صدى الإبداع حمزة شحاتة (1909 - 1972) *د. سلطان سعد القحطاني
|
بين الثابت والمتحول
منذ أن عرف حمزة شحاتة الحياة، وهو يراوح بين الثبات والتحول،الثبات على مبادئه التي آمن بها، واتخذ من العظماء خير مثال عليها، وبين التحول في ظروف الحياة الحديثة ومستجداتها، وقد جلبت عليه هذه وتلك بعض المصاعب في الحياة، وفي أحيان كثيرة المصاعب برمتها. وإن كان ثباته على مبدأ لم يتحول عنه قد أراح ضميره في وقت من الأوقات، فإن آخر قد جلب إليه متاعب هو في غنى عنها، وفي كل الأحوال كان يحمل لباس الفلسفة بكامله، وليس لباس القناع الواقي في وقت من الأوقات، أو ما يسمى (الازدواجية) فقد نجد شخصية أبي العلاء المعري في تأملاته في الحياة، أو طموحات أبي الطيب التي لا تنتهي، أو تشاؤميات ابن الرومي من الناس والحياة، وبالرغم من هذا كله فلحمزة شحاتة شخصيته الخاصة، الواضحة المعالم، وإن جميع صفات من ذكرنا كلها أو بعضها، أو الكثير من ثقافات وفلسفات الشرق والغرب. إن الثابت في حياة وأدب حمزة شحاتة - من خلال هذه الدراسة السريعة، التي أرى أنها لن تفي بشيء من حقه، كأديب وشاعر وفيلسوف - لا يزيد على شيئين اثنين:
الأول، إيمانه بمبادئه والدفاع عنها، فهو لا يرضى بشيء ناقص في حياته، سواء أكان له أو لغيره، فقد قام بمساعدة الآخرين، الذين يجد فيهم النقص، فالنقص عنده طريق إلى الكمال، وما دام الإنسان يشعر بالنقص فسيصل إلى الكمال.
الثاني، المرأة، وللمرأة في حياة حمزة شحاتة وجهان: الأول وجه مشرق، والثاني وجه مظلم. فالوجه المشرق تلك المرأة التي غمرته بحبها وتقديرها ورعته طفلاً وأسبلت عليه من عطائها وحنانها، وهي في نظره المرأة الكاملة، أما الوجه الآخر للمرأة فهو ذلك الجنس الخائن الناكر للمعروف، الأناني، وهو مصدر كل التعاسة التي عاناها في كل ظروف حياته. هذان شيئان ثابتان في حياة حمزة شحاتة، وسنأتي إلى تفصيلهما، من خلال دراسة شعره ونثره. أما المتحول في حياته، فشيء واحد جعل منه قمة في التطور الفكري والسبك اللغوي البارع، ذلك التحول والتجديد في الحياة الفكرية والأدبية، قرأ القديم ولم يقف عند حدوده الماضية، بل طعمه بالجديد، وابتكر عليه نوعاً من الحداثة، ورأى أن الحياة في تجدد دائم فواكبها مع الحفاظ على معطياته القديمة (إن الحياة تكون جميلة رائعة بالتغيير والتجدد، ونحن نرى أن أصحاب الإدراكات الواسعة، والإحساس القوي والتذوق العميق، أكثر تغييراً وابتداعاً وأكثر ميلاً إلى التغيير والابتداع. وهذا تقليد لمجرى الحياة الصادقة) وبالرغم من تشدد مواقفه العلنية، إلا أنه انطلق منها بقوة إلى الجديد، فجدد في الأفكار والأخيلة، والمعاني، وكتب الشعر الحديث على التفعيلة وكان قادراً على مجاراة كبار أساطين هذا الفن، في العراق ولبنان، في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وقد تفوق عليهم في عدم الغموض الرمزي في الشعر العربي الحديث. وقبل الدخول في الحياة الأدبية نود الدخول إليها من خلال الحياة الاجتماعية، ولن نستطيع - بأية حال من الأحوال - التفصيل فيها في هذا البحث المحدود بعدد من الصفحات - وسنحاول الاختصار بما لا يخل بالفكرة العامة.
