نور..ذاكرة الوطن عبد العزيز الصقيري*
|
الأديب المرحوم عبدالله نور أحد الأسماء الفاعلة في المشهد الثقافي السعودي ولا شك أن رحيله يعد خسارة عظيمة لرجل قدم الكثير من الفكر والأدب والآراء النيرة للساحة الثقافية العربية بشكل عام!
عبد الله نور..ولد بفقد عظيم متمثلاً بحنان الأم وعظمة الأمومة.. فقد توفيت أمه بعد عام واحد من ولادته..وعاش غريباً ووحيداً مثلما رحل وحيداً وغريباً!!
بدأ مشواره الطويل في الحياة مسافراً لظروف أسرته الحجازية!
وتنقل في ريعان شبابه في عدة مدن سعودية بدأها من مسقط رأسه مكة المكرمة مروراً بالطائف وانتهاء بالرياض العاصمة التي تشكلت فيها شخصيته الأدبية والفكرية المثيرة للجدل..! وبزغ نجمه في الستينيات والسبعينيات الهجرية كأحد أهم الأسماء الأدبية والثقافية والإعلامية في مرحلة جيله..!
ولا شك أن انتقاله نظراً لطبيعة عمل والده بين أكثر من بيئة فمن الحجاز ونسمات بحرها إلى نجد وقسوة صحرائها..! والظروف الصعبة التي مرت بها طفولته كان لها الأثر الواضح في توجهه الثقافي والفكري والإنساني أيضاً..!
لا يكاد مطلعاً وقارئاً واعياً ومتابعاً جيداً لمسيرة الأدب السعودي الحديث أن يشيح بنظره عن تجربته الرائدة ومكانته المرموقة بين مثقفي وأدباء وشعراء المملكة..حتى لو علمنا أنه لم يصدر مؤلفاً واحداً يحفظ شتات إبداعاته المتناثرة بين مخطوطاته..كتبها بخطة الجميل وما يروي له بعض تلامذته وأصدقائه من أفكار ومواقف ورؤى ومشاهد أسهمت في تفعيل الحركة الفكرية والمشهد الثقافي السعودي، الذي وضع بصماته الواضحة على خارطة الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج.
وما حفظ له ضمن ما ينشره وقرأناه في الصحافة السعودية والخليجية سواء من دراسات نقدية أو تاريخية أو حتى في التراث الشعبي الأصيل، الذي كان من أهم ما يميز.. نور.. تمسكه الشديد به واستشهاده بالكثير من نوادر ونصوصه في معاركة الأدبية وحواراته الفكرية والثقافية!! فقد كان متميزاً حقاً في الجمع بين الجديد المعاصر والقديم الأصيل الثابت.
وبوجهة نظري..أنه يرحمه الله بغض النظر عن الفترة العصيبة التي مر بها إبان تشكل توجهاته الفكرية وخطه الثقافي وتبنيه بعضا من الآراء الحداثية التي أثرت سلباً في تقبل بعض المتلقين كتاباته..!
كما يواجهه غيرة من المفكرين والكتاب والروائيين السعوديين التي تباع إبداعاتهم سراً!! بل وتعد جريمة كبرى مجرد الاطلاع عليها أو التلميح لها عند بعض فئات المجتمع السعودي المحافظ! كان للتجاهل الكبير من قبل الإعلام السعودي الرسمي والمؤسسات الثقافية والأدبية لتبني نتاجه الأدبي والفكري وطباعته بحكم الرقابة الصارمة على مثل هذه المؤلفات خاصة ونحن نعلم أن المؤلفين والكتاب السعوديين الذين تحملوا نفقة الطباعة وجهداً مالياً ضخما لا يستطيع.. نور.. بحالته المالية تحملها..!
منعت مؤلفاتهم من التوزيع داخل السعودية.. ساعد هذا إضافة إلى تخلي رفاق دربه من الإعلاميين والصحفيين وكثيراً منهم تبوأوا مناصب قيادية في الإعلام السعودي المرئي والمقروء..! عن أديب بارع ومفكر وناقد بحجم عبد الله نور في عدوله أو قل عدم اكتراثه بتوثيق ما أنتجه من أدب وفكر وإبداع، ولكنه ظل حاضراً بقوة في ذاكرة المشهد الثقافي السعودي رغم هذا الغياب سواء كان مفتعلاً أو نتيجة لظروفه الحياتية ومزاجيته الحادة، فأثر بشكل ملموس في جيل الشعراء الحداثيين من تلاميذه الذين تركوه وحيداً!!
يتأمل الحياة بعمق شديد وفكر وضاء منير ويستلهم العبر والتجارب من ذاكرة مليئة بالأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية، فكان مقلا في السنوات الأخيرة!
شاء العزلة متفرداً في عالمة المليء بالإبداع وذاته الخلاقة كشخصية ثقافية نادرة تأنس لمجالستها ومحاورتها والنقاش معها! مستمتعاً بطرحة المتميز وأسلوبه الفريد وغزارة ثقافته وذاكرته المتقدة بالحيوية التي تمتزج بها روحه الأصيلة وتواضعه الجم وإنسانية النبيلة بوفاء وكرم لم تصبغه المصالح النفعية بمؤثراتها!
