استراحة داخل صومعة الفكر سعد البواردي
|
ثرثرة لا أعتذر عنها
محمد مهران السيد
141 صفحة من القطع الصغير
كلنا نثرثر.. فالكلام لا يحوجنا إلى استئذان.. إنه سلعة رخيصة لا تستنزف الجيب.. ولا تحتاج إلى روشتة طبيب.. داء.. دواؤه الحكمة التي قال عنها الحكيم (من كثر هذره قل قدرته..) ولكن الثرثرة اليوم في المجالس وعبر الهواتف.. وعلى صفحات الصحف.. وعبر المذياع وقنوات التلفزة أخذ طريقه دون رابط ولا ضابط، إنه يصفع أسماعنا.. ويثير أوجاعنا دون أن نمتلك زمام الحكمة.. ولا صمام التحمل..
شاعرنا اعترف بثرثرته.. واعترف أكثر أنها ليست ذنباً ليست ذنباً يعتذر عنه.. في أي تجاه جاءت ثرثرته؟!
بدأها بكلمات عتاب مختصرة:
لا أستطيع أن أزور الوثيقة القديمة
وأرفع العقوق راية
وأنكر الذي أظلنا معاً أنا وأنت
جملة أن أزور (تحمل معنيين..) أن أقوم بزيارة.. أو أن أزور ولكي ينتزع اللبس لابد من وضع الحركات عليها.. أن أزور)..
هذا الذي ظننته يحصل الهوى..
يعطيك إذا سقطت مرة صلابة البشر
وقدرة على النهوض.. لا أستطيع أن أقول
بأنني ظننت لحظة بأن رحلتي برغم شكي..
ولا أنت مرة.. وقلت أنها تقودني إلى الحقيقة..
هذه ليست ثرثرة.. دائماً رصد موقع وتسجيله كوثيقة لا تقبل التزوير.. ومن الكلمات إلى الملاحظات.. وكلمته هما أدوات طرح..
وتمضي سقف لياليك المثخن بالطعنات
فتساقطت الأمطار العفنة واللعنات
وامتلأت قنواتك بالوحل الليلي..
ثرثرة مطلوبة لتقويم ما أعوج في الصيف الطالح من شرنقة النار
المتفحم من قلب توابيت العهد
تشتمل الغرفة من حولي بطنين ذباب الحارة
أتذكر تلك الغارة..
وتملقني الأشباح على بوابات العجز الممتد
وهذه أيضاً ليست ثرثرة دائماً البحث عن جو تقي نقي لا ذبابة فيه.. ولا أشباح متراقصة من حوله.. حسناً ترك المكان وانزوى في زاوية لا مكان فيها لغيره سوى واحدة..
وأشارت لي: كانت في الأفق كبرج في قلعة
عالية كسحابة صيف..
وإن كنت على بعد شهور عشرة
في الطرف الموغل في البعد.. ولكن!
لا أكتمكِ القول.. فرحت لا بل طرت
لا يثنيني عنها الموت..
أخالها فرحة لا تتم.. ففي وجهه غيوم.. وهموم تنتظره..:
ولأن الأفق صقور سوداء.. وأنا مسكين
جسدي لم يبدأ بعد من الأدواء لم أخبر أحد
فالقمر على البعد يشد الأعناق
دائماً لم تيأس في صدري الأشواق..
ومضيت لا يثنيني عنها الموت..
وأنا بدوري لم أتعرف على النهاية.. الحب حين يرقى إلى درجة الموت يقتل.. ربما يراه البعض موتاً لذيذاً.. أي أن موت شاعرنا بإرادة حبه المتحدية بدأ يتنازل عن كبريائه.. بدأ يخاف الغد وما قد يحمله من غدر لا يستطيع عليه صبرا..
أضاف من غدي.. تصوري هذا
أنا الذي عشت أجمل السنين - أعشق الغدا -
غنيته قصائدا قصائدا
حملته وقلت للعذاب والعدا..