والمرأة في حياة حمزة شحاتة هي المحور الرئيس، وهي الهيكل العام بوجهيه (السالب والموجب)، وقد أكد الدكتور عبدالله الغذامي في دراسته للنموذج، في (الخطيئة والتكفير) ست نساء في حياة حمزة شحاتة، وقابلهن، ثلاثاً بثلاث، لتصبح النتيجة (صفر) ثم ألحقهن بخمس بنات، هن صلب شحاتة، الذي ورث الجنس النسائي السائد في عائلته، فأبوه (شحاتة) لم يكن له إخوة ذكور، وقد جاء من نسج الأسطورة والخرافة السائدة في ذلك الزمان، على النمط الشعبي (شحاتة) والتاء مبدلة عن الذال، والأصل (شحاذة) أي القوة التي تحمي الإنسان من الحسد، ومنها (يشحذهم) أي يطردهم، وكذلك شحذ الرجل السيف، جعله حاداً، وأصل الفعل (شحذ) يتغير في الأعراف الشعبية، ما بين (شحذ، وشحد) أي بمعنى (استجدى) الآخرين، وشحاتة أخذ من الفعل (شحاذة = شحادة = شحاتة)، بمعنى الطلب، فانقلبت الذال إلى دال، ثم انقلبت الدال إلى تاء، والسبب ثقل النطق إذا وجدت الدال قبل التاء مباشرة. وهذه الخرافة من عصور التخلف الفكري تعبير عن طرد الأرواح الشريرة، التي تقتل الأطفال، أو تقصر النسل على نوع معين، مثل البنات... والنساء الثلاث (الموجبات) في حياة حمزة شحاتة، اللائي ذكرهن الدكتور الغذامي برواية السيدة شيرين شحاتة، هن: أمه، وهو الابن الأصغر بين إخوته، وكانت تحبه حباً جماً، حتى أنه عندما سجن في قضية سياسية، بكته حتى فقدت نظرها، ولما خرج بريئاً من التهمة عاد للأم بصرها. ويعلق الدكتور الغذامي على ذلك مقارناً حب أمه له بحب يعقوب، الذي أبصر بمجرد رؤية ابنه يوسف، أما المرأة الثانية: فكانت سيدة من آل جمجوم، رعته وحنت عليه كثيراً عندما انتقل من مكة إلى جدة للدراسة في مدارس الفلاح. والثالثة: أخته خديجة، التي ضحت بشبابها في سبيل رعايته ورعاية بناته، حتى توفاها الله إلى جواره، وقد تركت في نفسه أثراً وجرحاً عميقاً لم ينسه، زاد من صمته صمتاً رهيباً، اعتزل فيه الناس لقرابة عام.
تلك ثلاث نسوة في حياة حمزة شحاتة، كان لهن الدور الإيجابي، لم يمكنه الزمن من التمتع بحياتهن، وفي مقابل ذلك ثلاث نساء على النقيض، هن زوجاته الثلاث، لاقى منهن الويل والثبور، وحولن صورة المرأة عنده إلى جسد فقط، ونزوة شهوانية طائشة في ليل بهيم، شبهها بنشوة السكر التي يفيق صاحبها على الندم. ولم يستمر على تلك العلاقة حيث أنهاها بالطلاق المتتالي للثلاث، وها هو يقول: (الزواج الأول غلطة، والثاني حماقة، والثالث انتحار) وبقي يرعى بناته لعل فيهن من تعوض صبره خيراً، فكانت أمنيته الأولى أن يجد منهن طبيبات يوجد لهن مستشفى لعلاج الفقراء والمعوزين، بلا رسوم، أما الأغنياء فيأخذ منهم رسوم العلاج للصرف منها على العيادات، لكن أمله خاب - كعادته في الناس - فلم يصبح منهن إلا طبيبة واحدة.
كانت المرأة في حياة حمزة شحاتة كل شيء، وقد أوجدها في ثنائيات متناقضة، فهي الصديق - العدو، وهي الوفي - الخائن، وهي الصادق - الكاذب، وهي الضعيف - القوي.
إنه يراها كالدنيا (يوم لك ويوم عليك) وقد صور هذا الوضع في معظم قصائده، ووضعها في معادلات ليس فيها تكلف الواعظين وسطحيتهم، فيقول:
(فلم يصحب الدنيا طويلاً على المنى
سعيد، ولا أفنى الجديدين مصعبُ
وما زالت الأيام تقبل تارة
وتدبر، والدنيا تجد وتلعب
فهذا خصيب كان بالأمس مجدباً
وما يتقى في يومه الجدب مخصب)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|