نور..!! ظاهرة ثقافية عربية لن تتكرر أحدثت جدلاً واسعاً وسجالاً حميماً ومعارك أدبية واضحة.. مليئة بالقضايا التي تمس وجدان الأمة وتاريخها ومراحل تطورها الثقافي وذلك في مختلف قضايا الأدب والفكر والثقافة التي كان له صولات وجولات إبان تسيده كشخصية ثقافية لا يمكن تجاهلها في مرحلة مهمة في تاريخ الأدب السعودي الحديث.
كان رحمه الله إعلامياً بارزاً وأديباً مبدعاً وشاعراً رائعاً رغم عدم نشره نصوصه الشعرية.. كان متذوقاً الشعر العربي الفصيح وحافظاً جيداً روائع النصوص العربية الخالدة التي تشكلت من خلالها الذائقة العربية الشعرية على مر العصور وأحدثت تأثيراً بالغاً في الوجدان العربي.. رغم هذا يحسب له تذوقه الأدب الشعبي والشعر الشعبي بحس ابن الجزيرة العربية ولم يتحرج من ذلك بل إنه صديق للعديد من الشعراء الشعبيين وكان يشيد بهم ويدافع عنهم أحيانا أخرى! حتى إنه في فترة ظهور الصحافة الشعبية استقطبته كأحد الأوائل من الأدباء السعوديين الذي لم يتحرج من الكتابة لها..! وإبداء الرأي في قضاياها..! واستطاع بثقافته واتساع مساحة الإبداع لديه أن يؤثر في توجيه صحافة قامت على الشللية وعلى إمكانات شعراء شعبيين يجهلون الأسس الإعلامية السليمة! تأثيراً إيجابياً محموداً رغم عدم اكتراثه لذلك.
فتح نافذة مشرعة لبعض الشعراء الشعبيين الشباب بأن يصلوا إلى المشهد الثقافي والتظاهرات الثقافية الوطنية بإيصال نتاجهم إلى ذائقة المثقف السعودي، وكذلك بتوجيهم أحيانا وبث روح الاطلاع الفكري والأدبي عندهم والاحتفاء بهم بين أواسط المثقفين العرب في المهرجانات الثقافية التي تقام محليا..!
لكن واجه عقوقا أيضا من هؤلاء وتجاهل رغم إشادتهم بأستاذيته في مجالسهم الخاصة..! ولا أدل على ذلك من أنه في السنوات الأخيرة لم ير حوله أحدا من هذه الأسماء التي تبوأت النجومية على مستوى الإعلام الشعبي والقصيدة النبطية..!
حتى في جنازته ومجلس عزائه التي خلت من الكثير من الوسط الثقافي والإعلاميين السعوديين..! ولم نقرأ لهذه اللحظة قصيدة رثاء في شخصه صاغها شاعر شعبي ولا بد هنا أن أشير إلى صاحب الأيادي البيضاء الشاعر الإنسان الأمير خالد الفيصل الذي احتضن أديبنا الكبير كثيراً وله مواقف غير معلنة يعرفها من حوله وكذلك صديق الإعلاميين والأدباء والمثقفين الأمير الإنسان سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض الذي كان يلجأ إليه المرحوم في كل ضائقة تعصف به ويحضر دائماً مجلسه العامر بالخير والحب والجمال..
تتلمذ أديبنا الراحل على أيدي علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر رحمه الله وكان يذكر بفخر ذلك مما جعله يهتم بعلم الأنساب والدراسات التاريخية
وأدب الرحلات مكتسباً على يد أحد أهم الرموز الثقافية السعودية شتى العلوم الاجتماعية والثقافية وحاضرا بما يرويه عن شيخه الجاسر حين يتطلب الحوار معارف ومعلومات دقيقة وموثقة ومحققة أيضا..ومتحدثاً لبقاً وصاحب خيال عامر ونحن اذ فقدناه فإننا نفقد أديبا مبدعا وانسانا مثقفا نبيلاً.
تعرفت على نور.. في سنواته الأخيرة قبل عشر سنوات خلت وكان لي شرف أن أهداني ذات مرة مخطوطا لاحد إبداعته الذي لا مجال للتعرض له هنا.. لكوني لست ناقداً بل قارئاً أعجبت بعمق وموضوعية الطرح الذي تناوله أحد مشاريعه الأدبية التي تجاوزت ما أعتقد العشرة بينها روايته الوحيدة التي أشاد بها غيري من الكتاب والمثقفين عندما سنحت الفرصة لهم بقراءتها!