هذا غدي هذا غدي وإنني له الفدا
يتحفز كالفارس الذي يمتشق سيفه في مواجهة عدو مجهول قد يغافله ويغدر به..
قد كان في تصوري ابتسامة تزفه لا يجدها مدى..
مفردة ترف تحمل معنيين تَرَف بمعنى الثراء و(نِزف) بمعنى تستبين) ليته أعطى لها حركاتها اللازمة.. وقوف بها صحبي كوقفة امرئ القيس أمام مشهد رحالهم..
سيدتي أميرة الغناء والغرام والفصول
سفيرة الهوى الذي تعيش في كهوفه المخدرة
معذرة.. مليكة الزمان والعواطف المسافرة
بل ألف مقدرة..
على ماذا الاعتذار..
سننفض الأكف من عويلنا الطويل
صدقتِ.. يا بعيدة النظر
سيان أن يهلك رحلنا أسى أو نحتمي
من حرقة البكاء والتجلد.. ما دامت الحلول
قد امحت ولم تعد تلوح المطي في المدى البعيد
رمزية موحية بصور تتجاذفها أطراف الخوف واليأس والرفض.. والنهاية التي لا تأثير معها ولا أثر فيها، شاعرنا السيد يقترب من حافة القبر حيث ذكرى الموت..
في ذكرى الموت.. ما زلت أراني
ملقى فوق طراز مهجور
يتجنبه المارة وتغطيني صحف ببيت
تحمل تاريخ الموت الأول
القبور لا ينبشها الأحياء.. إنهم يتباعدون عنها خشية أن تدعوهم إلى لحودها.. لا أحد يحب ما يكره.. حتى الموت نخشاه لأنها يد لا تعيد لها الحياة صحف طويت.. ولا صحف نشرت.. الباقي بقايا من تاريخ موت ورّثة الزمن في أجساد العفن.. حين لا يأتي للتاريخ مذاق حياة فإن حلولا تندب أسفاره وآثاره حتى ولو كان لها بهرجة نضاره الرابي.
العائد دون أبواب تفتح له يظل غائباً حتى ولو لامست كفاه شرَّاعه الباب
ما أقسى أن تغلق في وجهي الأبواب
يا شيخي العارف بالله وأنا منذ التكوين أريدك
أعطيتك ما لم أعط السلطان
وتلذذت بكل صنوف الحرمان
لكن الدنيا سامحها الله ألقت بي خارج دائرة الضوء
سلبتني نعمة أن أجلس بين يديك
أتملى ألف هلال في عينيك
لكني والحق أقول.. لم أفتح صدري طيلة أعوام المنفى
لتعشعش فيها الأهواء..
شاعرنا له عذره لأنه خارج دائرة النسيان.. دواخله تفتش عن أمس ضائع رغم الإجهاد.. لا يهمه ما يكابد.. إنه يعاند التآكل في ذاكرته.. يطمع أن يكون ضيف تاريخ.. لا ضيف مؤانسة..
هل سمعتم بالطيور الذهبية شاعرنا وجدها وجداً ووجعاً بعد أن خدعتها الريح.. وراحت وراح يستعيدها أملاً جديداً
ومضت ليلات الروض القمرية
تفرخ أعداداً.. كثمار الليمون
شربت كل مياه الأمطار
وابتلعت أجران الحنطة.. لم تبق على الأزهار
كانت تكبر.. تكبر.. تكبر..
حتى حجبت عين الشمس عن الأنظار
شاعرنا شاهدها.. ونحن مجرد شهود ما شاهدنا حاجة لأنها أغلقت مفاتيح فمها عن الشدو.. لم تنطق إلا لغواً.. من صفتها الذهبية
تحولت إلى طيور ذاهبة بكل أحلام الربيع.. تقزَّمت بعد كبر..
