مداخلات على فكرة مشروع (جمع السُنَّة)
|
أخي الفاضل الأستاذ إبراهيم التركي وفَّقه الله ورعاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أشكر كريم عنايتك واهتمامك بمقالتي (جمع السُنَّة النبوية في كتاب واحد: المشروع والتصوُّر)، التي تكرمتَ بنشرها وبنشر جميع التعقيبات النبيلة التي تفضَّل بها العلماء والمهتمون، من مثل (الشيخ الفاضل عدنان العرعور - الأستاذ يوسف الغريب - الشيخ الدكتور صالح أبو عراد).
وأود أن أنبِّه إلى أنّ ما طرحته في المقالة: يحتوي على (فكرة + مشروع)، فالفكرة ليست فكرتي أنا ابتداءً، كما أنّ اهتمامي ليس الاهتمام الأول بها، كما فهم البعض. بل إنّ الفكرة والاهتمام بها قائم على أكثر من صيغة تأليفاً وتصنيفاً قديماً وحديثاً؛ وقد أشرت إلى بعض هذه الجهود في المقالة قديماً وحديثاً.
لكن ما طرحته هو: اقتراح مشروع مُبرمَج في خطوات عملية محدَّدة، يمكن تطبيقها، لتحقيق الفكرة القديمة - الحديثة.
ما دعوتُ إليه عملٌ أشمل مما تقدم يفيد من تلك الخبرات والجهود جميعًا، ولكنه يستعين بها لتحقيق الأمل الكبير الغائب من القرن الأول الهجري إلى اليوم وفق رؤية أوسع وأشمل، فالمشروع ليس مجرّد جمع فحسب بل تصنيف دقيق يحتاج إلى مراجعات واسعة، وفرق عمل تعمل أولاً على تصنيف تفصيلي دقيق للمعارف والموضوعات، ولذلك دعوت إلى صناعة خريطة للموضوعات تكون معينة على ترتيب السنّة النبوية الكريمة، ثم يقدم وفق آلية شرحتها تفصيلاً ليفيد منه عموم المسلمين: طلاباً ومعلمين، صغاراً وكباراً، متخصصين وغير متخصصين .. فالمشروع خدمة للسنّة النبوية، وعودة إلى التلقِّي المباشر عن مصادر التشريع الأصلية، وجامع وموحِّد، ونابذ للفرقة والاختلاف حول النصوص، في وقت أخذت فيه دعوات مشبوهة تُطلُّ برأسها لتجذير الفرقة بين المسلمين على أساس من اختلاف النظر للسنّة النبوية ثبوتاً وحُجيّةً.
إنَّ وجود نسخة كاملة شاملة للسنّة النبوية الكريمة بين يدي العلماء والفقهاء، والمجامع الفقهية، مرتّبة على الموضوعات، ييسِّر استقراء النصوص الشرعية، ويُعين على الوصول إلى تصوُّر صحيح، وحكم صائب، ويُقلِّص مساحة الاختلاف المعيب القائم على ضعف استقراء النصوص بين الفقهاء، ويُفعِّل الاجتهاد القائم على الدِّراية والنظر والاستنباط، كما أنّه يُعزز مفهوم وتجليات الهوية الصحيحة للأُمّة المسلمة في مواجهة التحديات المعاصرة، ويذلِّل للباحثين في العلوم الإنسانية والعلمية ما يعترض سبيلهم من صعوبات وعقبات، تقف دون استلهام الهدي النبوي الشريف في بحوثهم ودراساتهم الإنسانية والعلمية، كما أنّه عمل علمي وشرعي لازم، تأخَّر أوان إنجازه، ويجب أن تنجزه الأُمّة الإسلامية بصورة صحيحة. وأهداف المشروع أكبر من أن تحصى في هذه السطور العجلة، ولكن نذكر منها:
1- المشروع في حدِّ ذاته عملٌ جليلٌ، وقربة إلى الله من جهات، منها:
أنَّه زيادة عناية وحفظ للمصدر الثاني من مصادر التشريع. أنّه نشر للسنّة النبوية، وخدمة جليلة للعلم الشرعي، وللعلماء والباحثين المشتغلين به، وطلاب العلم، وتعزيزاً للعلم الصحيح.