وكان صاحب ثقافة واسعة، مزج فيها بين مخزون تراثي عريق، واطلاع مميز على الآداب الحديثة واشد ما أعجبني تعمقه الشديد في تراثنا الأصيل بصفتي أحد المهتمين بهذا الجانب وتقديره الكلمة والقصيدة الشعبية إذا كانت تحمل نفسا إبداعياً جميلاً وقدرته على نقدها نقداً بناء وذاكرته أيضاً التي تزخر بروائع القصائد الشعبية لفحول شعراء النبط، كان متميزاً في حواراته ونقاشاته وإبداء رأيه.. يحترم بثقة كبيرة وتواضع مهيب صغار وكبار الشعراء ويسمع لهم ويطرب أحيانا للمعاني الشعرية الجميلة والصور البلاغية التي تتضمن نصوصهم بكل شفافية وحميمية فاقت الأخيلة والوصف!
وإذا كنا نتذكر أنه من أوائل الذين قدموا الشعراء الحداثيين في المملكة فإننا يجب أن نتذكر أنه شمل أيضاً اهتمامه بشعراء شعبيين وكان له فضلاً عليهم كما جاء في معرض حديثنا سابقا.. وعبد الله نور عاش وحيداً ومات وحيداً وحزيناً..!
تلمح ذلك باقترابك من شخصيته المتواضعة وأسلوبه الحياتي في أواخر أيامه رحمة الله. تشتاق إلى الحديث معه ولكنك في لحظات قد لا تجده وتبحث عنه وتجهد من التعب و لا تدري أين ذهب..! وعندما يفاجئك بحضوره الإنساني قد لا تشعر أحيانا بأنك غبت عنه لفترة طويلة وأنه متغلغل في أعمق وجدانك وواقفاً شامخاً في ذاكرتك..! لما تكنه من وفاء وعرفان سواء على المستوى الإنساني أو الثقافي والفكري أو الأدبي.. متواضعاً بسيطاً خلوقاً ذا سجايا حميدة وطيبة تصل القلب فتحبه أخاً وصديقاً وأديباً وشاعراً نادرا ومتفوقا على عصره!
عبد الله نور ظاهرة أدبية تستحق الدراسة والتأمل والنظر..! وإنني أوجه رسالة صادقة إلى وزير الإعلام والثقافة الأستاذ إياد مدني لما عرف عنه من مواقف وطنية عظيمة وحبه بحس المواطن الغيور على هموم الأمة ورجال ثقافتها المبدعين بتكريم أديبنا المبدع عبدالله نور والعمل على توثيق وطباعة نتاجه الثقافي دون تأجيل وهذا اقل ما يستحق رحمه الله. وللأندية الأدبية في المملكة وخاصة نادي الرياض الأدبي بدراسة وتوجيه الباحثين ودعمهم للعمل على تدوين سيرته الأدبية والثقافية وملامحه الإنسانية وإقامة أمسية ثقافية يعد لها إعداداً جيداً ودعوة جميع المهتمين من أدباء وشعراء وإعلاميين للحديث كذلك عن تجربته الرائدة في مجال الأدب والفكر والثقافة..وأصدقاؤه من الشعراء والإعلاميين للمساعدة في جمع شتات أوراقه الزاخرة بالإبداع هنا وهناك..!
لا نملك إلا أن نسلم بإرادة الله سبحانه وندعو لأديبنا بالرحمة والمغفرة ولأهله وأحبابه بالصبر والسلوان..وأن يجعل ما قدمه خلال مسيرته الأدبية وحضوره الثقافي المشهود في ميزان حسناته..!
الفقد عظيم.. والجرح أليم
ولا شك أنه خسارة وطنية كبيرة..!
لتاريخه المضيء في سماء الثقافة العربية والمشهد الثقافي السعودي بوجه خاص..!
فنعزي أنفسنا قبل أن نعزي ذويه ومحبيه..
فإلى ذاكرة الوطن.. وسيرة الراحل الممطرة بالإبداع..
وفاء حرفي بإحساس صادق.. ومشاعر لا ترقى إلى قامة أدبية وثقافية أنارت سماء الشعر والجمال والحب..
عبدالله نور مرحوم يا رجل الثقافة والأشعار يالله عسى الجنة منازلك يا نور أمضيت عمرك ما تثاقلت مشوار في البحث والتأليف أهل الشعر جهبذ وبحار ولأهل الفكر مبدع ودكتور ولأهل العلم أعليت مقدار مجالسه بالرأي والنقد والشورى أبدعت في طرحك حداثي الأفكار وأثريت مشهدا للثقافة ودستورا أخذت تقديرك من صغار وكبار متواضع ما فيك كبر ولا غرور تفخر بك ديارك مع كل الأقطار وتبقى بذهن أجيال حاضر ومذكور يمتد فكرك بأيمن الدار ويسار في كل محفل خالد أعوام وشهور فقدك عظيم وغيبتك خسرت ديار أديب بارع نير الفكر مشهور أفنى حياته للوطن مخلص بار أدى الرسالة واضحة ما بها زور ألف وجدد وانتقد ماقد احتار في رأي واضح ما وطا قط محذور مرحوم يا مبدع وجهبذ ومغوار مرحوم يا وافي وبالخير مذكور نبكيك حزن امرار وامرار وامرار نبكيك جرح بأعمق الجوف محفور يا نور تعجز عن رثا نورك أشعار لكن عزانا سيرتك نور يا نور..!!
*رئيس تحرير مجلة نجوم القمة
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|