مرضٌ خفي يتنامى في داخله.. صدره ضائق.. أنفاسه متلاحقة.. كأن فحيح أفعى ينفث في صدره.
أرسل نظراته الزائغة باحثاً في التراب والأحجار المترامية في كل صوب!!.. لاح له طيفها.. جاءت كعروس تزدهي بفستانها الأبيض الشفيف.. حورية.. تطوف بسحرها الأخاذ حوله.. تنثر عبيرها.. تداري بخجل نظراتها المستحية! تسمر في مكانه.. بدنه مقشعر.. الريح تراقص.. ثوبها الناصع البياض.. شعرها الحريري يسافر مع الريح والسواد!! رائحة السدر والكافور تتغلغل في أنفاسه.
(أخ.. وا أسفاه على ما مضى. إني أموت واقفاً.. وها أنا ذا أحتضر. حتماً.. لا بد أنها النهاية).
سكنت الريح.. خفتت الأصوات إلا من نسائم جنوبية تهب من حين لحين.
(حمداً لله الذي أماتني لأستريح من دنياكم! دنيا خبيثة.. وأخبث ما فيها أنها متعة فانية ونعيم زائل..).
كل شيء ساكن. بدا الركن الذي كان يقبع فيه رجلٌ غريب خالياً، إلا أن صوته ما زال يتردد صداه في أعماقه!! صورته ماثلةٌ أمام عينيه بكل تفاصيلها وملامحها..، قد يكون حلماً.. إلا أنه تجسد له كأمر واقع. لم يكن كطيف عابر، كما كان طيف ابنته الذي نسجته هواجسه.. جاءه طيف ابنته وقد كانت غارقة في دموعها، هل عاد ليذكره بظلمه لها وتجنيه عليها!
ماتت قهراً ضحية بغض امرأة احتلت مكان أمها. كانت عروساً فاتنة تُخطب لوُدها وحُسنها وخُلقها. زُفت مجبرة في عرس هو المأتم، استقبلتها السماء عروساً تغرق في أحزانها.
جسمه الناحل ينتفض كشاة ذبيحة.. الدموع تخضب وجهه. أحس بأن حركته قد شلت. قدماه تسمرتا على الأرض. عُوده يهتز كبندول ساعة عتيق. لحظات رتيبة.. وكئيبة..، ماضيه البائس يتراءى له صوراً بشعة في مخيلته، دمه يحترق.. وقلبه في ضعفٍ يلاحق ضرباته المتعانفة!! يغوص في حلم كئيب، مُثقل بهواجس غريبة. مشاعره محتدمة بالرعشة والخوف..!!
عاد إليه الهاجس من جديد.. هل ستشرق عليه الشمس حقاً؟! هل سيكون هناك.. غدٌ جديد؟ لا يدري!!
بوده لو يصرخ.. لو تساعده قدماه المصابتان باليُبوسة والروماتيزم!! لأطلق لساقيه العنان.. وفر هارباً من نفسه الشريرة.. أحس بانقباض.. انتفاضة غريبة تسري في جسده.
صوته محبوس في داخله. رائحة الطين اللزج.. تخنق أنفاسه.
أشعل سيجارة. فاشتعلت نيران الخوف في قلبه. كيف له أن يتجاوز حزنه وألمه.. وسنى أنه مثقل بهم فادح.
تسلل إليه طيفها من جديد. اخترق السحب الليلية الرمادية، كهلاماتٍ بعضها إثر بعض يرى وجهها الدامع من بينها يتسلل؛؛
.. دموعها تلل ثوبها الأبيض، وجهها وشعرها المسدل يقطران ماءً. دس وجهه بين يديه.. انتفض لشيء من نفسه، لا لشيء يمكن أن يكون بديلاً.. لشيء آخر. نحن نتخيل ونتمنى. ولكن، هدأت الريح! نسيم بارد يدغدغ صفحة وجهه.. بدت السماء صافية.. وقد تسربلت في ثوب ضوء القمر! ضم قدميه خائفاً فبرزت عظام ركبتيه من تحت ثوبه الفضفاض الخشن، قدماه تلتصقان وتتنافران بالارتعاش!! ساعات قليلة ويبزغ الفجر (ترى هل يدرك الفجر؟).
إحساس غريب! قلبه يحدثه أن شيئاً ما سيحدث قبل إشراقة الصباح. في قلبه مشاعر إنسان آخر.
.. رائحة الطين اللدن.. وبقايا رائحة السدر والكافور.. تملأ جو المكان وتزيد من وحشته.. يتكاثف حزنه وخوفه! ليلة لا يدري متى تنتهي؟!
الريح هادئة.. لكن شيئاً ما يتحرك.. يتحرك مع الريح! يزحف على الأرض.. زحف ثعبان أو حية رقطاء تتربص به لتقتله. أحداث الليلة توشك أن تنتهي، لتنتهي مأساته.
ألقى السمع وهو غريق.. ضربات قلبه مضطربة. الريح ساكنة. أحس بضيق أنفاسه المتلاحقة في رتابة.. روحه كانت تصعَّد في السماء مختنقاً.
تَلَفَّح ببردته الحضرمية.. الخوف يسكن داخله.. بل يغتال مشاعره.. أسلم نفسه لهواجس تبددت معها طمأنينته.
من أين جاء؟ كيف جاء؟ لا يدري! جلس القرفصاء غير بعيد عنه في ركن قصي لحيته كثة أشعث أغبر يتدثر بإزاره الأبيض! قد يكون سائلاً.. أو محتاجاً، ولكن أفي هذا الثلث الأخير من الليل؟ كل شيء محتمل في ليلة موحشة لا يدري متى يبزغ فجرها! مفاصله متآكلة، وخطواته ثقيلة ثقيلة.
سَرَت قشعريرة في سائر بدنه.. كآبة اللحظات الأولى تلاشت.. خوفه لم يعد يقلقه ولربما جاءه أمن يؤنس وحشته. بدا وجهه مشرقاً بالنور. في عينيه بريق لامع.. وصوته جهوري له صدى.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|