أنَّ فيه تقريباً للسنّة النبويّة من عامة المسلمين، وتسهيلاً لنشرها وتداولها والعمل بها.
خدمة للصناعة الحَدِيثيَّة بخاصَّةٍ والمعرفية بعامّةٍ، من وجوهٍ كثيرة، يتعسّر ذكرها جميعاً في هذا الموضع، ومن أهمها: إنشاء دليل تصنيفي للموضوعات المعرفية عامة وللحديث النبوي خاصة، وإنشاء قاعدة بيانات هائلة للتراجم، والرواة، والسُّنة، والتصانيف المختلفة، وبعبارة أخرى: بناء بنك المعلومات للحديث وعلومه وما يتصل بهما.
2- أهم عمل علمي يمكن إنجازه لخدمة سنّة النبي في هذا العصر، بل قد يكون من وجهة نظرنا أهمّ عملٍ يمكن إنجازه في التاريخ الإسلامي بعد جمع القرآن الكريم.
3- المشروع يسدّ متطلَّبات: المجامع الفقهية، والمراكز البحثية من السنّة النبوية، لإصدار الأحكام الشرعية مواكِبةً للمستجدّات في حياة المسلمين.
4- المشروع سبب من أسباب الاجتماع على كلمة سواء، بإذن الله، ودفع أسباب الفرقة، وتقليص مساحة الخلاف الناشئ عن قصور في استقراء النصوص واستيعابها.
وفي المقابل يحثُّ المشروع على تفعيل الاختلاف الإيجابي المؤسّس على النظر والاستنباط والتأويل، وهو مجال خصب من مجالات الاجتهاد، لا يعطِّله جمع النصوص كما توهَّم بعضهم بل يفعِّله ويُغنيه، ويفتح أبوابه على مصاريعها.
5- المشروع تحقيق لأمنية عظيمة اشرأبَّت لها أعناق علماء الأُمّة قديماً وحديثاً.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (... ولقد كان استيعاب الأحاديث سهلاً، لو أراد الله تعالى ذلك، بأن يجمع الأول منهم ما وصل إليه، ثم يذكر مَن بَعْدَهُ ما اطلع عليه مما فاته من حديثٍ مستقلّ، أو زيادة في الأحاديث التي ذكرها، فيكون كالدليل عليه، وكذا من بعده، فلا يمضي كثير من الزمان إلاّ وقد استوعبت وصارت كالمصنف الواحد، ولعمري لقد كان هذا في غاية الحسن ...) (راجع تدريب الراوي للسيوطي: ص100).
6- تضييق الفجوة بين أصحاب التخصُّصات المختلفة في المعارف الإنسانية والعلوم التطبيقية والبحتة وبين السنّة النبويّة وعلومها. إذ يصبح في مقدور كلِّ صاحب علم أو فنّ أن يتزوَّد بما يحتاج إليه من السنّة النبوية، على وجه الاستقراء والاستقصاء، وهذا يساعد في ضبط العلوم والمعارف، ويؤكد على جانب الهوية الإسلامية للشعوب المسلمة.
7- العمل على تحقيق عالمية الإسلام بإتاحة مصادره الرئيسة للمهتمين.
8- من المتوقّع أن تكون عوائد المشروع الاقتصادية عالية جداً بالنظر للقاعدة العريضة للمستفيدين، وتعدُّد مجالات الاستفادة منها: تعبُّديّاً، وعلميّاً، وتعليميّاً، تربويّاً، وفلسفيّاً، وتاريخيّاً، واجتماعيّاً؛ تنظيراً، وتطبيقاً.
ويمكن جعل جميع عوائده المالية تصب في خدمة السنّة النبوية ضبطاً ودرساً وشرحاً وتأليفاً ونشراً.