ووسادة من خشب أشبه باللغة من الخشب انها رفيق المحرومين والتعساء الذين فاتهم قطار الحظ بوساداته الحريرية وملاعقه الذهبية.. هكذا جاء نصيبهم من الحياة.. منهم من ارتضى به قسراً.. ومنهم من ضاق به شعراً.. وتمرد عليه.. أو سخر منه..
لا شيء عنده اسمه الثبات والنبات
عطارنا العجوز لا يبيع غير الكحل واللبان والمخدرات
يقول كل ليلة بمجلس السمر
أنفقت عمري الكسيح لم أصادق الكتب
فضَّ نخاعها الكذب ولم أثق
بألف صف قام وانكسر
إلا بصاحبي أبي نواس..
الوسادة الخشبية مكتوب عليها بقلم الحرمان.. والمسخرية ألف صف وصف يقرؤها أبو نواس.. وأولئك الذين يعزفون في دخان الخدر العقلي..
حملت شاهدي.. وكان من خشب
فقد وجدته يقوم فوق قطعة الحصير
مذ ولدت.. وعندما كبرت
جعلته وسادتي التي يموت فوقها التعب
ما دام شاعرنا اختارها.. فعليه تحمل نصبها وقساوتها.. إن ثرثرة لا اعتذار عنها (أم قصيدة).. وعنوان شعره هي طويلة أكتفي منها بمقاطع.. وقواطع ترسم بعض ظلالها:
هذي الأدواء لم يكشف جرثومتها مجهر
لكن كشفت عجز العلماء
وكذلك سموها عشرات الأسماء
لا يرفع أي منكم حاجبيه في استنكار أو يضحك في كمه
هذا عصر سخاء التكنولوجيا أعطينا كي نسترق السمع. الأقمار
وهمتنا الذرة والليزر والغازات
كخبث للصفوة مرسوماً.. أن تضهد المخلوقات..
فلماذا تحرمنا نعمة هذه الأقراص..
وجهان ساخران لعصر اصطدم فيه العقل بوظيفة ما أنجزه العقل.. تملك أدوات البناء فهدم.. وصنع أدوات القوة فأنهكهه ضيقه.. عطل صوت الحكمة في زمن هو أحوج ما فيه إلى الحكمة أودعها ثلاجات التبريد كي تتجمد حتى توحده مع نفسه ومع الآخرين تحول إلى صورة للرؤيا خادعة يحسبها المرائي تؤخذ رغم أنها دليل فرقة.. شاعرنا أخيراً يعتذر عن ثرثرته الطويلة والجوفا بعد أن استدرجه الشعر فعرى نفسه وعرى غيره وبات مكشوفا تحت الأضواء.. ترقبه عيون الفضول وتدب على وجهه الأحداق.. وتغوص كأحذية خضراء.. محمد مهران السيد ينزع في شعره نحو الرمزية المقروءة، يضع الحروف ويترك لغيره وضع النقاط عليها.. يرسم الصورة ويبقي بعض الألوان التي لا تنتقص من شكلها..
وقال الشاعر الجوال حدوته وصفية أو حكاية من الماضي..
عجيب أمر قريتنا وقصة بئرها والسور
حفرناها حفرناها.. وكدسنا بها الأعمار والآمال والموتى
وأعطيناه.. أعطيناه حتى جاوز المطلوب وكنا نؤثر الصمت
فكم تبنا على شعب وكم أخذت وكم أدمى
عجيب أمر هذا البئر المسعور.. أن يبتلع كل شيء ولا يعطي بعض شيء.. مهمته أن يعطي.. وإذا به يُعطى.. تفضح أمره مقولة الشاعر..