إنّ الناظر إلى المشاريع الفردية والمؤسّسية النبيلة التي تستوحي هذه الفكرة العظيمة يجدها: إمّا أعمالا ما زالت تحت غفوة الحلم الماتع لم تر النور بل تشكو من عقابيل معرفية ومالية تعرض لها بين الفترة والأخرى تنذر بوأد العمل قبل ظهوره للنور. وإمّا أعمالا تفخر بأنّها جمعت كذا وكذا من المتون دون أن تحقق الاستقراء الشامل، وأعني: الشامل، تحت نظر منهج علميّ رصين، ومشاركة علماء معروفين من جميع العالم الإسلامي والمذاهب المعتبرة، وتفتقد التبويب المميّز اليسير، الذي يحقق المراد، مما يحتاج معه المنتفع إلى ليسانس في الشريعة أو علوم السنّة .. وهذا يتنافى مع الهدف الأساس من المشروع .. لهذا فما زلت عند قولي عن تلك المحاولات إجمالاً: إنّها لم تستوعب سُنَّة النبي- ولم يدّع أصحابها ذلك، وهي جميعاً -على جليل مكانتها، ونبل غايتها، وعظم ما بذل فيها من جهد - ظلت:
* إمّا في نطاق المحاولات الفردية التي اعتورها ما يعتور مجهود الأفراد من القصور، وضعف التنظيم، والعجز عن الاستيعاب والشمول و الإحاطة.
* أو في نطاق النشاط المؤسّسي الضعيف، الذي تعوزه الخبرة، والمصداقية، ويفتقر إلى الخطة الفاعلة، وإلى المنهج الدقيق، والدّعم المادي، والعمل الدؤوب، والإنتاج الفعلي.
* كما أنّها في عمومها، بصفتها أعمالاً معزولة عن بعضها، تعاني كثيراً من الخلل في المنهج، والازدواج، والاضطراب، والتكرار.
إنَّ سنّة النبي تستحق أن تخدم بأكثر مما خدمت، وتستحق أن تقرب إلى عامة المسلمين بأكثر مما نراه اليوم. نحن بحاجة إلى مشروع واحد جامع شامل ترعاه الدولة، ويشترك فيه العلماء المعروفون من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة، ويشرف عليه ولي أمر المسلمين ليكتسب مقوّمات نجاحه: المعنوية والمادية. ووسائل الفهرسة والتصنيف، والحواسيب والبرامج الإلكترونية تسهل من مهمة الجمع والخزن والترتيب والاسترجاع والحفظ والتصنيف، ووسائل الاتصال الحديثة والإنترنت تعين على تجاوز عقبة المكان وتيسِّر انتقال المعلومة والاستشارة العلمية، بل تهيئ لأن يعمل كل عالم في المشروع من بلده، قريباً من مصادره ومن يثق بهم من العلماء.. إنّ ما يقرِّبنا أكثر مما يفرِّقنا، وعقول العلماء العاملين كفيلة بتجاوز كلِّ العقبات .. وكل ما نحتاجه هو الثقة بثقافة العمل. والأمل كبير بأن تبدأ عجلة المشروع قريباً لنقطف ثماره بعد عقد إلى عقدين على أبعد تقدير، وإنّي لأدعو الله تعالى أن يهيئ لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - أمر النهوض إلى جمع سُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويستكمل ما بدأه أخوه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد من جهود لخدمة المصحف الشريف، وينشئ مركزاً لخدمة السُنَّة النبويّة تكون نواة للعمل في هذا المشروع الضخم. وينال شرف العمل على جمع السُنَّة الشريفة في كتاب واحد في خلَف هذه الأُمّة، كما جمع أبو بكر الصديق القرآن الكريم في سلفها، ومن يدري فلعلَّ الله ادَّخر هذا العمل الجليل لزماننا هذا .. أخيراً تقبَّل أبا يزن إهدائي المتواضع، وهو كتاب لي بعنوان: (جمع السُنَّة النبويّة في كتاب واحد ... المشروع والتصوُّر) صدر حديثاً يعالج الموضوع ذاته، كما أشكر كلَّ من تكرّموا بقراءة ما كتبته، والتواصل معه وإثرائه، فقد أفدت منهم جميعاً.
أخوك أحمد علي آل مريع
أبها - ص. ب 2036 6-5-1427هـ
aaljooni@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|