كالعير في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
أو مقولة شاعر آخر يصف حالة الجانب الآخر الذي يكفيه ما بقي من كدر ماء وطين
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
شاعرنا يرسم هزال الحالة والضعف في جانبها الإنساني المحزن كيف يلتقي جمعان على غير لقاء.. ويتفقان على غير اتفاق.. شكلهما واحد.. وحقهما واحد.. وحقلهما واحد.. ومع هذا احتجا بعقلين.. واحد معقول بعقاله يتصرف بتضخم الذات وآخر لا يلقى مكاناً لعقله إلا مع الأموات.. والساغبين والبؤساء.. والباحثين عن رغيف عيش.. وعن قطرة ماء نقية لا كدر ولا طين فيها..
شاعرنا ينشد للوطن يستحثه ألا يكون أعزل من سلاحه كما كان.. ولا أن يكون مهزوماً كما سبق..
لا يا وطني.. إن سقط سلاحك مرة
وانكفأ المصباح على غرة فستنهض من كبوتك المُرَّة..
لا.. يا وطني.. فلتكسر بيض الأحزان..
ولتنزع هذا الليل من القلب
فأنا والأجداد عرفنا معدنك الصلب..
ودماهم تاريخك تحفر مجراها في الدرب
مقاطع وطنية تستنهض الهمم.. محاولاً أن تنفض عن ردائهما هم الهزيمة.. وغم النكسة.. ووجع التاريخ
أم شاعرنا تمنحه دروس حياة وتجربة عمر..
يا ولدي.. لم أتعلم حرفاً منذ قطع الجبل جوار الفرن.ز
لكن العمر العاطل من أسباب الأمن..
علمني أن السور الواطي تقفزه حتى القطط العمياء
علمني أن الضحكة اقصر عمراً من كل الأشياء
علمني الألف إلى الياء ولذا وهن القلب ولاكته الأدواء
ونزلت البيت مساء يتوكأ نصفي المشلول على الحي..
أغلقت الباب عن أشيائي.. وتركت الحي قبل مجيئك من أرض الغربة
جانب إنساني مشحون بالمأساة والموجع في حياة أم تمنح ابنها بعضاً من عظاتها
معذرة لا تغضب لا تحسب أمك جامدة القلب
أسأل عني زاوية الحجرة فنجان القهوة..
لكن فمنت وها قد صدق الظن
أو لم أجهر!؟ أن العمر العاطل من أسباب الأمن
أغفر لي ضعفي.. أو هذا الحين
إن كان الزبد الأسود قد غطاك إلى الرأس
لا تعتب واشرب خلف جدار الصمت
وتجشأ حتى لو أورق في داخلك المر
فهذا الماضي والحاضر سيدهم سيجندهم
ويمزق أجفان الأعضاء ويأمرهم فتشبث
لا تفلت من يدك الشعر
وأخيراً.. مع خاتمة القطاف والمطاف.. مع تداعيات الموت المختلفة..
من لم يذد عن حوض بالدم يسقط
ولا يمحو الجريمة ألف قربان يقدم
ويفر من موت إلى موت محتم
قيلت لكم من ألف عام لكنكم.. لكنكم
يا أمة تصحوا الأنام يوماً وبعض اليوم
وتعود تلتقط التمني من زوايا الحلم
واختتم الديوان بهذا المقطع المؤثر من متنوعيات أي من تنوعيات صوته الحي..
الموت يقبع في التعلل والأحاديث العجاف
فأسرح خصالك يا فتى.. لا تنتظر إلا وسوف
ونحن نبني ألف برج للحمام فأركبه إذن
إن كنت مجنوناً بليلي واعبر على ضوء القمر
أو في الظهيرة لا تسل أحداً متى؟!
أو كيف خاتمة المطاف؟ ليلي هناك
يدي في أوصالها وقع النعال
تمضي الليالي وهي تنتظر الرجال
تقتات صبار الصحاري
وهي تنزع كل يوم من نتيجتها هلال
الشمس تحرق شعرها..
وتجف في لهب النهار على الرمال
مسكينة ليلى.. وكل ليلى أطبق عليها الليل بظلمه وظلامه..
الرياض: ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|